حسن نصّور يدخل المدن النساء من «باب النون»!

النمسا ـ طلال مرتضى

لست أدري، هل هي المغامرة المدروسة؟ أم أنها الحالة الرعناء التي تنفتّح صوب الأسئلة المباحة من دون مواربة، بحيث لا تنفك من مشاغلة مُجترعها بدأبِ اللَّكز العمد؟

حين تفضي بأغلالها عبر باب التعجب الواسع التأويل، هل الكتابة فعلاً فقط لأجل الكتابة؟

لكن السؤال يقع في تضادّ نفسه بانكشاف تام، من خلال التلمّس المحسوس بفاعلية المماحكة القرائية والتقاط حالة تعالق المكتوب مع أناه حدّ التماهي الكلّي. عندما نمسك مفاتيح زمام المقولة التي تشي دوالها المُغْفَلة بأنها تتمتع بحامل الوعي الفريد المتّكئ على الرؤيا وافتعالات الرؤى.

العامليّ حسن نصّور، هو من جَرَّني عن سابق قراءة عبر «باب النون» ـ مجموعته الجديدة الصادرة عن «دار النهضة العربية» بيروت ـ كي أتحسّس قصداً وبوعيٍ تام، من خلال الجزرة الشائقة التي أومأ لي بها.

كَشَركِ غواية حامله المفتعل على الورق تبيان «عمق المعنى في التصاوير».

أي الدلالات التي سفحها مثل نقاط عَلَم على «لوغاريتم» ديوانه الغنائيّ من دون أن يُسلمني المُضمر المخبوء بفاعلية التتابع، أي اجتزاء الأجوبة بِتركِ فراغ جوابه بالنقلة القادمة. وتجلّى هذا من خلال «الحضور الذهني في النصّ» أي لحظات الوعي في القصيدة، والتي تسلّم قارئها العليم بيت سرّها وبأنها مزيج تذويبي كلّي من الشعر والفكرة. بعدما أثبتت الحالة الملموسة أن الشاعر متمكن من أدواته. بدءاً من «المشهدية البانورامية» أي البناء الكلّي للنصّ، والذي أظهر حالة معمارية متداخلة ـ مفاتيح ربط ـ بعناية بنّاء عارف في رصف مداميك النصّ. من الأساس إلى حدّ العتبة الحامل، «باب النون» العنوان، حين أدخل نصّه من الباب العالي للّغة القائمة على فعالية «التحاور»، أي ابتداع حوارية النصّ الداخلية. وهي تعني «تحاوره مع الثاني كالتناصّ» على وجه التشبيه. ليس فقط ليثبت قوة معطاه، بل ليدلي لقارئه الظمئ بأنه قادر وبمعطى «التجاور»، أي كسر نمط المقولة، على خلق حالة «تخييلية» ـ بمعنى فعالية تعبيرية عمادها الخيال، وتعنى بكيفية توظيف الخيال في نسيج النصّ الإبداعي ـ تسلب لُبّ مُتلقّيه وجعله تابعاً يلهث وراء المقولة:

يقول حذيفة الراوي:

سأعرف من ضياءٍ داكنٍ

في سورة الأعراف

أنّي كنت ماءً

قبل أن تطأ اللغات فناء قلبي.

فادحٌ هذا النهار

وليلُهُ نارنجةٌ شهّاءُ

فتْحٌ عند وادٍ غير ذي زرعٍ

أتَشْهدُ يا ابن آدم؟

وفي مقاربة أخرى بقوله:

وشيخي ذلك المغسولُ قبل الموت

ربّ الحلقة الكبرى من الورّاد والروّاد

يمسك حيّةً فتصير غُصنًا

ثمّ يفلتها فترجع ناقةً.

وعوداً على ذي بدء، أتوقف عند افتراض المغامرة، عندما ألبسَ الشاعر نصَّه المتواتر ثوب المعلّقة حين نحى به استرجاعاً نحو المقولة الجاهلية. وبعدما طعّم نصّه بمفرداتٍ لا نتلمّسها إلا في الشعر الجاهلي، وهو ما يربك القارئ «اللجوج»، الذي اعتاد اللفظة السهلة المخفّفة من معجميتها مثل قوله: «سَفَهٌ يَشْعَبُ الأَرْض»، و«ما تصنعُ الأرضُ بالمقلتين؟ و«بالغَدْرَتيْن؟»، و«شجرٌ أرْمَدٌ»، و«إثْمِدٌ حول المساقِط»، و«للنساء القابعاتِ على السُّرى»، و«خَميصَةُ الخَصْرِ»… إلخ.

هذا، وعلى رغم أنّ تلك المفردات أتت من غير زمن إلّا أنها وُظِّفت بشكل دقيق لتتكامل مع بنية النصّ الذي تخفّف الصوفية في كثير من مطارح القول، كَدرويش يستجدي اللغة، قال:

تُعرّقني الألفاظ

أسيحُ على أطراف الكونِ

أضيء/ تضيء

أقلّبها

أتذكّرُ أنّي قفلُ القُرآن

ومفتاح السرداب الخلفِيّ

إلى سورٍ يُدفئها السّجعُ

فتهوي

من سابعِ سقفٍ دُرِيٍّ أحمرَ

يا الله

أتلك هي الرؤيا؟

أم حجرٌ سيفيضُ بعينيهِ

على صِيَغِ الجمع

فيفردُها؟

حسن نصّور، وعَبْر «باب النون»، يضيف بُردةً جديدةً إلى سِجلّ الشعر العربي، مسترجعاً أزمنة غابرة من خلال ذاكرة جمعية زاخرة ومثقّفة، مروراً بمحاكاة الأسطورة والأمثولة والقصّة والطرفة بتجريب الإسقاط والتشبيه أو المقاربة أو في مطرح ما ببدعة الإيحاء. وذلك عندما رسم لـ«باب النون» خطّاً بيانياً تاريخياً استلهامياً من الثقافات التي تعاقبت على المدن النساء: دمشق، بغداد، القدس، قرطبة، ومكة، بتواتر وحضور هذه المدن في نصّه المختمر بشعريتة. حيث افتتح قوله، ولكلّ منها، بِلازمةٍ موحّدة للتأكيد على أنّ كلّ مدينة من هذه المدن كانت مَعْلَماً متشابكاً مع الآخر، في نسيج متكامل منذ النشأة الأولى، حين خاطب دمشق:

دمشق

مطرٌ تحلّقَ حولَ سُرَّتها

تشهَّتني البلاغة

ثمّ غارتْ تحتَ قلبي

جَمرَةً، زمناً.

حسن نصّور لم تَلده أمّه شاعراً جَهبذاً يعرف من أين يُقرض الحرف، لكنه اعترف

بالقول:

تلبّسني جِنّيّ النَّحْوِ

أمَرّنُ هذا اللفظ العربيّ

على المشي الهونِ إلى الأسواق

على النّجوى

وعلى تطويق نساء الحيّ

بنُونِ المَجنون!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى