هوية سورية تحدّد مستقبل النظامين اللبناني والعراقي

ناصر قنديل

– ربط اللبنانيون إلى حدّ المبالغة مستقبل الحياة السياسية في بلدهم بالمتغيّرات الخارجية، في وقت يشهد حلف ممتدّ من الرياض إلى واشنطن حالة انتظار تجعل من المستحيل أن تتبلور لديه خيارات التسوية قبل حسم مستقبل الرئاسة الأميركية، التي ستحمل مع وصول هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض، بعدما بات تفوّقها على منافسها الجمهوري دونالد ترامب شبه محسوم، كما بات عزمها على إعادة النظر بالسياسة الأميركية في سورية والمنطقة، وعبرهما كيفية إدارة العلاقة مع موسكو وطهران مختلفاً. والجوهري في التغيير الذي تتطلع إليه كلينتون والذي بات يحكم خطوات إدارة الرئيس باراك اوباما بما تبقى من ولايته، هو التريث في الخوض بتسوية سورية تحكمها موازين قوى مختلة لصالح الدولة السورية وحليفيها الروسي والإيراني. والرهان على المزيد من الوقت عبر توفير شروط الصمود لجبهة «النصرة»، وفقاً لمسرحية تغيير الاسم وادّعاء خطاب لا امتدادات له خارج الحدود السورية، تتولى خلاله «النصرة» مهام استنزاف روسيا وحلفائها، وتوفير شريط حدودي آمن لـ «إسرائيل»، وتمنح السعودية فرص التدخل في المستقبل السياسي للدولة السورية.

– توضح معارك الشمال السوري، وحجم الارتباك الأميركي السياسي تجاه كيفية التعامل تجاهها وفقاً لتفاهمات موسكو، واحتمالات التورّط بتزويد جبهة «النصرة» بسلاح نوعي يستهدف الطيران الروسي، ووصفات الأفغنة التي يتحدّث عنها السعوديون، أنّ المهل التي منحتها روسيا لإدارة أوباما لصناعة تسويات باتت مهدّدة ما لم تتغيّر الوقائع في ميادين الحرب وبسرعة، تغيّر الحسابات، خصوصاً أنّ الموازين الحاكمة لقرارات تغيّر المعادلات ليست بيد كلينتون ولا من يوافقها في الداخل الأميركي وفي الخارج الإقليمي، فالكلّ يدرك أنّ الذهاب الأميركي للحرب مباشرة وحده قد يغيّر الموازين، وهذا ما يسلّم الجميع بأنه صار شيئاً من الماضي، بينما الرهان على «النصرة»، لفرض المزيد من الفوضى، فقدرة إسقاطه عسكرياً تصير مسؤولية روسيا والحلفاء لإعادة الجميع إلى طاولة التفاوض التي يتوهّمون القدرة على تحسين شروطهم عليها.

– التغيير الذي تريده كلينتون لواشنطن وللرياض ولتل أبيب، بعد خروج أنقرة من معادلتها، وربما اتهامها بالتورّط بالانقلاب الفاشل في أنقرة للإمساك بالمنصة الحاسمة التي تمثلها تركيا للعبث في سورية، بعد تموضع تركي على خط التفاهم مع موسكو يتعزّز ويتجذّر يوماً بعد يوم، قبل الانقلاب وبعده، ليس ذهاباً للحرب، بل رهان على تغيير قواعد التفاوض، والهدف السياسي الذي يتحدث عنه مركز دراسات واشنطن للشرق الأدنى، وصحيفة «واشنطن تايمز»، هو تعزيز ضعف فرص توحيد سورية بعد الحرب. وهو ما عرضه وزير الدفاع الأميركي الحالي أشتون كارتر المرشح للبقاء في منصبه، كمصدر غموض تجاه مستقبل وحدة سورية. وهذا الضعف تقدّم له السعودية التي بات المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا أحد العاملين في فريقها، وصفة قوامها تعميم النموذج اللبناني للنظام الطائفي، المؤسّس على ميليشيات، تختفي وتظهر، وجيش ضعيف. وهذا النظام في سورية يضمن لـ «إسرائيل» حزاماً أمنياً تقيمه ميليشيا من أصول «النصرة» وتحمل اسماً جديداً، ويضمن للسعودية بقوة التوزيع الطائفي المقترح للسلطات في سورية، التطلع نحو منصب رئاسة الحكومة بصلاحيات تشبه الوضع في لبنان. وهذا هو الشرط الذي يجعل التعايش مع شخص الرئيس السوري وبقائه، الذي بات فوق قدرة كلينتون والسعودية و«إسرائيل» على النقاش، لكن الرهان على جعل صلاحياته نوعاً من الشبه مع صلاحيات الرئيس اللبناني، الذي يملأ الفراغ كرسيَّه اليوم.

– في العراق يتوقف مصير النظام السياسي واستقراره على حجم الخصوصية الكردية، ومدى تطلعها نحو الاستقلال والانفصال، وتكريس نظام المحاصصة الطائفي في محافظات الوسط والجنوب والغرب العراقية، على أساس طائفي يمنح السعودية مرة أخرى فرصاً شبيهة للتدخل، بقوة اللعبة الطائفية، التي منحتهم في لبنان هذا النفوذ، ويبدو مصير الحالتين اللبنانية والعراقية معلقاً على نتائج ما سيجري في سورية. فنجاح صيغة النظام الطائفي كوصفة لتخريب سورية وإضعافها، سينتج في لبنان رئاسة ضعيفة وفي العراق دولة كردية يلتحق بها ضمناً الإقليم الكردي الميليشياوي شمال وشرق سورية، ونجاح مشروع الدولة المركزية في سورية بسحق «النصرة»، سيعني نهاية أحلام دويلات الطوائف في لبنان، وخيار الانفصال الكردي في العراق، وهذا هو البعد الجيوسياسي لحرب شمال سورية اليوم.

– فتح اللبنانيين للنقاش حول فرضية الخروج من الصيغة الطائفية نوع من الملاقاة لاحتمال يتقدّم كلما تقدّمت وحدات الجيش السوري وحلفائه في الحرب على «النصرة» ومعه سيكون للرئاسة اللبنانية فرصة العودة القوية لإدارة دولة مؤسسات، وسيكون للعراق فرصة تحويل الفدرالية إلى صيغة لتوسيع فرص التنمية وليس لزيادة حظوظ التقسيم. ولذلك قبل أن يُحسم مصير «النصرة» في سورية لن تتقدّم السعودية، ولن تسمح لمن يتّبعون تعليماتها بالتقدّم نحو التسويات، وقد صار للتسويات عنوان واحد، إما نجاح مشروع نقل عدوى الجدري الطائفية لصيغة النظام الدستوري الجديد في سورية، كعلامة على استرداد السعودية و«إسرائيل» مكانة قيادية مفقودة في معادلات المنطقة، أو أن تنتصر سورية على الصيغة السعودية «الإسرائيلية» لنظام طائفي، تشكل حرب «النصرة» شمال سورية حصان الرهان لإنضاج فرصه في الحياة. وفي هذه الحال ستكون العدوى معاكسة وحتمية، لمفهوم الدولة اللاطائفية في بلاد المشرق، التي لم يعد ممكناً فيها التعايش بين هذين النقيضين دون أن يهزم أحدهما الآخر. والنموذج الذي سينتصر في سورية سيتعمّم في المنطقة، وخصوصاً في لبنان والعراق، وحتى ذلك الحين يبقى الانتظار سيد الموقف، ومن الذكاء السياسي توظيف وقت الانتظار في التهيّؤ للاحتمالات المقبلة، وفي طليعتها على إيقاع حرب شمال سورية، اهتزاز صيغ التنظيم الطائفي والعرقي في لبنان والعراق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى