أسئلة مباغتة في خواء الوقت عـبر نصف قرن

ماذا لو عاد بنا الزمن إلى الوراء لنصف قرن فقط؟

للوهلة الأولى، وأنا أفتتح مزاد الحكي، لمحت وجهي في المرآة، وجدت وكأني لا أعرفني، ولربما عن سابق قصد حاولت استشفاف الأمر علّني أتلمس بعض الأجوبة. وجدتني أغرق مجدّداً في أسئلة وجهي المستهجن.

ـ ماذا تقصد بأن يعود الزمن إلى الوراء نصف قرن؟!

يردّ صدى السؤال ارتجالاً:

ـ لا بدّ أنك تهذي، هل تعرف ماذا يعني هذا الكلام؟ اتّق الله يا رجل… نصف قرن مرة واحدة؟

ـ لا اللي شايفه إنه صاحبنا بدّو يفقس علينا السكرة؟

ـــ ما الذي حصل، تساءلت؟

هو سؤال داهم مخيلتي ولا أعتقد أن سؤالاً كهذا يستدعي كل هذه الجلبة.

عبرت برهة صمت بهو الغرفة، فلا أنا استطعت النظر لمرة ثانية في المرآة ولست مستعداً لمناكفة مع رجع الكلام العابر بيني وبيني.

أذكر ذلك الرجل صاحب الدراجة النارية روسية الصنع، والتي تشبه حصاناً مهجّناً، عندما توقف أمام منزلنا في البلدة النائية، كان على عجلة من أمره حين طلب مني أن أنادي شخصاً أكبر منّي سناً لأمر مهمّ. وبالفعل، خرجت أختي لتستطلع الأمر، فما كان من الضيف إلا أن بادرها السؤال: أنت انتصار؟

دلف يده في عبّه وأخرج لفافة صغيرة، ناولها إلى انتصار قائلاً: أمس وصلت من بيروت وهذه اللفافة فيها رسالة وشريط كاسيت من أخيك، كنّا نعمل معاً هناك.

بصراحة، لا أدري ما الذي ذكرني بهذه الواقعة، وقد يتبادر إلى أذهانكم هذا السؤال أيضاً وما الغريب في الحكاية، لتقحمنا بشيء لا صلة لنا به، سوى أنك تعطلنا عن أشغالنا وتهدر وقتنا الثمين؟

لا ألومكم بالطبع، أنتم محقون كل الحق، فليس لكم في القصة «لا ناقة ولا جمل». أظنّ تماماً أنني ارتكبت خطأً فادحاً حين أقحمتكم في هذه المماحكة التي لا مبرّر لافتعالها دونما سبب.

لا أعرف كيف عرفت زوجة عمّي «أم غني» أن رجلاً ما أوصل لنا رسالة من بيروت. داهمت منزلنا ذا الأبواب المشرعة من دون سلام:

ـ «يمّا انتصار وين ضيفكم، ترك لي شي من غني، جاب لك سيرة عنّه، الله يسامحك شلون تتركوه يروح من غير ما شوفه؟».

كانت انتصار تحاول مقاطعتها لتجيب عن بعض أسئلتها، لكن هيهات.

ـ «وين الرسالة، هاتي أشوفها، بس رسالة أعطاكي؟».

دونما كلام، رمت انتصار اللفافة بيد زوجة عمّي، والتي بدأت تتصفّح الورقة المطوية ذات الرسوم الملوّنة مثل إطار صورة، لتعاود أسئلتها من جديد.

ـ «شو مكتوب يمّا، الله يلعن العلام، والله العلام يرفع البني آدم من رتبة حمار لإنسان، وين أبوكم؟».

ردّت أختي: «اليوم ختمة ابن أبو محمود اللي غرق بالبحيرة، من الصبح راح».

ـ «الله يصبّر قلب أمّه يا بنيتي، شبّ متل الوردة، هالبحيرة أخذت وردات شبابنا».

كانت تضع يدها فوق خدّها الأحمر وتمسك ذقنها، عرفت حينذاك أنّ زوجة عمّي تفكّر بحلّ ما لتحلّ اللغز، وأيقنت تماماً أنّ الأمر سيكون على عاتقي، حين سدّدت نظرها نحوي:

ـ «ما في غيرك، أركض عَ المختار ما تجي إلا إيدك بيده، يالله سبعي، مثل الطير».

لم يكن بيت المختار بعيداً عن منزلنا. لكنّني كنت أمقت هذا الرجل كثيراً. ذات مرّة، اشتريت منه علبة سجائر، وقد أرسلني الأخ الأكبر لصديقي سالم لابتياعها من دكانه ذات الرائحة النتنة، فلم يمرّ من الوقت أكثر من ساعة حتى علمت أن والدي فتّش كلّ مفازات القرية بحثاً عنّي، وحين عدت من اللعب، ومن دون سابق كلام، استلّ أبي «عقاله» من فوق رأسه وبدأ ضربي إلى أن خارت قواه وسقطتُ أنا من الوجع. وبعد تدخّل أحد الجيران والوقوف على سبب هذه الحفلة القاتلة، تبيّن أن المختار هو من افتعل الحكاية، ووشى بي بأنني بدأت التدخين. ولم تنته الحكاية وثورة أبي الثائرة إلا بعد حضور «سالم» الذي رفع عنّي التهمة، فانتهت المسألة بيُسر من طرف والدي بالقول: «الله يلعنك يا شيطان الرجيم».

لا أخفيكم وأنا أتحسّس لمسات أبي على جلدي كنت أردّد في سري: «الله يلعنك يا مختار الرجيم!».

أطلقت العنان لرجليّ كفارس اعتلى فرساً من بنات الريح ركضاً نحو منزل المختار، الذي وجدت دكّانه مقفلةً. وبعد تحقيق شامل من زوجته التي تودّ معرفة سبب استدعائه إلى منزلنا، وعندما تبيّنت تفاصيل القصّة، أخبرتني أنه ذهب إلى المدينة ليشتري بضاعة جديدة للدكان. عندئذٍ عدت أدراجي خائباً.

وجدت المنزل مكتظّاً على غير العادة بالنسوة والأطفال، فقد وصلت زوجة ابن عمّي «غني» وأولادها بعدما علموا أن رسالةً وصلت من بيروت، لكن المفارقة أنني وجدتها تتشاجر مع حماتها، بحجة أنها لم تخبرها بالأمر.

من جديد، تم تكليفي بالذهاب إلى بيت «الملا» وهو شيخ القرية ومفتيها ومرجعيتها في السرّاء والضرّاء. وقد عرفت منذ سنوات أنه لم يكن مسلماً بل كان يهودياً وامتهن المشيخة لكسب الرزق والتسلّط. جاء من بلاد لا أحد يعرفها ولا كيف اختفى فجأة، ما جعل قصصاً كثيرة تظهر بعد غيابه.

وكما المختار خارج البلدة، فقد ذهب «الملا» مع والدي لأجل العزاء. ففي اليوم الأخير من كلّ عزاء تكون هناك وليمة دسمة، وفرصة لـ«الملا» أن يطلق خطبته الرنّانة التي تنتهي بصلاة جامعة ثم غداء مفتخر.

استنفرت البلدة كلّها، لأن جلّ شبابها يعملون في بيروت. وقبل المغيب وصل المختار الذي كان متعباً، ما حدا بالجمع الذهاب إلى الدكان، فكانت فرصة أن يعرض بضاعته الجديدة. بعدما قرأ الرسالة التي بدأت بالتحيات وانتهت بها دونما ذكر أيّ أسماء ليصار إلى التعويل على شريط الكاسيت، حيث الصدمة والخيبة ارتسمت على وجوه الجميع عندما علمنا أن المختار لم يجلب معه بطاريات لأجل تشغيل آلة التسجيل.

لعلّ الحكاية تنتهي هنا، لا لأن علائقها قد انتهت، بالمطلق هناك تفاصيل أغفلتها عمداً حرصاً على عدم افتعال مشاجرة جديدة بين زوجة ابن عمي وحماتها، لأن الأولى ادّعت أن حماتها كانت تريد استحواذ ما أرسله «غني» من دون مشاركتها وأولادها.

ولست في موقف يبرّر الآن كل ما تقدّم، فكلّ ما في الأمر أن خدمة «الإنترنت» قد انقطعت عن هاتفي لنصف ساعة، لا لنصف قرن لا أكثر!

طلال مرتضى

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى