عابر حياة بفراق شديد اللهجة!

ديمه داودي

قد لا يفطن القارئ إلى أن أجمل ما كتبه الأديب الراحل ياسين رفاعية قد نهض من جلّ الوجع حيث كان يلتقي مع زكريا تامر ويوسف شرورو في المقبرة، ليتلو كلّ منهم ما كتبه على مسامع الآخرين. وربما محاولة في بثّ الدفء إلى الرخام العاري الذي يحتضن الأجسام الباردة بعدما فارقتها الحياة.

حيث رقد جسد الأديب الراحل ياسين رفاعية بعد 82 سنة من العطاء والبذل في سبيل الحبّ، فقد كان مأخوذاً عليه أنه نزاري الهوى درويشي الميول.

على رغم نشأة رفاعية البسيطة وسط أسرة دمشقية «مستورة»، حيث ساعد والده في العمل خبّازاً في فرنه البسيط حين كان في الثالثة عشرة، وكأنه دونما يدري يسير على خطى العمالقة الذين ضاء نجمهم على رغم كل الضباب والأوضاع الذاتية والسياسية وحتى الدولية التي عاشوها، وهنا لا بدّ أن نذكر كلّ من حنّا مينا وزكريا تامر.

قبل أيام، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بـ«بوستات» ومنشورات عن ياسين رفاعية. وكأن من شأن هذه المنشورات أن تهبه الحياة وتعيده إلينا مجدّداً. كثيرون لقّبوه بـ«عميد الحزن» أو «العصفور» وحتى «حكّاء الحزن». لا بل أنّ البعض تطرقوا إلى مسيرة حياته الصعبة التي انعكست في كتاباته بجميع أنواعها، خصوصاً مطبات الفراق والفقد التي تعرّض لها.

تذكر بدايات رفاعية أنه ترك المدرسة في عام 1947 ليساعد في إعالة عائلته سواء بالعمل مع والده أو بالمساعدة في الحدادة. وحتى العمل في صناعة الأحذية وتصليحها. وحينذاك، بدأت تتفتّق لديه الميول الأدبية التي مشت به بخطى حثيثة تنحت في الصخر نحو الوحي الأدبي والصحافة في دمشق، حيث عمل بعدها مع فؤاد الشايب في مجلة «المعرفة»، وفي جريدة «الثورة»، ثم توجه نحو الصحافة اللبنانية وكان للطفل حيّز كبير من اهتماماته فعمل أيضاً في صحافة الطفل.

كما تذكر سيرة حياته أنه طرد من الوظيفة ومن ثم انتقل إلى بيروت ما جعله يبدو كعابر سبيل. كما وقع على نصوصه في بعض في الصحف اللبنانية ليصبح أخيراً ليس عابر سبيل فقط، إنما عابراً لحياة أشقت عليه بأوجاعها فوهبها روح حرفه وإبداع فؤاده بعد أن حاول التأقلم معها لعلها تخفف من مشقة الفقد عليه. فقد كانت على رغم ما يفيض به من حبّ لا سيما تحمّل بصمة الحزن التي أنجبت أولادها وبناتها غصباً عن ضحكته الهادئة على صفحاتها، حتى كاد لا يتخلص منها حتى عند الانصياع لها والتبتل لصلابتها.

كتب رفاعية: «الحزن في كلّ مكان… قصصي الأولى، كتبتها وأنا شاب في العشرين، وصدرت طبعتها الأولى عام 1960، ويوم كتبتها قصة بعد قصة كنت أرى الحياة بغير ما أراها الآن، كنت أقل كآبة، وأقل حزناً، وأكثر فرحاً، ومع ذلك كانت القصص سوداوية وقليلة الحظ، ولا أدري وقعها الآن، وقد تكاثرت الكآبة وكبر الحزن ومات الفرح!».

كما أن رفاعية، وعلى رغم التطوّر الملحوظ في مؤلفاته، إلا أنه وحتى الفترة الأخيرة من حياته، كان متواضعاً كثير الحبّ مصادقاً لتفاصيل الموت، خصوصاً بعد وفاة زوجته الشاعرة اللبنانية أمل الجراح التي تعمّد بحزنه على فراقها، خصوصاً بعدما بلغته فاجعة موت ابنته لينا بعد سنة من وفاة والدتها. لتجعله يبدأ باستسهال الألم والابتسام للموت.

كذلك، كتب القاصّ السوري ياسين رفاعية في مفتتح أعماله الكاملة الصادرة عام 2012، عن «دار جداول» في بيروت: «ومذّاك، كنت قليل الثقافة، فأنا في الأصل عامل لم تتح لي ظروف حياتي أن أتابع دراستي، وبسبب ذهابي إلى المخبز الذي كنت أعمل فيه منذ الرابعة صباحاً حتى السادسة مساء، لم أكن أستطيع القراءة حتى كنت أعيش حياة صعبة، وكان التعب يهدني فأذهب إلى النوم مباشرة… كانت أوضاعنا صعبة وشرسة».

ولا بدّ لنا عند تناول حياة رفاعية من ذكر قصة «ماسح الأحذية» الحاصلة على الجائزة الأولى في مسابقة «مجلة النفط» التي كان يديرها جبرا إبراهيم جبرا.

واللافت، إن قصته «الرجال الخطرون» الصادرة طبعتها الأولى عام 1979 اتخذت من إدانة الاستبداد طابعاً لها حيث طبعت عدة طبعات وترجمت إلى عدّة لغات أيضاً. وكذلك كانت روايته «مصرع الماس» التي ترجمت إلى الانكليزية ولاقت رواجاً كبيراً.

واللافت أيضاً انتقال رفاعية إلى الرواية حيث برزت روايته «من يتذكر تاي» وروايته «ياسمين» التي سرد من خلالها قصة حبّ ابنته لينا مع الإنكليزي جون، والصراع بين قيم الأب الشرقي وقيم جون الذي تزوج لينا.

بالعودة بحياة رفاعية، نجده تنقل بين دمشق وبيروت ولندن، لكن بيروت ظلت ملاذه الأثير، فآثرها برواياته: «الممر»، «رأس بيروت»، «وميض البرق»، «دماء بالألوان»، «من يتذكر تاي»، «امرأة غامضة». وفي هذه الروايات، كما في غالبية رواياته، انبرت الملامح الذاتية التي تغصّ بالذكريات والوجع. ليصبح نتاج رفاعية أكثر من 30 عملاً أدبياً تتوزّع بين القصة والشعر والرواية خلال حياته.

ما زالت نصوص رفاعية منذ بداياته وحتى اللحظة تعانق الروح وتصلبها عند مفترق الوجع. فالبوح عنده متوغّل في الأعماق حدّ الانعتاق. يتحدّث عن الموت أكثر من الحياة، ليتركنا رفاعية كما حال «سيرين» في روايته حين تقول: «أنا أصبحت أحبّ حكاياتك الحزينة منها والمفرحة. أنت حكواتي جيد. اترك الشعر واكتب القصص تملك موهبة وجاذبية في روايتك القصص».

يبدو أن رفاعية كان مؤمناً تماماً وبحق، بقوله حين أورده بلسان «تاي» في روايته «من يتذكر تاي» التي أوردها في الأصل للكاتب جيمس بويز: «إن الحياة كلّها أياماً معدودة يوماً بعد يوم. إننا نمشي عبر ذواتنا مقابلين لصوصاً وأشباحاً وعمالقة عجائز وشباناً زوجات… أرامل وأبناء عمومة… ربما بشعين… إنما نقابل أنفسنا أيضاً ودائماً». إذ يبدو أن روح رفاعية ما زالت ملتصقة بروح زوجته الراحلة الشاعرة أمل حيث يودّ مقابلتها من جديد، لأنها ذاته الأخرى وصمام قلبه الحقيقي. فمن حياة إلى أخرى أيها الدافئ رغم أنف الرحيل!

إعلامية وكاتبة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى