هل عاد لبنان إلى حقبة خريف 2004؟

العميد د. أمين محمد حطيط

بعد 5 سنوات تقريباً من اندلاع الحريق العربي الذي تسبّب باختلال الأمن والاستقرار في أكثر من دولة عربية، وتسبّب بشكل خاص في تدمير أربع دول عربية ليبيا والعراق وسورية واليمن وفي تقييم معمّق توصلت أميركا إلى خلاصة مفادها أنّ محور المقاومة والمتشكّل اليوم تحديداً من سورية وإيران وحزب الله هو السبب في منعها من فرض مشروعها الاستعماري على المنطقة والحؤول دون قيام الشرق الأوسط الأميركي الجديد الذي يُعتبر الصلب والأساس في المشروع الأميركي الكوني.

وفي الاستخلاص النهائي وجدت أميركا أنّ الحرب على إيران بنمطيها الصلب او الناعم أيّ استراتيجية القوة الصلبة والحروب بالجيوش التقليدية او استراتيجية القوة لناعمة وحروب الفتن والفوضى الداخلية وجدت انّ هذه الحرب ضدّ إيران غير ممكنة او غير مجدية فقرّرت التركيز على حزب الله لمحاصرته وتشتيته وعلى سورية لتفتيتها وتجزئتها، ما يقود الى عزل إيران وقطع أذرعها الإقليمية ويؤدّي الى إسقاطها.

وفي التنفيذ يبدو أنّ الخطة الأميركية المطورة حديثاً قامت على فرعين… فرع سوري يتمثل بالدخول العسكري الأطلسي المحدود والمباشر لقيادة عمليات عسكرية فيها تؤدّي الى إنتاج بيئة التقسيم بأيّ نمط من الأنماط، وفرع يتصل بحزب الله ويرمي الى محاصرته وتجفيف مصادر قوته من شتى الأنواع البشرية والمالية والإعلامية فضلاً عن العسكرية. ولهذا كانت القرارات الأميركية المتلاحقة بعد تصنيف حزب الله بالإرهاب كانت قرارات إنزال إعلام حزب الله عن الأقمار الصناعية الأوربية والعربية، وقرارات المعاقبة المالية التي كانت آخر ما توصل اليه العقل الشيطاني العقابي في هذا المجال، قرارات اتخذتها أميركا وألزمت ثم التزم لبنان بتنفيذها متخطياً كلّ مفاهيم السيادة الوطنية والاستقلال.

لقد أبدى رجال القانون والسياسة الموضوعيون استغرابهم للتعامل اللبناني مع القرارات الأميركية، واستهجانهم لزيارات المسؤولين الأميركيين التفتيشية الى لبنان للتحقق، وتفاعل المسؤولين في القطاع المصرفي اللبناني الرسمي والأهلي معها، أما حزب الله فقد حاول أن يثني هذه الجهات عن خرقها للسيادة الوطنية حفاظاً على حقوق المواطنين والقانون اللبناني على السواء، ورغم الحجة القوية التي يملكها الحزب إلا أنّ أحداً لم يصغ الى ملاحظاته من المسؤولين المباشرين او غيرهم، كما أنّ الحكومة القائمة على الشأن في لبنان في ظلّ غياب رئيس جمهورية أصمّت أذنيها وأغمضت عينيها عن الأمر حتى تصاعدت حدّة الخطاب بين الحزب والسلطة المصرفية، وباتت الأمور مفتوحة على احتمالات كثيرة غير مريحة في تلك العلاقة.

في ظلّ هذا الوضع، وبعد أيام من تحذيرات فرنسية وكندية تشي بأنّ هناك أعمالاً أمنية إرهابية قد تحدث في بيروت وتحديداً في منطقة الحمرا، وعصر يوم احد من شهر رمضان حيث تكون الشوارع في المدينة شبه مقفرة وفي شارع فرعي وعلى السور الخارجي لفرع بنك لبنان والمهجر، المصرف الذي غالى في التقيّد بالقرارات الأميركية والتشدّد في تنفيذها ضدّ حزب الله وبيئته الحاضنة، وعلى مقربة من وزارة الداخلية 300م وعلى مسافة 200م من جريدة «الأخبار» المعروفة بتأييدها للمقاومة، في ظلّ هذا الظرف وفي هذا المكان أقدمت جهة على تفجير عبوة ناسفة صغيرة 5كلغ فكانت رغم صغر حجمها كبيرة في الرسائل والمفاعيل التي أحدثتها، حتى كادت تذكر بالتفجير الهائل الذي أودى بحياة رفيق الحريري رئيس حكومة لبناني سابق والذي قاد الى ما قاد إليه من آثار كارثية على لبنان. ولأنّ الشبه في الغاية والمفاعيل بين التفجيرين قائم نرى انّ نذكر بعض عناصر الأول.

ففي العام 2004 وبعد أن تيقن الأميركي انّ احتلاله للعراق لن يستمرّ عملية سياحية نظراً لنشوء المقاومة العراقية ذات الأبعاد الوطنية والإسلامية، والتي تستوحي فيها الأخيرة منطق ونفَس الإسلام السياسي الحركي الذي تعبّر عنه إيران في ثورتها وحزب الله في لبنان في مقاومته، وبعد فشل كولن باول في دمشق برفض الرئيس الأسد جملة وتفصيلاً لائحة الإملاءات الأميركية على سورية، والتي لو كانت قبلت لكانت سورية وقعت تحت الانتداب او الاحتلال السياسي الأميركي من غير الحاجة الى جيوش ـ عند كلّ ذلك قرّر الأميركي اعتماد خطة هجومية ضدّ الأطراف الرئيسيّين في محور المقاومة بشكل تكاملي متزامن.

وفي الخطة الهجومية اعتمد الأميركي بمعونة فرنسية في مجلس الأمن الدولي القرار 1559 الذي يُعتبر بدعة من البدع على صعيد الأمم المتحدة لمخالفته الميثاق لما فيه من تدخل غير مشروع في شؤون داخلية لعضو مؤسس في الأمم المتحدة لبنان ولعلاقات بينية بين دولتين مستقلين لبنان وسورية ، ومع ذلك اعتمد القرار ولم يجرؤ أحد في العالم على الطعن به في ظلّ النظام العالمي الأحادي القطبية الذي فرضته أميركا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.

لقد كان القرار 1559 يومها صفارة إنذار للبنان تشي بأنّ عهد الأمن والاستقرار انتهى، وانّ هناك أيدي خارجية ستعبث بأمنه الذي كان وصل فيه وفقاً للتصنيف الدولي للإنتربول في العام 2003 الى مصاف الدول الأولى في العالم. وترافق القرار 1559 بإطلاق مسار عقوبات ممنهج وتصاعدي ضدّ إيران في سياق استراتيجية الاحتواء والتركيع الأميركي لها.

ولأنّ كلاً من لبنان وسورية تعاملا يومها مع القرار 1559 وفقاً لما تمليه عليهما مصالحهما وسيادتهما الوطنية، كانت درجة الغضب الأميركية ترتفع، فعيّن للقرار ناظر دولي يواكب عملية التنفيذ رغم انّ هناك في أدراج الأمم المتحدة مئات القرارات المنسية ولا ناظر لها ولا من ينظرون وكان واضحاً انّ أميركا ماضية في الملاحقة ضدّ حزب الله وسورية عمقه الاستراتيجي إلى النهاية، وبعد 5 أشهر على القرار 1559 قتل رفيق الحريري بعملية إرهابية بالغة الدقة والاحتراف والجرأة، عملية لا تملك مقومات تنفيذها إلا دول كبرى على قدر عال من الإمكانيات في المراقبة والتفجير والإخفاء، وسارعت الأمم المتحدة بقيادة وتوجيه أميركي الى وضع اليد على القضية وصولاً الى إنشاء محكمة دولية أيضاً خلافاً لكلّ قواعد القانون الدولي محكمة بدأت باتهام سورية بالجريمة واستقرّت على اتهام حزب الله وملاحقته بها، ورغم انّ حزب الله قدّم كلّ ما يمكن من الأدلة والقرائن التي تجعل اتهامه فارغ المضمون وباطلاً مطلقاً، ورغم انه تصرّف بعد ذلك بعدم اكتراث وعدم اعتراف بالمحكمة فإنّ المحكمة ماضية في مسرحيتها كما تريد أميركا.

وفي المقارنة نجد انه في تفجير 2005 كان الاتهام السياسي سريعاً، اما في تفجير 2016 فبدأ الاتهام تلميحاً في الساعات الأولى من جهات سياسية محدّدة ثم انقلب صريحاً بعد ذلك، فحمّل حزب الله مسؤولية مباشرة او غير مباشرة في موقف بدأته كتلة المستقبل النيابية وكمّله وزير عدلها المستقيل، وفي 2005 اختفى قسم من شريط الفيديو من بنك HSBC وهو الثواني الـ 75 التي قد تكون حاسمة في تحديد طرف الخيط، وفي 2016 يبدو انّ منظومة من 45 كاميرا في محلة التفجير والطرق المؤدّية اليها قد عميت عن التقاط ما يمكن ان يشكل طرف خيط موثوق للوصول الى الفاعل. في العام 2005 كان التفجير من أجل الهجوم على حزب الله وسورية ووضع اليد على لبنان بموجب القرار 1559 وتطبيقه بالطريقة الأميركية التي تفرض رئيس جمهورية يقوم بدفع الجيش اللبناني لمواجهة المقاومة، بعد إخراج سورية من لبنان بموجب القرار، ويبدو انّ تفجير 2016 غايته تكبيل حزب الله لمنعه من المطالبة بالتزام القانون واحترام السيادة الوطنية والتمكن بعد ذلك من النيل منه.

أما الفارق بين التفجيرين فيتمثل في الطبيعة الذاتية حيث كان الأول عملية قتل وتدمير، وجاء الثاني عملية إنذار وتحريض وضغط، وفي الظروف كانت أميركا في العام 2005 في خط تعتبره صاعداً لمصلحتها في المنطقة والعالم يمكنها من قيادة عمليات هجومية واحتوائية، أما اليوم فأعتقد أنّ الظروف ليست كما تشتهي أميركا رغم انّ هناك الكثير مما يخدمها خاصة ما يحصل اليوم من بداية تدخل عسكري للأطلسي في سورية.

هذه المقارنة تدق ناقوس الخطر وتجعلنا نقول إنّ الأمن في لبنان ليس في الوضع الذي يدعو الى الطمأنينة الكلية والاسترخاء، رغم انه لم يصل الى وضع الذعر والخوف الشديد، فهو في منطقة رمادية وسط بين الوضعين ما يدعو الى القلق ووجوب الحذر والانتباه لأنّ لبنان كما المستهدف أيضاً بالخطة السعودية الإسرائيلية التي عادت صحيفة «معاريف» وأشارت إليها من باب نفي احتمال الحرب، انّ لبنان كما يبدو وضع على باب منطقة الحريق العربي، فإما أن يبدي أهله قوة ومناعة فلا يدخلوها أو يكون هناك ارتخاء وضعف وعندها يكون لهب في الدار نرجو ان لا يحصل، مع التذكير بأنّ «داعش» تبحث عن مكان عمل بديل بعد دفعها في سورية الى مرحلة تصفية الأعمال، وهي مرحلة لن تستهلك أكثر من شهور قليلة وقد يكون لبنان وجهتها لتستكمل عملها ضدّ المقاومة.

وبالمختصر نقول انّ لبنان اليوم في مرحلة تشبه خريف العام 2004 التي بدأت بالقرار 1559 وانتهت بحرب 2006 فهل يتكرّر السيناريو؟ انّ الاحتياط واجب مع أننا نستبعد نجاح الخطة الأميركية والسعودية – الإسرائيلية لأكثر من ظرف وأكثر من اعتبار.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى