هكذا تعرفتُ الى سعاده

إعداد: لبيب ناصيف

المقالة التي كان نشرها الأمين شكيب معدراني في العدد الخاص بمئوية سعاده الذي أصدرته مجلة «البناء ـ صباح الخير» بتاريخ آذار 2004، غني بالمعلومات التي يفيد الاطلاع عليها، ومنها كيف يتمّ انتماء المواطنين الى حزب النهضة.

ندعو حضرة الأمين شكيب الى مزيد من كتابة مذكراته، ومروياته ومعلوماته المفيدة لتاريخ الحزب، كما ندعو الرفقاء الذين يملكون معلومات عن الرفقاء الواردة اسماؤهم في المقالة المشار إليها، ان يزوّدوا لجنة تاريخ الحزب، بما يعرفونه.

ل. ن.

«خلال الأربعينات وبالضبط شهر آذار 1949، كنت طالباً في مدرسة الصنائع والفنون الجميلة في بيروت ـ القسم الداخلي، كانت المدرسة تضمّ مئات الطلبة من مختلف المناطق اللبنانية وأغلبهم داخليون. كان الطلاب شبه متحد بفعل صعوبة الحياة اليومية والاربع سنوات دراسية، المحبة تؤطر العلاقات في ما بينهم وتلفهم الألفة تحت رعاية الادارة.

«كنت واحداً من مجموعة مؤلفة قلوبهم ضمّت الزملاء: فريد شكري ابو جودة من جل الديب، فوزي سعد من كيفون، شبل بعقليني من الشبانية، حلمي كبارة من طرابلس، رامز حيدر من بعلبك، وآخرون غابت اسماؤهم لبعد المسافة الزمنية. كنا نخطط معاً برامج العطلة الأسبوعية ليومي السبت والأحد من كلّ اسبوع سواء الى دور السينما في ساحة البرج شتاءً او بلاجات السباحة إبان فصلي الربيع والصيف.

«في شهر آذار 1949 لاحظت انّ بعض زملاء الشلة بدأوا يتخلّفون عن الموعد المضروب، افتقدناهم أكثر من مرة، وعندما نلتقي في بداية الاسبوع كانوا يقدّمون أعذاراً غير مقنعة، ثم تكرّرت الظاهرة هذه فتكوّن عندنا شوق لكشف الدافع وما يخفونه عنا من مغامرات…

«ذات يوم كنت اتمشى مع الزميل فريد ابو جودة وهو الأكثر قرباً إليّ من بقية الشلة. بادرني قائلاً: أخي شكيب، انت صديق وفي، وأنا واحد من مجموعة طلاب نثق بك وتشدّنا إليك مودة واحترام، لذلك اخترناك انت لتكون موضع سرنا، ولكشف حقيقة تخلفنا عن المواعيد. نحن شلة طلاب قوميون، ننشغل احياناً في أمور أهمّ من السينما والرحلات، انها أمور أكبر، ومن الواجب علينا ان ندعو إليها العناصر المؤهّلة لخدمة مستقبل البلاد، لذلك نحن ندعوك لمشاركتنا في هذا الواجب نهار الأحد 1 المقبل في زيارة سرية لمقابلة شخص نجلّ ونحترم ونتخذه قدوة لحياتنا وقائداً لمسيرتنا ولكن هذه الدعوة تتطلب السرية والكتمان..

«كان يفصلنا عن الموعد يومان فقط، رحت خلالها أقلب الفكر في ما أنا مقبل عليه ووطدت العزم على المغامرة، ولما أزفّ الموعد كنت جاهزاً منتظراً الشلة في الملعب وقد حضر فريد فتهلل وجهه بشراً عندما رآني وبادرني: يظهر أنك قبلت الدعوة، هلمّوا بنا!

« سرنا غرباً نحو منطقة الحمراء التي كانت مغطاة بنبات الصبار والقصب وشجر الجميز، بساتين تخترقها ممرات ترابية او رملية ضيّقة بحدود المترين، يتناثر بينها عدد من البيوت متباعدة عن بعضها البعض.

الطقس كان ربيعياً، سلكنا اول الممرات ثم انعطفنا يميناً في انحدار بسيط وإذ بنا امام الجامعة الاميركية، ومن أمامها دلفنا الى شارع فرعي ثم وصلنا الى ساحة فيها بضع صنوبرات، يقوم عليها بناء علوي… ونطق أحد الزملاء إنه بيت الزعيم سعاده!

«اخذتني المفاجأة وتهيّبت الموقف وشدّتني روح المغامرة، انها تجربتي الاولى في الحياة، وأنا في السابعة عشرة من عمري. رددت في نفسي: انطون سعاده شاغل لبنان، لبنان والعرب، الذي كشف زيف الأنظمة وعرّاها، انه الإنسان الذي توجّه في خطاباته الى عقول الناس ووجدانهم في لغة لم يألفوها من قبل؟

«صعدنا الدرج لنصل الى بهو واسع كان يتواجد فيه عدد من الشباب والصبايا، استقبلنا احدهم وقادنا الى غرفة جانبية صفّت فيها بضعة مقاعد خشبية أمامها منبر خشبي تعلوه طاولة علّق فوقها على الجدار رأس غزال محنّط…

«جلسنا على المقاعد وكان قد سبقنا إليها آخرون، امتلأت الغرفة بالحضور وكان الجميع يتهامسون… جلستُ قرب فريد اتفرّس وجوه الحضور وكلهم في عمر متقارب، وسمعت احدهم يقول: انها الحادية عشرة ولم يحضر الزعيم بعد! لقد حان الوقت. عندها دخلت علينا سيدة، مهيبة الطلعة، ذات وجه يحمل وقار الامومة، فهبّ الجميع وقوفاً وهي ترحب بالحضور قائلة: اهلاً وسهلاً، الزعيم يعتذر منكم عن تأخره، سيكون بينكم خلال دقيقتين!

«التفتُ الى فريد والسؤال في عينيّ فبادرني قائلاً: انها الأمينة الاولى زوجة الزعيم سعاده! وسكت ولم أفهم معنى ما قاله حول لقب الأمينة الاولى… وفجأة دخل علينا رجل مربوع القامة، ذو وجه مهيب صبوح، جبهة عالية، عينان سوداوان براقتان فيهما حيوية الحركة. فهبّ الجميع واقفين وبصوت حار: تحيا سورية! رافعين ايمانهم الى أعلى في زاوية قائمة! بادلهم الرجل نفس التحية وصعد المنبر وهو يتفرّس في وجوه الحاضرين، ووقع نظره عليّ وأنا واقف وقفة عادية فابتسم، وبادر بالقول: تفضلوا ارتاحوا، فجلس الجميع وعادت الأيادي الى الراحة، وجلست حائراً وسمعت فريد يهمس في أذني: إنه الزعيم انطون سعاده!

«تهيّبت الموقف وانا محدّق في وجه الرجل وسمعته يوجه كلامه نحونا: أهلاً حضرة المدير، ماداً يده مصافحاً الزميل فريد ابو جودة الذي تقدّم من الزعيم حاضناً يده بين كفيه، والتقت عيناي بعينيّ سعاده وهو يتفرّس وجوه الحاضرين وقال: يظهر بيننا ضيف جديد، أهلاً وسهلاً بالجيل الجديد، قالها وهو يحدق في وجهي مبتسماً، فوقفت وتقدّمت منه لأصافح أعظم مفكر في القرن العشرين فيما كان الزميل فريد يعرّف عني: انه زميل الدراسة شكيب معدراني من البقاع! وعدت أجلس مكاني والأفكار تتصارع في مخيلتي، لماذا أنا هنا؟ الى اين ستقودني هذه الزيارة؟ ماذا سأسمع؟ ما معنى سورية؟ الجيل الجديد؟ الامة؟ القومية الاجتماعية؟ وأفقت على صوت سعاده يقول: باسم سورية وسعاده أفتتح هذه الحلقة… وراح يسهب في الكلام والشرح، يتكلم ويطرح أفكاراً لم يسبق أن سمعتها، إنها تعابير جديدة: مجتمع، شعب، انتداب، استقلال، حرية وواجب ونظام وقوة، كلها عناوين في مواضيع متراصة تتدفق من فمه كأنها سيل جارف، والجميع شاخص نحوه كأنهم في حضرة رسول! واستمر في حديثه حوالي الساعة ثم سكت مفسحاً المجال للأسئلة والاستيضاح!

«لاحظت ان لا فوضى في الكلام او الحوار، لم يكن من فوضى في التخاطب، كلّ شيء منظم، كانت اليدُ ترفع ليسمح في الكلام فيردّ الجواب واضحاً… إنه جوّ رائع، مرتب، جديد عليّ، إنها حالة متقدّمة في فن التحاور والكلام… إنها المرة الأولى في الحياة أرى موقفاً رصيناً كهذا. ولكني لم أفقه كثيراً مما دار من حولي لأنني لم أكن مهيأ لهكذا موقف وسماع هذه اللغة الجديدة عليّ!

«انتهت الحلقة كما سمّاها حضرة الزعيم وغادرنا عائدين الى المدرسة وصورته في مخيلتي، إنه رجل مختلف عن باقي الرجال!

«ومرّت أسابيع قليلة وتكوّن في نفسي توق لمعرفة المزيد وأنا أطرح على ذاتي ماذا يريد أنطون سعاده؟ ما هي مشاريعه؟ وكنت منهمكاً في الاستعداد للتقدّم الى الامتحانات النهائية في سنتي الرابعة، إنها سنة التخرّج والانطلاق نحو الحياة العملية…

«أطلّ شهر حزيران 1949، ولاحظت أنّ الزميل فريد ورفاقه في حالة ارتباك دائم، وشوشة، رصانة، تفكير عميق، فقلت لا شك أنّ هناك أمراً خطيراً يواجهونه وبدأت أسمع بعض شذرات من أحاديث الطلاب والأساتذة يذكرون فيها عن: ثورة ومؤامرة وجيش واعتقالات، عندها أيقنت أنّ الزملاء غارقون في هذا الامر الخطير، وهم يتجنّبون الخوض في الاحاديث كما أنّ بعض أفراد الشلة تغيّب عن دوام الدراسة…

«انتهت الامتحانات وعدتُ الى بلدتي وأنا في حيرة أفكر في مصير زملائي.. وفي بلدتي «معلقة زحلة» توضحت الصورة، فالناس تكلمت بشكل واضح عن ثورة القوميين الاجتماعيين بزعامة أنطون سعاده رداً على مؤامرة الدولة اللبنانية وحزب الكتائب على الحزب القومي، وتوالت الأحداث سريعاً وانتشرت أخبار انتقال سعاده الى دمشق، وخيانة حاكم سورية حسني الزعيم بالقبض على سعاده وتسليمه الى الحكومة اللبنانية، وأسدل الستار على أكبر مؤامرة اغتيال رسمي في القرن العشرين…

«… في مطلع العام 1953 ظفرت بوظيفة مدرّس رسمي في قرية غرب بعلبك. في هذه القرية تعرّفتُ على مدير مشتل زراعي يدعي: مصطفى الحاج سليمان 2 من بلدة «بدنايل»، جمعت بيننا مودة وصداقة، ثم اكتشفت أنه قومي اجتماعي، يتكلم نفس اللغة التي سمعتها من الزعيم سعاده. لمست في مصطفى وعياً، مستفيداً من سهرات لعب الورق، فدفع إليّ بكتابين: نشوء الأمم والمحاضرات العشر. قائلاً: زوّد معرفتك بما قد تجده في هذين الكتابين، وكانت المفاجأة الكبرى عندما قرأت اسم المؤلف: انه انطون سعاده يعود إليّ من جديد!

«رحتُ اقرأ الصفحات خلال الليالي الطوال وكانت صورته مطبوعة في مخيلتي تتراءى لي من على صفحات الكتابين وهو في نفس الابتسامة المطمئنة التي رأيته فيها اول مرة، لقد توضحت الصورة وبانت حقيقة الرسالة التي يحملها، ومن اجلها استشهد في وقفة العز الكبرى!

«مرت سنة 1953 وعدت الى زحلة وأنا مصمّم على الالتزام بخط النهضة القومية الاجتماعية فاتصلت بصديقين كانا زملاء دراسة في الكلية الشرقية سابقاً وكنت اعرف أنهما قوميان هما الرفيقان: بهجت حمود 3 وجورج حمصي 4 ، كانا يعتبراني «عروبي الانتماء» أبديت لهما رغبتي، ففوجئا فأبلغتهما بأنني قرأت كتابيّ نشوء الأمم والمحاضرات العشر وإنني مصدق لما كتبه الزعيم وقاله… وهكذا أحيل طلب الانتماء الى مديرية المعلقة وفيها أقسمت اليمين بحضور الرفقاء: الدكتور لطف الله قازان 5 ، الاستاذ سليم محمد الزين 6 ، الشاعر يوسف حاتم الاشقر 7 وكان ذلك في آذار 1954.

«هذا التاريخ كان بدء إشارة الانطلاق في رحاب النهضة السورية القومية الاجتماعية متخذاً من مبادئها ايماناً لي ولعائلتي وشعاراً لبيتي! وأدخلت أفكار النهضة الى بيت الأهل وكانت المفاجأة أنني التقيتُ شقيقي خليل في أول اجتماع رسمي في المديرية وكان قد مضى على انتمائه مدة لم نكن نعرف بأنه عضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي.

«خمسون سنة مرّت كأنها دهر بكامله كانت حافلة بمراحل النضال زاخرة بوقفات العز وبأهمية المصداقية في الانتماء، تحمّلت خلالها العديد من المسؤوليات وأنجزت الكثير من المهمات الخطرة ذات السرية التامة وخاصة من العميد غسان جديد.

«خمسون سنة عملت خلالها مع جبابرة في الحزب، كبار المسؤولين، الأمناء: مصطفى أرشيد، سعيد تقي الدين، غسان جديد، جورج عبد المسيح، أسد الاشقر، عبدالله محسن، مصطفى عبد الساتر، مصطفى عزالدين، عبدالله سعاده، بشير عبيد، الشاعر أدونيس، وعشرات آخرون من جبابرة هذه النهضة العظيمة، قوافل قوافل مرّت من أبطال هذه النهضة، منهم من قضى شامخاً ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا!!

لعينيك يا سورية هذا قليل. «

هوامش

1 – كانت المحاضرات التي يلقيها سعاده وجُمعت لاحقاً في كتاب «المحاضرات العشر» تتمّ ايام الآحاد.

2 – هو الامين مصطفى سليمان حيدر الذي يهمّنا ان نعدّ نبذة تليق بتاريخه الحزبي.

3 – بهجت حمود: من «مجدل بلهيص». سنأتي على ذكره عندما نتكلم عن الحزب في بلدة شهدت حضوراً حزبياً جيداً، وكان منها الشهيد الأمين احمد حمود، والأمين منيب حمود، وغيرهما من القوميين الاجتماعيين المناضلين.

4 – جورج حمصي: من الشام، شارك في الثورة القومية الاجتماعية، وكانت له مسؤولياته الحزبية المحلية.

5 – لطف الله قازان: كان طبيب اسنان، تولى لفترة مسؤولية منفذ عام زحلة. يصحّ ان ننشر عنه نبذة تعريفية.

6 – سليم محمد الزين: من الكرك. تولى مسؤوليات محلية واستمر على ايمانه القومي الاجتماعي.

7 – الشاعر يوسف حاتم الاشقر: كان له حضوره الحزبي، والادبي في اربعينات وخمسينات القرن الماضي، للاطلاع على النبذة المعمّمة عنه الدخول الى قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى