شريعة الغاب في السياسة الخارجية الأميركية!

أسامة العرب

يقول الكولونيل أندرو جيه باسيفيتش في كتابه «حرب أميركا من أجل الشرق الأوسط الكبير»، والصادر عن دار نشر راندوم هاوس، إنّ فكرة إعادة ترتيب العالم كانت تستحوذ على عقول صانعي القرار الأميركي، ولكنهم مؤخراً لم يعودوا يطيقون أن يشهدوا المزيد من الخسائر التي مُني بها جيشهم في المنطقة، ولا سيما الخسائر البشرية. مؤكداً أنّ فشل السياسة الأميركية هو ما أدّى إلى ولادة مظاهر من العنف الدموي المخيف على شكل «إرهاب متطرف»، كما لم تقم أميركا سوى بترك عدد من الدول الفاشلة و«حالة واسعة من التدمير والرعب والموت» وراءها. ومن ثم يتساءل الكاتب مستغرباً عن السبب الذي يدفع أميركا للاستمرار في حروبها وفي دفع الخسائر، لا سيما بعدما تأكدت من عجزها عن كسب المعارك؟

أما اليوم، ففي الوقت الذي يقترب فيه موعد رحيل أوباما، تاركاً العالم يعيش أزمات مخيفة، ساهمت سياسته الفاشلة وسياسات سلفه الإجرامية في خلقها وفي تصاعد وتيرتها، خصوصاً في الشرق الأوسط، حيث أزمات سورية، العراق، ليبيا، اليمن، بعدما توسّع انتشار الإرهاب التكفيري فيها، وما يمثله من خطر على السلم والأمن الدوليين. فإننا نتساءل عن المتغيّرات الدولية والإقليمية التي سوف يحملها معه الرئيس الخامس والأربعين لـ«الويلات» المتحدة الأميركية مستقبلاً، حيث من المقرّر إجراء الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني المقبل، وعلى أن يتسلّم الرئيس الجديد مهام منصبه في كانون الثاني من العام 2017.

ونحن إذ نعي بأنّ السياسة الخارجية الأميركية لها ثوابت لا يمكن أن ترتبط بشخصية الرئيس أو بالحزب الذي ينتمي إليه، وبأنّ قاسمها المشترك هو تحقيق مزيد من التمدّد والنفوذ، والاستيلاء على حقوق الشعوب المستضعفة، دونما اكتراث بالمواثيق أو العهود الدولية. وإذ نعي أيضاً، بأنّ المساعدات التي تقدّمها «الويلات» المتحدة الأميركية لـ«إسرائيل»، تذهب باتجاه تمويل أنظمة هذه الأخيرة الإجرامية، ناهيك عن استخدامها لها في إرهاب أبناء شعبنا في فلسطين ولبنان وسورية، من خلال حروبها الصهيونية الشعواء عليها. عدا عن الأموال التي تذهب لبناء المشروعات الاستيطانية التوسعية الجديدة، والتي تمهّد شيئاً فشيئاً لقضم وتهويد المزيد من الأراضي العربية والإسلامية المجاورة.

لكننا لا نستطيع إلا أن نبدي استغرابنا من نقض أميركا لمواثيقها، فها هو الاتفاق النووي المبرم مؤخراً مع إيران على سبيل المثال، قد تحوّل إلى أحد أبرز الملفات الحاضرة في سباق الرئاسة الأميركية. وفي حين أنّ الديمقراطيين يؤيدون هذا الاتفاق، فإنّ الجمهوريين يريدون أن يجعلوا الملف يعود إلى المربع الأول، خاصة بعدما أعلن حزبهم عن رفضه للاتفاق وعن نيته بالانسحاب منه، وكأنّ شيئاً لم يكن.

وقد كان لافتاً فعلاً تهديد السناتور الأميركي، حاكم ولاية تكساس، تيد كروز، بالتخلّي عن خطة العمل الشاملة المشتركة للاتفاق النووي الإيراني في أول يوم له في منصبه إذا انتخب رئيساً للولايات المتحدة. وكذلك تهديد رجل الأعمال الثري دونالد ترامب أيضاً، قائلاً بأنه سوف يدير هذا الاتفاق بشكل صارم جداً. فيما صرّح عضو مجلس الشيوخ الجمهوري، ماركو روبيو، مهدّداً بأنه لن يسمح تحت أيّ ظرف لإيران بالسير قدماً بالاتفاق النووي، دون أن يحدّد إجراءاته.

ولكن على ما يبدو فإنّ الولايات المتحدة عاجزةٌ كلياً عن إلغاء الاتفاق، لأنها ترى أنّ من مصلحتها التخفيف من أعباء أدوارها في الشرق الأوسط تمهيداً لتركيز اهتمامها على منطقتي شرق آسيا وجنوب شرق آسيا، حيث باتت الصين تهدّد مصالحها هنالك.

ولذلك، فإنّ مسعاها المستقبلي يتجه إلى تأسيس حلف لخصوم إيران، والذي تنضمّ إليه مؤخراً تركيا وباكستان، بغية خلق نوع من التوازن معها، وبشكل يمنع إيران من التفرّد بالتحكم في مصير المنطقة وفقاً للتصريحات الصادرة عنها. ولضمان دوام التحكم الأميركي عن بُعد بمفاصل الشرق الأوسط برمّته.

من هنا، فإنّ أميركا سوف تقف مستقبلاً وبشدّة ضدّ سيطرة حلفاء إيران على مضيق باب المندب بغية منعهم من التحكم بكامل خطوط النفط، لا سيما أنّ إيران تسيطر أصلاً على مضيق هرمز، كما تقول «الويلات» المتحدة.

إنما تبقى عقدة أميركا الحالية، بأنّ الخلافات الداخلية القائمة بين حلفاء خصوم إيران ما تزال قائمة، وبقوة، وهي تنبئ بإمكانية انهيار حلفهم هذا في أيّ وقت، خصوصاً أنّ خطر الإرهاب التكفيري يتهدّدهم، كما أنّ الجميع بات يخشى من تمدّده إلى داخل دولهم.

وبالتالي، فمن الصعّب تصوّر مستقبل الصراعات في الشرق الأوسط خلال الأعوام اللاحقة، لا سيما بسبب اللايَقين الدائر حالياً حول ماهية الاتفاقيات السرية القائمة بين الدول الكبرى، والمتعلقة بترسيم حدود مصالحها الجيوسياسية في المنطقة. ولكن الصلة الأساسية بين هؤلاء تبقى وبدون أدنى شك، الحفاظ على ديمومة المشروع الصهيوني، والذي أصبح التحالف معه استراتيجياً بفعل القوّة الاقتصادية للوبياته المنتشرة دولياً.

من جهة أخرى فإنّ كلّ ما نسمعه عن قرارات تصدر عن مجلس الأمن، كتمسك هذا الأخير مؤخراً بالقرار الرقم 497 المتعلق بالجولان المحتلّ. وتمسكه أيضاً بالقرارات السابقة الرقم 242 لعام 1967 والرقم 338 لعام 1973. إنما كلّها تُعتبر حبراً على ورق، حيث لا توجد أيّ آلية دولية تضمن تنفيذ هذه القرارات، ما لم ترافقها رغبة أو مصلحة من قبل الدول العظمى، لا سيما «الويلات» المتحدة الأميركية.

ومن هذا المنطلق، فلا نغالي إنْ قلنا بأنّ ما يحكم السياسة الدولية، هو قاعدة الحق للقوة فقط، خصوصاً أنّ الدول الاستعمارية تتلطى دوماً وراء شعارات زائفة لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة تهدف، وبدون أدنى شكّ، إلى هتك مبادئ العدالة والإنصاف وحقوق الإنسان في المجتمعات الأضعف منها. ونحن لا نستغرب أبداً سياسة الازدواجية في المعايير المعتمدة على الساحة الدولية، إذ إنها أمر تعوّدنا عليه منذ أمد بعيد.

ولكن يبقى من حقنا أن نسأل الرأي العام الإقليمي والدولي عن سبب انجراره دوماً وراء الأباطيل والأكاذيب الإعلامية التي يسوّقها الغرب، ودونما أيّ تفكير أو تحليل بالأمر: فلماذا يحق مثلاً بأن تحتكر الدول العظمى صناعة الأسلحة النووية، لا سيما أميركا وبريطانيا وفرنسا و«إسرائيل»، فيما يعتبر اقتناؤها من قبل الدول الأضعف منها تهديداً للسلام وللأمن الدوليين؟ كما لم تتورّع أميركا عن استخدام أسلحتها النووية في اليابان مرتين قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية؟ ولماذا لا يُعتبر الدعم المالي السنوي الأميركي، والذي يقدّم على شكل كفالات وتبرّعات للكيان الصهيوني، تمويلاً للإرهاب؟ لا سيما أنّ صانعي القرار الأميركي يعلمون بأنّ تلك المبالغ تخصص لإقامة المزيد من المستوطنات على أراضي الغير في فلسطين وسورية ولبنان، ولشراء أسلحة حربية متطورة يتمّ استخدامها في حروب «إسرائيل» العدوانية علينا؟ ولماذا لا يحق للدول الأضعف بأن تحاكم الإدارة الأميركية قضائياً لتكبيدها التعويضات المالية لورثة ضحاياها، كالضحايا اليابانيين والعرب على سبيل المثال؟

وأخيراً، فما دامت السياسة الدولية تنتهج نهج شريعة الغاب، فتقسم أراضينا كما تشاء، وتؤسّس دولاً وتُلغي دولاً كما تشاء، وتصادر خيراتها ومواردها كما تشاء، متذرّعة بحجج واهية لا تمت للحقيقة بصلة، ودونما الأخذ بعين الاعتبار بحق الشعوب بتقرير مصيرها بنفسها، فإننا لن نتحرّر أبداً إلا بكفاح ونضال وتضحيات المقاومات الشعبية الباسلة. فانتفضوا أيها المقاومون الأبطال الأشاوس لمواجهة أعدائكم، فـ»إن ينصركم الله فلا غالب لكم».

محام، نائب رئيس

الصندوق الوطني للمهجَّرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى