عندما يصطدم الأمن القومي الروسي بالأمن القومي التركي

شارل أبي نادر

قد تكون العبارة الأكثر تعبيراً عن أسباب التوتر الواسع بين روسيا وتركيا هي تلك التي نطق بها أردوغان رداً على الاتهامات الروسية بأنّ تركيا هي طرف أساسي في تقوية النزاع بين أذربيجان وأرمينيا عندما قال بالتحديد: «إذا كنا سنبحث عن طرف في هذا النزاع فسنجد أنّ روسيا أهمّ طرف، مثلما كانت طرفاً في نزاعات جورجيا وأوكرانيا والآن في سورية»، وتابع «السلطان»: «تقولين يا موسكو إنّ دمشق استدعتكِ، لا داعي لخداع أحد فأنت غير ملزمة بالذهاب الى ايّ مكان تتمّ دعوتك اليه».

جغرافياً، ما يجمع هذه الدول التي ذكرها الرئيس التركي في عبارته اللدودة الى روسيا، والتي هي أذربيجان وأرمينيا وجورجيا وأوكرانيا وسورية أنها دول حدودية مع تركيا، حيث تكون أوكرانيا الوحيدة من تلك الدول التي لا تملك حدوداً مشتركة مباشرة مع تركيا، ولكنها تقع مباشرة على الضفة الشمالية للبحر الأسود الجامع للحدود الروسية والتركية والأوكرانية ولشبه جزيرة القرم، حيث للأخيرة دور مهمّ في زيادة تراكم التوتر التركي الروسي.

ربما أصاب أردوغان إلى حدّ كبير في عبارته أعلاه حول التدخل الروسي في تلك الدول على خلفية دعوته من قبل حكوماتها، ولكن ما لم يذكره أردوغان هو أنّ أغلب التوترات والمشاكل والحروب داخل تلك الدول هي من صنيعة ورعاية حكومته وسياسة دولته عبر التاريخ، وذلك من خلال دعم أطراف وتسليحها وتحريضها ضدّ أخرى، او من خلال دفع حكومات منها ضدّ أخرى أو ضدّ أطراف داخلية في دول منها، وما لم يتطرّق إليه أو ما تعامى عنه «السلطان» أيضاً هو انّ ما يجمع السلطنة مع أغلب شعوب وقوميات تلك الدول هو علاقة دموية خلقتها تركيا وفرضتها من خلال ممارسة أقسى مظاهر العنف والإجرام ضدّ هذه الشعوب والقوميات، التي لا يخلو تاريخ إحداها من مجازر مروّعة ارتكبها العثمانيون عبر التاريخ البعيد والقريب في تلك الدول.

من ناحية أخرى، يعرف أردوغان جيداً ما معنى الأمن القومي لدولة ما، ويعلم جيداً أيضاً أنّ دولته كانت تاريخياً، ولا تزال حاضراً صاحبة دور أساسي في تهديد الأمن القومي الروسي الذي يقوم على ثلاثة أقانيم أساسية هي: توازن الاقتصاد الذي يحققه تصدير طاقتها من الغاز والنفط وغيرها، والمناعة الاستراتيجية حيث تلعب القواعد العسكرية الروسية على البحر الأسود في القرم وعلى المتوسط في سورية، دوراً أساسياً في تقوية هذه المناعة، وثالث هذه الأقانيم هو السلام والهدوء، حيث لصراع القوميات والثقافات والحضارات المتعدّدة التي تزنّر الحدود الروسية دور أساسي في تقويض أو في تدعيم هذا الأمن المبني على السلام والهدوء.

من هنا، كيف ستسمح روسيا لمن سيحاول ضرب او خنق ما تعتبره الرئة التي تتنفّس منها في حديقتها الخلفية جنوباً في أرمينيا وأذربيجان وجورجيا وداغستان والشيشان، حيث المدى الحيوي الاستراتيجي لاقتصادها ولتصدير غازها وطاقتها الى الشرق الأوسط جنوباً، ومنه إلى أوروبا او إلى أفريقيا عبر العراق فسورية فالمتوسط، او الى أوروبا مباشرة عبر القرم على تخوم أوكرانيا فالبحر الأسود غرباً؟

أيضاً، مَن يصدّق أنّ روسيا ستقف مكتوفة الأيدي أمام ما يهدّد أمنها القومي من خلال محاولات ومؤامرات مشبوهة، للعبث في حديقتها الخلفية هذه على حدودها الجنوبية حيث الارتباط الديني والقومي مع تركيا، وحيث للأخيرة تأثير واضح في إثارة الفتن والاضطرابات الأمنية والطائفية والتي تأخذ من الاهتمام والجهد السياسي والأمني والعسكري الروسي الكثير لضبطها وحصرها وعدم تمدّدها نحو دول الاتحاد السوفياتي السابق الأخرى أو نحو الداخل الروسي؟

طبعاً، تتفهّم تركيا أردوغان العدالة والتنمية كلّ هذه الهواجس والمحرّمات والأهداف الاستراتيجية والقومية الروسية، ولكن ما لم تستطع أن تهضمه بتاتاً هو أن تكتشف الدور الروسي الفاعل والمحرك الأساس لدعم وتثبيت وتقوية الإقليم الكردي الذي بدا ينمو ويتشكّل على كامل الحدود التركية الجنوبية ما بين العراق وامتداداً مع سورية، والذي سوف يشكل ضربة قاضية للأمن القومي التركي لما لذلك من مضاعفات تقيّد تأثيرها الناشط على محيطها جنوباً، وتحرك أيضاً داخلها حيث الصراع الدموي التاريخي مع عشرات ملايين الأكراد «الاتراك»، والذين لن يهدأوا ولن يستكينوا إلا بعد أن ينتزعوا من «العدالة والتنمية» كلّ ما يعتبرونه حقاً مقدّساً لقوميتهم ولحضارتهم ولتاريخهم.

وأخيراً… ربما ستتوصل الامبراطورية والسلطنة الى تفاهم معيّن على حصر أهداف ومتطلبات أمنيهما القوميين بحدود تمنع الانفجار حاضراً، وذلك نظراً إلى تشابك وتداخل مصالح الاثنتين التي ستصبح مهدّدة فيما لو أخذت كلّ منها او حاولت أن تأخذ المدى الطبيعي لها، ولكن، واستناداً الى التاريخ والى الجغرافيا لن يتحقق أمن إحداها القومي بطريقة كاملة وصحيحة ومضمونة دون أن يهتزّ الأمن القومي للأخرى، وهذا ما سيكون دائماً شرارة وأساساً لنزاع ولصراع لن يستطيع أحد منعه او تأخيره وإبعاده، ولن يستطيع أحد لاحقاً ضبطه في حال فلت من عقاله، خصوصاً أنّ هناك دولة كبرى في الغرب البعيد، تراقب ما يجري وتلعب على تناقضات ما يحدث، وتعتبر أيضاً أنّ حدود أمنها القومي هي بعيدة جداً وواسعة لدرجة تطال العالم كلّه وامتداداً خارجه الى المريخ ربما.

عميد متقاعد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى