محمد خير الجرّاح لـ«البناء»: تثبيت الذاكرة من أدوات المقاومة ضدّ من يحاول إلغاء ملامح هويّتنا

دمشق ـ آمنة ملحم

كان من المتوقع مسبقاً أن يكون ختام مهرجان «كاريكاتور لإحياء المونولوج والأغاني الناقدة الاجتماعية» مسكاً وعنبراً فواحاً، أعاد إلى الذاكرة انتعاشها مع أغانٍ حملت عبق الماضي. فكانت خير معبّر عن ألم الحاضر، مع الفنان المبدع محمد خير الجرّاح، الذي لم تخيبه أدواته الفنية يوماً، فكان على الدوام صاحب الأدوار اللافتة والكاركترات المميّزة التي تحفر مكاناً من الصعب نسيانه في الذاكرة. فطوّع أدواته تلك بحرفية ودقة، ليحْيي مع أخيه عمر الجرّاح شخصية فنية عظيمة مثّلت وغنّت وأخرجت بكلّ نجاح، وأسّست مدرسة عريقة في الفنّ بمسيرة كفاح لم يكن همّها شهرة أو مالاً، بل كان الاسم هو فقط الرأسمال الأكبر لوالده الفنان عبد الوهاب الجرّاح.

قدّم الأخوان محمد وعمر الحفل بطريقة أقرب إلى عروض الـ«شوو» المسرحية، فكان عرضهما الأنضج من بين عروض المهرجان التي استمرت على مدار أربعة أيّام، حيث سبق كلّ أغنية مقطع مقدّم لها بكلام ممزوج بالضحكة الهادفة المعبّرة عن روح الأغنية وهدفها. فكانت أغاني «الليلة عنّا حكاية»، و«شي بضحّك شي ببكّي»، و«جوخ جوخ»، مع باقة من أغنيات الراحل عبد الوهاب الجرّاح، زجّ «أبو بدر» بينها أغنيتين له وفق فنّ المونولوج، فكانت أغنية «دفّش دفّش» التي حصدت تفاعلاً كبيراً مع الجمهور، لا سيما مع عبارات أقحمها الجرّاح فيها من شخصياته الدرامية التي لطالما اشتهر بها، فكان لكل من «قدري» مسلسل «صبايا»، و«أبو بدر» في «باب الحارة»، و«جوهر» في «الخربة» نصيب فيها كلّ باللهجة التي يحملها. وأغنية «متضايق» ليكون ختام الحفل مع أغنية لحلب الجريحة:

أمّ المداين يا شهبا

فيك الحناين يا شهبا

رجالك تفديكِ

رواحها تعطيكِ

محمد خير الجرّاح قدّم حفلاً مشغولاً بروحه لروح والده، الذي استمدّ الفنّ منه منذ طفولته الأولى. وكانت لـ«البناء» وقفة معه، إذ لفت إلى أنّ أغاني الحفل تعود إلى سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، ولكن لو استطلعنا الزمن اليوم لوجدنا أنها ملائمة لزماننا بشكل كبير.

وعن العرض وفنّ المونولوج، لفت الجرّاح إلى أنه فنّ قائم على التقاط صورة، وصفّ الكلام حولها. ولكنه فضّل في الحفل أن يتّجه نحو الـ«شوو» المسرحي أكثر من مجرّد طرح كلام موزون بالمغنى والايقاع. وما يميّز الأغاني المقدّمة، تحميلها معانٍ هامة وهادفة بالأداء، سواء بقول الجملة أو بشكل الطرح، ولكنه افتقد الكثير من الأدوات الداعمة له بسبب الإمكانيات الضحلة التي وضعتها وزارة الثقافة للمهرجان.

وتابع بلهجة المعاتب والمتأسف على حال المهرجان الذي ينقصه برأيه الجدّية الصارمة الحقيقية، لا أن يكون مجرّد رقم من الأرقام التي تضاف إلى سجلات المؤسسات الحكومية من دون أن تحظى بالاهتمام اللازم لها، فمهرجان يحيي في الذاكرة أسماء فنية تاريخية عظيمة، لا يجوز أن يمرّ مرور الكرام. لا سيما في ظلّ الظرف الصعب الذي تعيشه البلاد والتي هي أحوج ما تكون إلى تثبيت الذاكرة التي تشكّل أداة من أدوات المقاومة. فبها نقاوم الآخر الذي يحاول إلغاء ملامحنا وهويتنا. لذا، كان من الجدير بالقائمين على المهرجان أن يحمّلوه المزيد من الاهتمام بما يعود بالنفع على البلد والثقافة.

ولم يُخفِ الجراح أنّ الدافع الأكبر لخوضه غمار هذا المهرجان، محاولته تثبيت الذاكرة أو إعادة إحيائها في ذاكرة الناس وذاكرته هو، من خلال الاضاءة على شخصية فنية عظيمة لم تجد من يسلّط الضوء عليها كما تستحقّ. لهذا، كانت مشاركته. ولكنّه حزين على الطريقة التي قدّم بها المهرجان، لا سيما مع غياب الشخصيات الثقافية عن حضوره وكذلك غياب الإعلان اللازم له، كي يحقق الغاية المنشودة منه.

وأعرب الجراح عن خوفه على الأغاني الناقدة التي لا مساحة لها. هي وفنّ المونولوج، ليعبّر الفنانون عن أنفسهم حتى في التلفزيون. منوّهاً بتقديمه أغنيتين من المونولوج إلى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ولكن لجنة الاستماع قابلتهما بالرفض بذريعة الكلام غير المناسب، ولكنه يؤكد أن الأغنيتين تسلطان الضوء على ظواهر سلبية بحاجة إلى العلاج.

وختم الجراح حديثه إلى «البناء» قائلاً: نحن بحاجة إلى كل شيء حقيقي، ونحن ضدّ كل شيء كاذب، وضدّ المراوغة. ونحن نحمل مسؤولية بفنّنا ومؤمنون برسالتنا، وكان صوتنا في الحفل عالياً، وتكلّمنا عن المراوغة و«تمسيح الجوخ»، ونبراسنا في هذا النقد الهادف دائماً السياسة التي رسمها الرئيس الخالد حافظ الأسد، وأكملها الرئيس الدكتور بشار الأسد، بألا نسكت عن الخطأ،

عبد الوهاب الجراح بزغ لديه شغف الفنّ في عمر مبكر، وكان يشارك في الحفلات الفنية للمسرح الشعبي والجمعية العربية للآداب والفنون، ابتكر عدداً من الكاركترات الفنية الطريفة التي قدّم من خلالها المونولوجات الغنائية الناقدة، وتميّز بنشاطه المسرحي الذي فاق عمله سينمائيّاً وتلفزيونياً.

تكريم أنور البابا

وكرّم مهرجان «كاريكاتور لإحياء المونولوج والأغاني الناقدة الاجتماعية» في يومه الثالث الفنان الراحل أنور البابا الذي اشتُهر بشخصية «أم كامل» الكوميدية، وذلك خلال حفل فنّي قدّمه الفنان رياض مرعشلي في القاعة متعدّدة الاستعمالات في دار الأوبرا.

وتضمّن برنامج الحفل بمشاركة الفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو نزيه أسعد مجموعة من الأغاني الاجتماعية الضاحكة خاصّة بالشريحة البسيطة من المجتمع تناولها الفنان مرعشلي من خلال تجسيده شخصية «أمّ كامل» في تحية للفنان أنور البابا بطريقة عفوية وألحان بسيطة، أوصل من خلالها فكرة أغانية إلى الجمهور.

مدّة العرض كانت ساعة وخمس دقائق تضمّن جزء منها بعض الأعمال التي تعيش في ذاكرتنا للفنان أنور البابا، والجزء الآخر عبارة عن أعمال جديدة من تأليف رياض مرعشلي وألحانه، ومنها «أحكي ولا ما أحكي» و«ألف بي وبوباية» و«الأوبرا والواوي» و«ما أريدك» و«بنت الخال»، لامس من خلالها هواجسنا وتفاصيل حياتنا اليومية بشكل بسيط تفاعل معها جمهور القاعة بالغناء والتصفيق.

كما أدّى الفنان جمال العلي أغنيتين بعنوان «القازان» و«دغدغ» انتقد من خلالهما بأسلوبه الكوميدي المضحك وشخصيته العفوية المحبّبة بعض ما نواجهه في حياتنا اليومية من غلاء الأسعار وانقطاع الكهرباء والماء وغيرها.

وعن رأيه بالمهرجان أشار الباحث الموسيقي أحمد بوبس إلى أهمية هذا المهرجان لإحياء هذا النوع من الأغاني الناقدة والساخرة. لافتاً إلى أن هذا النوع من الأغاني ضروري لا كترف فنّي، إنما بهدف توصيل رسالة إنسانية واجتماعية إلى الناس. موضحاً أنّ هذه الأغاني في زمن روّادها كعبد اللطيف فتحي وأحمد أيوب وسلامة الأغواني ورفيق سبيعي وغيرهم، لاقت آذاناً صاغية وأحدثت نقلة نوعية في تأثيرها على المجتمع.

أنور البابا ممثل من مواليد دمشق عام 1915 بدأ الفنّ هاوياً وهو تلميذ في المرحلة الابتدائية، فكان يحفظ القصائد ويلقيها في الحفلات المدرسية. وعام 1973 تعرّف إلى الفنانين تيسير السعدي وعبد السلام أبو الشامات وفهد كعيكاتي وعبد الهادي الدرزكلي، وشرع الأربعة يقدّمون تمثيليات قصيرة في المنازل ثم انتقلوا لتقديم هذه المسرحيات القصيرة في القرى المحيطة بدمشق. بعد ذلك بدأ أنور البابا بالاشتراك بالمسرحيات الطويلة ذات الفصول، والمسرحية الأولى التي اشترك فيها كانت «أتاتوك»، ثم مسرحية «جريمة الآباء».

وفي أربعينات القرن العشرين، ظهرت شخصية «أم كامل» لأنور البابا كضرورة فنة لأداء الأدوار النسائية بسبب عدم وجود ممثلات، ثم غدت شخصية شعبية كوميدية اشتهر بها مشكّلاً بهذه الشخصية ثلاثياً فنّياً ناجحاً مع الفنانين حكمت محسن في شخصية «أبو رشيدي» وفهد كعيكاتي لم يخض غمار الغناء إلا مرة واحدة حين قدم زغرودة الوحدة «أوها تمّت الوحدة».

المايسترو نزيه أسعد من مواليد دمشق خرّيج المعهد العالي للموسيقى ومدرّس في المعهد ذاته ومدرّب كورال الشرقي فيه. ألّف الموسيقى التصويرية لعدد من الأعمال التلفزيونية الدرامية والوثائقية والبرامجية منها «الجمر والجمار»، «حكاية أمّ»، «بداية وحضارة»، إضافة إلى بعض الأعمال المسرحية الغنائية وأعمال الفنون الشعبية لعدّة فِرق. كما قاد عدداً من الفرق الموسيقية نذكر منها: «أمية»، «تهليلة»، «أوركسترا الموسيقى الشرقية»، «نهاوند»، و«شباب سورية». وله مشاركات عربية وعالمية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى