أميركا القوية الضعيفة

ناصر قنديل

– عندما يصير سقف الكلام الأميركي مرتفعاً عن لغة التلويح بخيارات غير دبلوماسية ينتظر الكثيرون خطوات أميركية عملانية، لكن المقارنة السريعة بقرار صرف النظر عن الحرب عام 2013 رغم فوارق هائلة لصالح خوض الحرب وقتها، وليس اليوم، سواء لجهة وضع الولاية الرئاسية الأميركية أو لجهة التعبئة السياسية والنفسية والإعلامية والعسكرية للحرب، والشعار الذي اتخذ من السلاح الكيميائي عنواناً، أو الأهمّ أنّ تلك الفرصة كانت بغياب تموضع عسكري روسي بالحجم النوعي الذي تشهده سورية، وقبل التفاهم النووي مع إيران، وقبل التورّط العسكري السعودي المرهق في اليمن، وقبل تعديل الموازين لصالح الجيش السوري بقوة في الميدان، وقبل أن ترتبك تركيا بملفاتها وعلاقاتها وخياراتها. ومَن صرف النظر يومها تهيّباً للثمن والكلفة، لن يفعلها اليوم، ووزير خارجيته جون كيري يقول في التسجيل المسرّب عبر «نيويورك تايمز» إنّ التصعيد سيجلب التصعيد، وإنّ الشعب الأميركي لا يريد مزيداً من الحروب، وإنّ الكونغرس لن يمنح تفويضاً لحرب، وأهمّ ما يجب قوله هو أنّ قرار الانسحاب رغم مجيء الأساطيل كان بحصيلة تقدير موقف للبنتاغون الذي يفترض كثيرون اليوم تشجيعه لخيار المواجهة، استناداً لعدم تحبيذه خيار التفاهم.

– يتصرف البنتاغون بوحي مصالح الشركات الكبرى في الصناعات الفضائية، خصوصاً الصواريخ المحمّلة بالرؤوس النووية، لتفادي أيّ تفاهمات عسكرية مع روسيا تجعل التفاهم على تدوير البلوتونيوم الذي جمّد مفاعيله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ يومين، بنداً رئيسياً في أيّ تعاون روسي أميركي. وهو بند مرهق للشركات ومصدر خسائر لا طاقة لها على تحمّلها. كما يتصرف البنتاغون على خلفية أنّ الملفات الإقليمية ليست هماً أميركياً لتضطر واشنطن دفع فواتير تنفيذها. فهي مجرد محاولات لتخفيف خسائر وتحقيق أرباح لحلفاء، لا يبدو أنهم مرتاحون لما يتضمّنه التفاهم وتفترضه الخارجية الأميركية بلسان كيري، حلاً مثالياً، مضمونه شراكة المعارضة والجماعات المسلحة في حكومة سورية موحّدة، تمهيداً لانتخابات يشارك فيها الرئيس السوري، مقابل شراكة أميركية في الحرب على جبهة النصرة، بينما يرى البنتاغون أنّ مجرد رفض الجماعات المعنية بالحلّ السياسي ترفض التفاهم يكفي لتعليقه، خصوصاً لتضمّنه بنداً يفترض التعاون العسكري الأميركي الروسي بينما تستطيع واشنطن أن تترك الجماعات السورية لتنضج عبر مسار الحرب لطلب الحلّ، أو أن تخوض روسيا وحلفاؤها حرب النصرة، وتنتظر واشنطن استحقاق الحرب على داعش، وعندها تعود للتفاهم.

– يعتبر دعاة تعليق التعاون العسكري الروسي الأميركي أنّ أميركا قوية لدرجة أنها لا تحتاج دفع ثمن التفاهمات من هيبتها، فأسوأ خيار ينتظرها هو انتصار كامل للدولة السورية وجيشها ورئيسها. وفي هذه الحالة سيكون على الدولة المنتصرة شرعنة نصرها وتطبيع علاقاتها بالخارج وفي مقدمته الغرب، واسترداد مكانتها في الأسواق العالمية، والعودة للمتاجرة والتعاملات المصرفية، وهذه كلها مفاتيحها أميركية، وعندها يكون للتفاوض معناه ومبرّراته وتضع أميركا معادلاتها المصلحية المباشرة وليس معادلات غيرها، كيف وأنّ هذا الغير يعتبر أنّ لديه بدائل أفضل، والانتظار هنا مع بعض الدعم المعنوي والسياسي وقليل من معونة عسكرية للجماعات المسلحة تعزيزاً لصمودها دون التورّط بالتصعيد، يشكلان خياراً أمثل من خوض معركة تطبيق التفاهم بوجه حلفاء واشنطن، والظهور بمظهر المتنازل الضعيف الذي باع حلفاءه للروس.

– أميركا تنكفئ في السياسة الخارجية من خطط التدخل، وتستغني عن جيوشها كأداة لصناعة السياسة، وتكتفي بالاحتماء وراء جدار القوة المالية والدبلوماسية والقانونية، الذي تختصره في الحرب العقوبات والمقاطعة، ويصير عكسه في حالات السلم، كما تحتمي «إسرائيل» وراء جدار عازل من الإسمنت، تعبيراً عن العجز عن الحرب والعجز عن السلم، وكما تعجز السعودية عن صناعة حربها في اليمن وتعجز عن صناعة سلمها، مع فارق أنّ الجدار الأميركي حقيقي، وليس وهمياً، وأنّ فعاليته الحربية بعد تجارب الحصار والعقوبات مع إيران ولاحقاً مع روسيا، أدت إلى فشله لإضعاف الخصوم والتمهيد لسقوطهم أو خضوعهم، لكن فاعليته الإيجابية في حالات الترغيب بفتح الجدار أمام الخصوم بموجب تفاهمات تلغي العقوبات، لا تزال حقيقة.

– هذه هي أميركا القوية الضعيفة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى