يوم القدس.. بوصلة سورية الجنوبية!

هاني الحلبي

يُسجَّل تحديدُ يوم القدس مأثرةً كريمةً للإمام الخميني مفجّر الثورة الإسلامية في إيران الشقيقة.

فبتحديد يوم للقدس الشريف أعاد الإمام الخميني تصويب البوصلة الوطنية الإيرانية، واستطراداً الإسلامية، نحو القدس، تتويجاً لقلب الاسترتيجية الثورية من كون إيران ثكنة أميركية أطلسية أمبريالية معادية لقضيتنا ولحقوقنا ولشعوب آسيا، واستطراداً لأيّ حق طبيعي إنساني تناصبه هذه الطغمة الإنترنسيونية العداء، إلى كونها حليفاً ثابتاً.

وتحديد الخميني المفكر والاستراتيجي والمجتهد الأكبر والفقيه والعالم والثوري، القدس مَعْلَماً وهدفاً حدّد مساراً واضحاً لا لبس فيه لاتجاه الثورة الإسلامية وبدأ تاريخاً تحريرياً جديداً. ولم يتوانَ خليفته الأمين الإمام الخمنئي مرشد الثورة الإسلامية عن اقتفاء الصراط الكريم نفسه لتبقى القدس قرّة عينه استراتيجيةً وهدفاً وصبوة أرواح المسلمين، محمديين ومسيحيين، فضلاً عن غيرهم من العلمانيين، الذين تقاطروا من قارات الأرض لنصرة فلسطين خلال العقود الماضية ليُكسبوا حياتهم الفردية معنى وقضية، منهم الياباني كوزو أوكوموتو.

ولا شك في أنّ للقدس، يبوس، أورسالم، أورشليم، على تعاقب التسميات مكانة دينية سابقة للرسالات الدينية السماوية الراهنة. فإنْ كان إمامها ملكي صادق الأرفع رتبة دينياً في زمانه وقيس السيد المسيح إليه، ولم يُعرَف أنّ ملكي صادق كان مسيحياً أو مسلماً حنيفاً، لكنه كان باراً وتقياً، فكان يُسمّى بتعريف واضح أنه «كاهن الربّ العلي»، ويحجّ إليه الأولياء ليتعمّدوا بماء سوري وينالوا بركة وتطويباً، ما أكسب القدس، أو اكتسب بالقدس، مكانة لا تُضاهى في التاريخ الديني القديم جعلها في بؤرة أيّ استراتيجية إقليمية شاملة في العصر الحديث.

وإذا كانت سورية الجنوبية أقدم من أيّ إيمان ديني مارسه ملكي صادق، لأنّ الإيمان هو مرتبة تطورية راقية في تجربة التفاعل الإنساني للإنسان مع ذاته ومع جماعته ومع محيطه ومع الطبيعة، للإجابة عن الأسئلة الفلسفية الكبرى في الحياة. وبالتالي فهذه التجربة السورية الراقية أٌقدم من إبراهيم الخليل، بل هو الذي قد يكون نتاجاً لها. وهو الشخصية الأقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقع والتي افتقد علمُ الهَلَكِ حتى الآن أية دلائل قاطعة على كونه شخصية حية واقعية، من خارج سفر التكوين في كتاب التوراة الملتبس بل حتى في سفر التكوين بعرضه مسار تنقلات ابراهيم الخليل وجد في تنقله مدناً عامرة قبله ذات ملك وتنظيم وقانون ومحاكم. فيبدو من خط تنقلات إبراهيم، أنّ مسار انتقاله من العراق فالشام فالجنوب السوري بدأ من مسقط رأسه «أور، بابل، حاران، شكيم وهي نابلس حالياً ، بيت إيل، مصر، بيت إيل ملاصقة لمدينة رام الله شمالها ، حبرون، دمشق، حبرون، جرار مدينة قديمة تقع في جنوب شرقي غزة ، بئر السبع، مريا منطقة قريبة من القدس ، بئر السبع، حبرون».

وإبراهيم مرجَّحةٌ ولادتُه في حران في العراق، ومعظم الروايات التاريخية تشير إلى ولادته في أور القريبة من بابل في عهد نمرود بن كنعان. وهناك تضارب كبير في الروايات حول تاريخ ولادته وجميعها ينحصر في الفترة بين 2324-1850 ق.م.، وهناك روايات ترجح ولادته سنة 1900 ق.م.

لكن الأرض التي سُمّيت لاحقاً فلسطين، هي أعرق من وفادة إبراهيم الخليل ومن مكانة ملكي صادق، ومن مكانة دينية للقدس، وأبعد من تسمية فلسطين نفسها.

فتسمية فلسطين ما زالت ترجّح بمعنى الآتين أو القادمين من البحر، وهم أقوام أتوا من شمال بحر إيجه وجزيرة مالطا بعد خسارته نفوذهم السياسي والاقتصادي هناك، ولم تكن سورية الجنوبية قفراء حين اقتحامهم لها، أو عودتهم إليها، وهي الحافلة بحضارة سورية زاهرة والمسكونة بالمدن والقرى العامرة بالبنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قبل بضعة ملايين من السنين قبل مجيء «شعوب البحر» هكذا سمّاهم الأثريون والمؤرخون خلال القرن الـ19. ويُرجَّح أنهم هجمات عسكرية وافدة انتقلت عبر البحر الأبيض المتوسط لتهاجم الممالك الواقعة على شاطئه الشرقي في فينيقيا والأناضول ومصر خلال فترة حكم الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين، والحثِّيين في الأناضول وسورية الشمالية. فأسقطت هجماتهم الإمبراطورية الحثّية وأضعفت المملكة المصرية الفرعونية لمدة طويلة، ودمّرت حاضرات شرق المتوسط العامرة كأوغاريت مثلاً.

وحسب الرسائل المصرية، يرد أيضاً اسم فلسطيون المذكور في «التناخ» وهو كتاب مؤلَّف يتضمّن كتاب التوراة وكتب الأنبياء عند اليهود كمجموعة رئيسة وافدة قاتلت «أسباط بني إسرائيل»، ثم «مملكة إسرائيل»، وسيطرت على أراضٍ واسعة من الساحل الجنوبي لبلاد كنعان وداخله البري.

وبالتالي مهما كان مصدر فلسطين والفلسطينيين فلن يستنهض نزعة عنصرية كما استنهضت الصهيونية بارتكازها على ما سُمّي بوعد يهوه بأرض ميعاد، لتؤسّس مشروعاً استيطانياً على أرض فيهجّر أصحاب الحق فيها ليستجمع شتات الشعوب وطفّارها بعد تهويدهم فيُحلّهم محلّ أهلها الأصليين.

وإنْ كانت القدس قطباً، فمهما غلت قيمة هذه القطب لا تلغي قيمة بيئته ومحيطه الأرضي والجغرافي والشعبي التاريخي. أيّ شريف يقبل تحرير القدس بلا فلسطين؟ أيّ شريف يقبل العبور إلى القدس حجاً عبر أنفاق أو رحلات جوية لتسقطه بالمظلة فوقها بلا أهلها وناسها وشعبها ووطنها الطبيعي التاريخي؟ إذاً، يوم القدس هو يوم فلسطين!

ولما كانت فلسطين هي تسمية لمرحلة تاريخية مرجَّحة لهجرة بشرية وافدة اندمجت في الديموغرافيا السورية في جنوب فينيقيا، وهي ليست هذه الديموغرافيا كلها، ولا كلّ هذا التاريخ الغني لسورية الجنوبية، فيوم القدس هو يوم سورية الجنوبية كلها من حرمون فسيناء حتى البحر الأحمر!

وهذه الحقوق القومية التاريخية في سورية الجنوبية لا يملك شعب بكامله، ولا جيل من أجيال هذا الشعب، ولا مكوّن سياسي، كحماس وفتح، ولا قائد لمكوّن سياسي، كالراحل ياسر عرفات أو الرئيس الحالي للسلطة الفلسطينية محمود عباس، ناهيكم عن الحاج اسماعيل هنية أو الطريد خالد مشعل، ومهما كانت صفاتهم، حق أيّ تنازل عن أيّ حق قومي من حقوقنا مطلقاً! وإنْ كان لا يملك حقَّ التنازل أهلُ البلاد أنفسُهم فهل يملكه سعودي أو قطري أو تركي دخيل على أهل الحضارة في سورية الجنوب؟ مطلقاً، لا أحد يملك هذا الحق سوى الشعب السوري نفسه على مدى أجياله الممتدّة في الزمن السرمدي من فجر التاريخ وإلى ما لا نهاية الأبد!

كذلك لا يملك المسلمون ولا المسيحيون، لا في فلسطين ولا خارجها، ولا أيّ مرجعية من مرجعياتهم لها حق في أيّ تنازل عن ذرة تراب من سورية الجنوب، كما تفعل بطريركية اليونان بعد اغتصابها مطرانية القدس فعيّنت يونانياً مطراناً ليبيع أملاك الكنيسة للصهاينة بثلاثين من فضة صهيونية من أمام أعين مؤمني فلسطين!

يوم فلسطين، خطوة مباركة من إمام ثائر لتصحيح مسار الثورة، فتصويب المسار نحو سورية الجنوب كلها!

باحث وناشر موقع حرمون

haramoon.org/ar

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى