نهى الخطيب سعادة… أيقونة شاشة الفنّ اللبناني الجميل

جهاد أيوب

يعرض «تلفزيون لبنان» حالياً، المسلسل القديم «النهر»، وهو بطولة نهى الخطيب سعادة، وسمير شمص وعماد فريد وعلياء نمري. والذي شكّل في حينه دعماً جيداً، وثقة كبيرة، وتجربة لافتة للدراما اللبنانية والعربية. وإعادة عرض أعمال كهذه، تعطينا الدروس في كيفية التعامل مع الفنّ النظيف لا المصنّع.

وما يلفت في «النهر»، شخصية القديرة المذيعة والممثلة نهى الخطيب سعادة، حالة تستحقّ الوقوف عندها، والاستفادة من سيرتها، وتجربتها ودورها. هي التي تعاني اليوم وضعاً صحياً حرجاً، نأمل أن تتخطاه، وتتصالح مع شمس الحياة والمواقف الثاقبة، لتظلّ ناطورة الذاكرة والفنّ والعطاء الجميل.

متدفقة في مشاعرها، ناعمة في همساتها، حادّة ومُحبة ومسالمة وثائرة في نظراتها، غنية في أداء يخدم الدور حتى البصمة، رقيقة حتى المواجهة الصلبة، غير متكلفة في تعابير وجهها، تقاسيم ملامحها شرقية بامتياز. كل هذا نشعر به، ويغزونا ونحن نشاهدها في أي عمل من بطولتها، وما وصلنا من حضورها الثاقب في «النهر» يقرّ أنها من نجمات الفنّ الحقيقي، ومن رائدات تلك المرحلة المهمة في تاريخنا. ولو عدنا إلى أرشيف الإبداع اللبناني سنجدها في طليعة الوجوه الإعلامية والفنية.

الصوت

لدى نهى مقدرة فائقة على أن تطربنا بصوتها المسكون بالمحبة والبعد الإنساني. هي ليست مطربة بل ممثلة تغامر في أن يكون صوتها جزءاً من الحالة التعبيرية. وهي ليست دمية في تقديم البرامج ومحاوَرة ضيوفها، بل تجعل صوتها منسجماً مع نوع السؤال وقوّته، وهذه النعمة، وفي هذا العصر أصبحت في خبر كان.

تلعب في صوتها كما لو كانت على خشبة المسرح، تقدّم من خلاله أبعاداً درامية تخدم المشهد الحالة الموقف. تتقن استخدامه بثقة لكون ذاك الزمن كان يركّز على الأداء الصوتي أكثر من حركة الجسد، وقلّما نجد اليوم هذا التميّز مع ممثلات الثوب العاري، والماكياج الفاقع، والشفط، والسليكون. لديها نعمة اللفظ الصحيح، والنطق السليم. وساعدتها في النجاح معلوماتها الثرية بلغة الضادّ، ما فرض وجودها بكلّ ثقة، وأدارت ذلك من خلال اللعب على الوتر الفني بحنوّ ودلال وقراءة وافية للدور ولإعداد ما ستقوله.

محتشمة في ملابسها، وبعيدة عن التصنّع في الأداء، وتعتبر التمثيل حالة روحية منفلتة ضمن حدود الدور ومتطلباته، وثقافة التقديم لديها ضرورية في معرفة المحاور المطلوبة. لا تؤمن بالثرثرة لمجرّد سدّ فراغات البثّ، ولا تعترف بالصراخ للفت النظر وسرقة الكاميرا كما هو متعارف عليه حالياً وللأسف. هي غنية بنعومة تفرض المتابعة، ووفية لمشهدها الذي تغنيه بالاحترام.

تنطق مفردات الكلام بلغة سليمة، تستخدم نفسها بمعرفة أصول مخارج الحروف شهيقاً وزفيراً، وهذه حالة رغم ضرورتها تجهلها غالبية من يقدّم البرامج، ومن يمثّل في هذا الزمن. وربما إتقانها لغة الضادّ يمكّنها من اكتشاف مواهبها وعفويتها، ويصالحها مع حضورها.

التقديم والتمثيل

نهى الخطيب سعادة ليست ممثلة عادية فقط بل أهمّ، وليست إعلامية لمجرّد الوظيفة وفقر الوجوه النسائية آنذاك بل أعمق. هي مزيج بين الحالتين المحببتين إليها وإلينا، لذلك تركت بصمة أحببناها بهما، دخلت مجال التقديم بثقة وثقافة وعلم ومسؤولية، كانت ولا تزال حينما يعرض لها عمل قديم تثري مسامعنا وبصرنا وفكرنا، تقدم متعة جميلة ووافية، تفيد من يرغب بخوض عالم التقديم ومجال التمثيل.

لا تدّعي الكلام، ولا تتعمد التمثيل، لا تؤمن بالأسئلة الفارغة، ولا بحركات بهلوانية من أجل تعمّد الإضحاك. لا تمثّل حينما تبتسم ولا ترفض عفوية الضحكة الموقف، حاضرة في التعامل مع الموقف بسرعة بديهية، لذلك تستوعب خطواتها الانفعالية الطارئة حيث تشكل مساحة كبيرة لتثبيت الحضور الإعلامي والتمثيلي الثاقب.

كل ما في نهى الخطيب سعادة ينطق حتى لو تعمدت الصمت، وكل ما فيها يقنع المتلقي وهو يعلم أنها تمثل، ويسافر مع الدور بعيداً عن انفعالات مرتجلة ومتعمدة قد تشنج المشهد والمتابع. لا تتصنع في الدور، ولا تتعمد الفوقية حتى تجعل ممن يمثل أمامها مربَكاً يصاب بعارض من الإرباك أو بفوضى الضحك وفوبيا التمثيل. هي، وبعيداً عن التكلف، توفر وبهدوء مساحة لمن يقف أمامها أو لمن تحاوره، وتجعله يتفهم من جرّاء سلاسة فعلها وكلامها وحركاتها، طبيعة دوره وبثقة.

لم تتخرّج في معهد التمثيل، ولكننا ولمجرّد متابعتها وقراءة دورها حتى نتعلم منها الكثير وعلى أكثر من صعيد في ا علام وأصول التقديم، وفي التمثيل وعفوية التواصل، وببساطة يعود السبب إلى ما تملّكه من قدرة على الإقناع.

شكّلت مع زوجها المخرج الكبير إيلي سعادة ثنائياً فنياً محبّباً، علّمها أصول الوقوف أمام الكاميرا حينما وجد فيها خامة مطواعة، وأخذها من التقديم إلى التمثيل من دون أن يفرضها. وهي بذكاء الباحثة اكتشفت الفرق بين هذا وذاك فظلّت أمينة لتقديم البرامج والحوارات المنوّعة والثقافية والتمثيل بمختلف أدواره وشخوصه.

واللافت، ورغم شخصيتها الجادة والوقار الذي تتمتع به مشاركاتها مع الراحل نجيب حنكش في تقديم برامج حوارية منوعة فنياً ما بين الثقل في التقديم، وطرح المواضيع الفنية والثقافية والمنوّعات الراقضة والأغاني، والأهم استيعابها النكات والأجواء الضاحكة التي يفرضها نجيب حنكش، وشكّلا معاً في تلك الفترة ثنائياً محبباً لقلوب المشاهدين، ولمتعة الفرجة، والمعلومة الهادفة.

في التمثيل لعبت نهى الخطيب سعادة أدوار البطولة إلى جانب مداميك الفنّ اللبناني البنّاء، ومن مميزاتها إتقان القراءة والحفظ السريع، ويقال إنها كانت تحفظ جميع أدوار زملائها وحواراتهم، و تعمل على تصحيح اللغة.

أحبّ العمل إلى جانبها كلّ من وقف ـمامها، ولم يسمع منها أو عنها كلمة نابية، وعلاقتها مع الجميع بنيت على محبة متبادلة. واللافت أن القديرة الراحلة لمياء فغالي شاركتها غالبية مسلسلاتها حيث أبدعت في تجسيد دور أمها، وهذا أعطاها ثقة الوقوف والتواصل والتمثيل. لمياء لم تكن مجرّد ممثلة لدور الأم والسلام، بل كانت واعية وفاهمة طبيعة دورها وحضورها ومساحة وجودها. فنانة أثرت الفن وأغنته، وعلّمت كلّ من وقف أمامها أصول الأداء الصحيح. لمياء من أيقونات مختلفات زرعن في أرض الإبداع الشجر المثمر، ونظلمها مع رفاق دربها كلّما تجاهلهم الإعلام كما لو كنا من دون تاريخنا.

ونهى الخطيب سعادة كانت تدرك أهمية ما قدّمه الجيل الذي سبقها فاحترمته كإعلامية أولاً، وكممثلة ثانياً. ما أوجد ثقة عارمة صبّت في خانتها. وانسجامها مع لمياء فغالي أعطى الشاشة جمالية تفرض علينا كلما شاهدناهما معاً في الزمن الماضي والمتدفق متعة وإفادة.

البدايات

دخلت نهى الخطيب سعادة أروقة «تلفزيون لبنان» «القناة 11» في الحازمية عام 1962، وبدأت مذيعة ربط فقرات، وقدّمت أهمّ البرامج الحوارية المنوّعة والفنية.

غالبية ما قدّمته على صعيد الدراما من إخراج زوجها إيلي سعادة. وأوّل أعمالها كان «النغم الحائر» إلى جانب إحسان صادق أواخر 1962، و تلاه مباشرة «الخديعة» مع محمود سعيد، و«الجوال»، و«حتى نلتقي»، و«النهر»، و«لمن تغنّي الطيور؟»، الذي قدّم جنريك العمل له الفنان سامي كلارك، و«غرباء»، و«البخلاء».

لم تقتنع نهى الخطيب سعادة باللهجة المحلية بالمطلق، كانت متعصّبة للأعمال المتحدّثة بحوارات اللغة الفصحى إلى حين تم إنتاج أوّل مسلسل لبناني كمغامرة لم تلقَ التشجيع خوفاً من فشلها. ولكون حوارات العمل باللهجة المحلية، وهو «رمال بين الأصابع»، وقد رفض أنتاجه من قبل «قناة 11» آنذاك، فتم إنتاجه في الأردن، قصة وسيناريو وحوار وليد أنيس خاطر جورج خاطر ، بطولة إحسان صادق، وسميرة بارودي، ومن إخراج حسيب يوسف، وتم تصويره في ستوديو التلفزيون الأردني، وعرض للمرّة الأولى في عمّان عام 1978، ومثّل فيه عدد كبير من الممثلين اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والأردنيين. وحينما نال جائزة أفضل قصة وسيناريو وحوار من مهرجان إيران، سعت «قناة 11» بكلّ ما تملك كي تعرضه.

أصعب ما تعانية اليوم نهى الخطيب سعادة أنها تشاهد انهيار ما صنعته مع أبناء جيلها والجيل الذي سبقها من قلاع الفنّ الجاد والنظيف. ورغم ملاحظاتنا الفنية حينما نشاهد تلك الأعمال الآن، تبقى أرحم مما نشاهد حالياً، وهي ذهب الذاكرة، ولكننا نحترم تلك الجهود الذهبية رغم الإمكانيات التي كانت متوفّرة.

نهى الخطيب سعادة التي لقّبت بالبرشامة لرقّتها وعذوبتها وسرعة ذوبان المُشاهد في حبّها، هي اليوم تعيش أزمة الحزن على ماضٍ كانت مساحة الأحلام فيه كبيرة، وأزمة وطن كانت مساحة الأحلام تغمر كلّ من عاش على أرضه. كلّ هذا يتلاشى اليوم أمامها وبحسرة. أزمة زادت من حدّة مرضها الذي تعاني منه. مرض أصابها بالخوف على ما تبقى عندها من ضياع أحلامنا المؤجّلة، لأحلام اغتالت ما تبقى من إنسان يحترم إنسانيته ووطنيته، وقد يغتالها أكثر الجحود والإهمال المتقن من قبل الدولة ومؤسّساتها ووزارة الثقافة وبعض الإعلام.

نهى الخطيب سعادة تحتاج منّا إلى تحية وفاء واحترام وتقدير، ومحبة عارمة لكثرة ما بذرته في حقول الذاكرة. لها منّا تاج التميّز والريادة والعطاء، لها منّا صفحات من ذهب كتبت بعرق الجبين وتعب السنين وأشواك الحنين، لماض كلّما عدنا إليه نتعلّم ونرفع القبعة احتراماً له ولمن عمل فيه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى