الحزن في كلّ مكان

نجاح إبراهيم

ورحل ياسين رفاعية…

مخلّفاً وراءه ذلك الحزن الكبير، الذي انطلق معه إلى الحياة، من حارات دمشقية قديمة، ابتدر به أولى مجموعاته القصصية «الحزن في كلّ مكان» عام 1960، والتي عبّر من خلالها عن قهره حين أجبر أن يخوض الحياة بكلّ قساوتها، وأن يعيش صراعاً حادّاً بين موهبة تتنابت فيه بقوّة وبين صخب الفرن الذي يملكه والده. كانت أفكاره تنضجُ قريباً من النار، حيث يستلهمها من العمال، يُصغي إلى معاناتهم، وعذاباتهم، يطعّمها بما لديه من ألم، فيسكبها بلغة وأسلوب مغايرين.

ولكنه لم يعد يحتملُ هذا الضجيج، ولذع النار في الفرن كلّ يوم، فقرّر أن يلتمس مكاناً يمنحه الهدوء والسكينة ويتحفه بالتأمل، ولم يجد سوى المقبرة الرّافلة بما يشتهي خاصة الصمت الذي يصبو إليه.

راح ياسين رفاعية يتأمل شجرة يهزّها الهواء، وشاهدة منتصبة على الدوام، يستمع إلى شدو طير، ويراقب سير نملة عند أصابع قدمه، وثمة حلم صغير يراقبه وهو يخرج من صدره النديّ.

رغب أن يكسر هذا الصمت الطاغي بحضوره، والمتمدّد البارد ليجعله مسرحاً يدفأ بشخوصه المعذبين، وأصدقائه الموهوبين الفقراء والمتألمين مثله، وأول المدعوّين كان زكريا تامر.

من هنا، ترك الزمام لأحلامه لتكبر وتكبر، فغادر المقبرة، وغادر المدينة، وعافَ حاراتها القديمة، على رغم أنها ظلّت تسكنه وتسير معه، وترفده بذكريات الطفولة، وبدايات الشباب.

غادر إلى بيروت ليستمرّ في الاحتراق، وليكون شاهد عصر، ونبيّ حبر على الحرب اللبنانية التي مدّته بأربع روايات أرثها بلغته الشعرية، التي اكتسبها من خلال ما كتب من شعر تناول فيه موضوعة الحب.

ومع ذلك لم يتوقف عن حزنه، الذي ظلّ يواكب ترحاله الممضّ. بقي ياسين رفاعية غزير الكتابة الحزينة، يشفي بها جراحاً عميقة، وألماً نفسياً. نصحه بها الطبيب النفسي كي يستمر باستساغة الحياة، وكي يدرأ بها الوحدة والخوف والجنون، وكي يستعيد التوازن بعد سلسلة الفقد التي مُنيّ بها.

ما هو لافت، ما وجدته من مفارقة عجيبة، ذلك التغاصن بين سرد كتبه منذ عقود، وبين واقع عاشه، ألا وهي كتابته عن رجل قبضاي أثناء الاحتلال الفرنسي على سورية، أطلق عليه اسم «أبو علي الماس» هذا القبضاي الدمشقي قتل ابنته لأنها عشقت ضابطاً فرنسياً، بينما ابنة ياسين رفاعية عشقت شاباً انكليزياً وارتبطت به، لتبرز معارضة الكاتب لهذا الزواج، من خلال كتابته رواية «ياسمين» حيث يظهر التناقض بين ثقافتَي الشرق والغرب، والاختلاف الجذري بينهما.

ويبقى الكاتب الحزين لديه الشغف الأكبر لأن يكتب عن دمشق، الرّوح والعذابات، يعود إليها، إلى حاراتها العتيقة، المفعمة بالياسمين، ينظر إلى جدرانها العالية يصف أزقتها والبيوت المتلاصقة، يكتب عن أسرارها في روايته «أسرار النرجس» حيث يجوب في عالم ما وراء الجدران، يخترق الثوابت فيها، والتقاليد العفنة، يرصد ما تخفيه من أسرار بأسلوب شفيف لا يخلو من مرارة.

بيد أنّ المرارة سكبها دفعة واحدة في روايته «الحياة عندما تصبح وهماً» حكى فيها عن حبّه الأثير الذي فقده باكراً برحيل زوجته الشاعرة أمل الجراح، وبغيابها فقد إحساسه بالوجود، فمال نحو العزلة، وأحسّ بخوف كبير وبحزن ينتشر في كلّ مكان.

كاتبة وإعلامية سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى