الصحافة العبرية وصراع ترامب ـ كلينتون… «رِجل بِالبور ورِجل بِالفلاحة»

يستحوذ الصراع الذي يخوضه كل من دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، على اهتمام الإعلام في العالم أجمع. ويومياً تُفرد لهذه المسألة مساحات واسعة في الصحافة الأميركية، والصحافة الأوروبية وأيضاً العربية. إذ يطّلع القارئ أنّى كان على التطورات الأخيرة الحاصلة في هذا الصراع، ودرجات التقدّم والتأخّر لدى كلّ مرشّح، خصوصاً بعد أيّ مناظرة يخوضانها، أو أيّ تصريح يدليان به، أو أيّ فضيحة يماط اللثام عنها.

وإذا كانت الصحافة الأميركية الأكثر تسليطاً للضوء على هذا الصراع ـ بحكم المنطق ـ فإنّ الصحافة العبرية، تعكس إلى حدّ ما وجهات النظر التي تتبنّاها الإدارة السياسية في الكيان الصهيوني، وإلى حدّ أبعد، وجهات نظر اليهود عموماً.

ومَن يتابع المقالات التي تتصدّر عدداً من الصحف العبرية بشكل شبه يومي، يعرف أنّ الحكومة الصهيونية، ولا «الإسرائيليين» حتّى، يعرفون ما الذي يريدونه من الرئيس الأميركي العتيد. فتارةً تنتقد الصحافة العبرية ترامب بأقذع الأوصاف، وتارة أخرى تنتقد كلينتون، فيما نجدها تتودّد إلى ترامب حيناً، وإلى كلينتون أحياناً… لا أحد يعرف من المرشّح السيّئ بنظر اليهود، ومن الجيّد.

في التقرير التالي، نورد عدداً من المقالات التي نُشرت في صحف عبرية عدّة بدءاً من 10 تشرين الأول الجاري، وحتى السبت الماضي.

قصة عن ترامب والظلام

كتب آري شبيط في «هاآرتس»:

حتى وإن كان خبير الإحصاء نايت سلفر على حق، وهُزِم دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، فإنّ الظلام أصبح هنا. مجرّد حقيقة أن «أزعراً» يكره الأجانب ويهين النساء ويطرد المهاجرين، نجح في الفوز بتأييد أكثر من ثلث الأميركيين، تثبت أن الظلام هنا. ومجرّد حقيقة أن شخصاً يعرف الواقع ويفخر بقدرته على إطلاق النار على الأشخاص في الجادة الخامسة وإمساك النساء من أعضائهن الجنسية، وصل إلى حيث وصل، تثبت أن الظلام هنا. وحقيقة أن الحزب الجمهوري لم ينجح في التخلّص من متهكّم سياسي، ووجدت هيلاري كلينتون صعوبة في الانتصار على ديماغوجي، تثبت أن الظلام هنا. حتى ولو انتصر أبناء النور بشكل كبير في 8 تشرين الثاني، فما زال أبناء الظلام باقين معنا. إذ إنّ الانتخابات الأكثر فظاعة والأكثر جنوناً في الولايات المتحدة منذ السنوات الـ150 الأخيرة، أثبتت لنا جميعاً أن الظلام قد تحوّل إلى جزء لا يتجزّأ من حياتنا.

أميركا ليست وحدها. ففي الانتخابات القريبة في هولندا الليبرالية هناك فرصة لليمين المتطرّف للحصول على ربع أو ثلث الأصوات. وفي الانتخابات القريبة في فرنسا المتنوّرة هناك فرصة جيدة لليمين المتطرّف للحصول على تأييد غير مسبوق. وعادت بولندا لتكون المحافِظة بحسب ردود الفعل. وهنغاريا عادت إلى القومية الراديكالية. وفي بروسيا يسيطر ديكتاتور يتمتّع بهالة ذكورية نصف فاشية. وحتى في بريطانيا العظمى فإن إرضاء الشعب يرتدي أحياناً كثيرة اللون الأسود من كراهية الآخر. وفي اسكندنافيا تتصاعد قوة الذين يُحدثون القشعريرة في الظهر.

إذاً، هذه الظاهرة هي عالمية. الديمقراطية الليبرالية تعيش أزمة عميقة وتتعرض الحضارة إلى هجمة. بسبب عدم قدرة الحكومات المنتخبة على العمل بشكل معقول، هناك الكثيرون ممن هم محبطون. بسبب عدم قدرة الرأسمالية الجديدة على تقديم الحدّ الادنى من العدالة الاجتماعية. الكثيرون غاضبون، بسبب عدم قدرة العولمة على الدفاع عن الهويات القومية والثقافية، الكثيرون خائفون. الإحباط، الغضب والخوف تدخل إلى الساحة الجماهيرية التي مرّت بعمليات جنونية. وهكذا ينشأ واقع سياسي جديد متخلف، حيث أن القوات البربرية الجديدة تزداد وتزدهر. الانجازات الكبيرة التي سجلتها الحضارة منذ الحرب العالمية الثانية آخذة بالتآكل. الضوء الذي أحضرناه للعالم في السنوات السبعين الأخيرة محاط بمزيد والمزيد من الظلام.

والسؤال الذي يجب أن يسأله اليهود في «إسرائيل» والشتات لأنفسهم اليوم هو: أين يقفون أمام هذا الظلام؟ في السابق كان جوابنا واضحاً: لقد اخترنا النور. وباستثناء جماعات هامشية متطرّفة، أيد اليهود دائماً الحضارة وكافحوا ردّ الفعل. هذا ما حدث في قضية درايفوس، أثناء الصراع الذي قاده مارتن لوثر على روح أميركا والمعركة ضد الفاشية. وهذا ما حدث أيضاً في «إسرائيل». سواء كنا في اليمين أو اليسار أو الوسط، عرفنا دائماً أنه من واجبنا كيهود الوقوف ضد تلك القوى الظلامية التي تهدّد النسيج الشفاف للديمقراطية الليبرالية.

تبدو الأمور الآن مختلفة قليلاً. بنيامين نتنياهو يحب فلادمير بوتين. صحيفة «شلدون أدلسون» تحب دونالد ترامب. حفلة الشاي «الإسرائيلية» تحتفل مع حفلة الشاي الأميركية. جهات يمينية متطرّفة في القدس تتعاطى مع أحزاب يمينية متطرّفة في أوروبا. ولأن عام 2016 ليس عام كراهية اليهود، بل من هم غيرهم المسلمون والافارقة وغيرهم ، فإن بعض اليهود يفقدون الضمير والبوصلة. من المريح لهم التدافع في ساحات الديكتاتوريين الذين علقوا لاساميتهم بشكل موقت. ومن المريح لهم التواجد قريباً من المتنفذين الذين يدوسون على حقوق الانسان، لكنهم يحترمون اليهود والدولة اليهودية بشكل موقت. هكذا هم يتركون الاخلاق اليهودية. وهكذا هم يضرّون المصلحة اليهودية. ومن دون قصد أو معرفة يساعدون من يُظهرون الظلام في النفس البشرية، هذا الظلام الذي حاربه اليهود دائماً وأبداً.

الإعلام الأميركي ينحاز لهيلاري

كما كتب بوعز بسموت في صحيفة «إسرائيل اليوم»:

إذا حكمنا حسبما نُشر في وسائل الإعلام الأميركية، فبعد 22 يوماً بدءاً من 16 تشرين الأول الجاري سيكون هناك استفتاء شعبي حول إمكانيات وطابع وتصريحات المرشح ترامب وعن معاملته السيئة للنساء. إلا أنه في 8 تشرين الثاني ستكون انتخابات بين مرشحين، الأول دونالد ترامب والثانية هي هيلاري كلينتون، التي لديها هياكل عظمية في الخزانة بحسب «ويكيليكس»، قد يكون أكثر دقة القول، مقابر . لكن مشكلاتها يمكن إخفاؤها كما يبدو. إن التجنّد من أجل إسقاط ترامب في وسائل الإعلام الأميركية هو عام وشامل.

منذ الكشف عن فيديو ترامب من عام 2005، في «واشنطن بوست» حيث سمع وهو يقول كلاماً مهيناً جدّاً للنساء، انضمّ عدد كبير من النساء للمنافسة. كل واحدة وفضيحتها، حيث يتّهمن ترامب بالتحرّش الجنسي بهن. والتوقيت لم يكن صدفة… ترامب من ناحيته ينفي. وعلى الناخب أن يقرّر من الذي سيصدقه.

يبدو أن وسائل الإعلام قرّرت مصير ترامب. للتذكير، في بداية الاسبوع، قبل المواجهة التلفازية الثانية في ولاية ميزوري، عقد ترامب مؤتمراً صحافياً مع أربع نساء زعمن أن الكلينتونيين أضرّوا بهن قبل سنوات طويلة ثلاثة منهن تضررن جنسياً من الرئيس السابق بيل كلينتون، والرابعة شعرت بالضرر بعدما دافعت هيلاري كلينتون، المحامية، عمّن اغتصبها حينما كانت تبلغ 12 سنة . هذه القصة لم تثر الضجة، بل على العكس، ترامب هو الذي تعرّض للنار. قالوا إن هذه قصة قديمة، وقالوا إنه ليس بيل كلينتون هو الذي يرشّح نفسه للبيت الابيض. باختصار، هذه القصة لم تثر ضجة أبداً. يبدو أنه في ظل الانتخابات الحالية، القصة ليست فقط ماذا فعلت، بل لأيّ معسكر تنتمي. مشكلة ترامب الكبيرة هي حقيقة أن ظهور النساء يتم الآن مباشرة بعد الكشف عن الفيلم من 11 سنة. التوقيت كامل حتى لو زعم من يؤيدون هيلاري أنه صدفيّ.

المشكلة في القصة التي أمامنا ليست فقط بما كشف عن ترامب اذا كانت صحيحة فهي تتطلب النفي . المشكلة في هذه القصة هي غياب التوازن لدى وسائل الإعلام الأميركية. وسائل الإعلام تدفن أخطاء هيلاري، جاء في أحد العناوين في صحيفة «وول ستريت جورنال»، «إنها لم تتساهل مع ترامب في منافسته على الرئاسة، ولكن المقال ينقذ احترام وسائل الإعلام الأميركية. كل ناخب عادي شاهد التلفاز مدة خمس دقائق في هذا الاسبوع، اكتشف بالتأكيد أن ترامب قال أموراً صعبة قبل عقد. والآن هو متّهم بالتحرش. من ناحية أخرى، اذا كان ذلك الناخب يشاهد التلفاز مدة 24 ساعة وسبعة أيام في الأسبوع بشكل متواصل، فهو لن يلاحظ الأخبار حول كلينتون: كل ما اشتبهنا به تجاهها، تم التأكد منه بشكل ما».

يبدو أن حقيقة أن نصف الاشخاص الذين التقت معهم كوزيرة للخارجية، تبرعوا في ما بعد لصندوق زوجها، ليست فضيحة بما فيه الكفاية.

يبدو أن حقيقة قطر، التي تموّل الارهاب العالمي، والتي موّلت صندوق كلينتون، خلافاً لما قالته هيلاري إنها لا توافق على تمويل حكومات أجنبية للصندوق عندما كانت وزيرة للخارجية الأميركية، هي أيضاً ليست قصة كبيرة بما فيه الكفاية بالنسبة إلى وسائل الإعلام.

حقيقة أن كلينتون تتحدّث بشكل معاكس لموظفي البنوك والشعب، تريد من جهة تهدئة الاتحادات المهنية بأنها لا تضغط عليها لتغيير سلوكها. ومن جهة أخرى تتوجه إلى الطبقة الوسطى وكأنها ممثلتها، الأمر الذي يثبت فقط عدم منهجيتها. وهذا أيضاً لا ينجح في خلق العناوين.

حقيقة أنها قامت بإخفاء الرسائل الالكترونية وأعطت روايات مختلفة حول هذا الامر، وأن شخصاً ما قام بشطب الأدلة، أيضاً لم تكن هامة بما يكفي بالنسبة إلى وسائل الإعلام، رغم الاقوال الشديدة لرئيس «FBI» الذي أثبت خطأ ادّعائها بأنها لم يسبق أن أرسلت مواد سرّية.

22 يوماً قبل الانتخابات ومشكلات ترامب فقط هي التي تهمّ وسائل الإعلام. ما كشفه «ويكيليكس» حول هيلاري لم يصنع العناوين. وماذا لو كان لهيلاري موقفان، جماهيري وخاص، حول البنوك، الثراء، الحدود والطاقة. ماذا في ذلك؟ قد يكون الشعب هو الذي سينتخب، لكن وسائل الإعلام سباقة دائماً.

«ويكيليكس» يكشف أيضاً تعاون وسائل الإعلام مع حملة هيلاري: دونا برازيل مثلاً، التي كانت نشيطة في السابق في طاقم هيلاري، طرحت مسبقاً لحملة هيلاري السؤال في اجتماع خاص نظّمته «CNN». وسائل إعلام أخرى سمحت لحملة هيلاري باستخدام الفيتو حول عدد من الاسئلة لم تعجبها. والويل للصحافي الذي يجرؤ على الانفصال عن القطيع.

بين كلينتون وترامب… المعضلة اليهودية

كتب يوسي شاين في صحيفة «يديعوت أحرونوت»:

حتى بعد المواجهة الأخيرة بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، تبقى المعضلة اليهودية في الانتخابات الحالية حادّة. من جهة، كيف يمكن ليهودي أن يتماثل مع شخصية أخلاقية إشكالية بهذا القدر وموضع خلاف شديد مثل ترامب ومن جهة أخرى، إلى أي حدّ لا يزال اليهود يلتزمون بالمنظومة الديمقراطية، التي ابتعد كثيرون من زعمائها وناخبيها في السنوات الأخيرة عن القيم الجوهرية التقليدية للمركز الأميركي.

على مدى عشرات السنين تماثل اليهود في الولايات المتحدة مع المركز الليبرالي، الذي وعدهم بمكانة أقلية شريكة في الحلم الأميركي ومتماثلة مع الفكرة الديمقراطية الأميركية، التي ألصقت أيضاً بالعلاقات «الإسرائيلية» الأميركية. ولكن هذه الفكرة تآكلت في السنوات الأخيرة بين الديمقراطيين التقدميين، مثل بيرني ساندرس، ممّن ابتعدوا أيضاً عن العطف على اليهود كأقلية. أما اليمين المحافظ فمنح اليهود مكاناً أكثر أماناً. وإضافة إلى ذلك، فبينما كفّ الديمقراطيون التقدميون عن النظر إلى «إسرائيل» كدولة ديمقراطية، بل دولة احتلال، عرض الجمهوريون «إسرائيل» كرأس حربة في الكفاح من أجل الديمقراطية في العالم.

في الانتخابات الحالية يمثّل ترامب فكرة العودة إلى القبلية، الخوف من الكونية، مطلب العظمة الأميركية على أساس قيم الماضي ومعارضة الفاعلية الاجتماعية المناهضة للرأسمالية. كل هذه قيم خاف منها دوماً الليبراليون اليهود، الذين خافوا أيضاً من العناصر الدينية المسيحية لهذه الفكرة.

كثيرون من اليهود المتدينين أكثر، الارثوذكسيين والارثوذكسيين جداً، وهم جماعة آخذة في الاتساع بين يهود الولايات المتحدة، يشعرون بالأمن حتى حيال هذه الرسائل. فهم لا يخافون اللاسامية البيضاء القديمة ولا يتردّدون في تعريف أنفسهم كجماعة قبلية متميزة. وفي لقاء مع يهود جمهوريين قال لي من استضافني بمزاح ان الفرق بين اليهودي الاصلاحي وبين ترامب هو أن الأخير على الاقل سيكون أفاد يهود.

بالمقابل، يوجد اليهود الليبراليون في شرك. مجتمعاتهم تضعف بسبب الزواج المختلط وتآكل الهوية العرقية اليهودية لديهم. والتركيز على الفاعلية الاجتماعية الكونية، التي يحبون أن يسموها «إصلاح العالم» أبعدهم أكثر عن التجربة اليهودية القبلية. وليس صدفة أن وصف أوباما اليهودية الليبرالية الأميركية بتعبير «كلّنا يهود».

في الانتخابات في تشرين الثاني القريب المقبل سينتخب كثيرون من اليهود القبليين ترامب، رغم أن صورته، شخصيته، خطابه ورسائله بعيدة جداً عن التجربة والتقاليد الثقافية اليهودية الأميركية. هم أيضاً، عملياً، ابتعدوا عن هذه القيم والتقاليد. ولا يزال، من المتوقع للغالبية اليهودية الكبرى ان تصوّت لكلينتون لأنهم يعتبرون ترامب غير متوقع وخطير.

رغم التغييرات الدراماتيكية التي تجري في الجالية اليهودية وصعود القوى المتدينة أكثر من ناحية عددية، فإن يهود الولايات المتحدة في معظمهم يخشون من انعطافة متطرّفة قد يأخذها ترامب. وهم لا يعتقدون أنّ بوسعه ان يقود الولايات المتحدة بشكل منظّمة، إن ولايته كرئيس قد تثير الاضطراب الاجتماعي الذي سيؤثر ضمن أمور أخرى على المنظومة الاقتصادية. وحتى اليهود في المركز الديمقراطي، ممّن ينفرون من الصوت التقدمي في الحزب ولا يثقون بكلينتون، سيفضلونها عليه. المتوقع حتى لو كان إشكالياً.

بشكل مفاجئ، يكاد الموضوع «الإسرائيلي» يختفي في الانتخابات. في المعسكر الديمقراطي يمتنعون في هذه المرحلة عن المواجهة مع حكومة «إسرائيل» خشية أن تعمد تلك القوى اليهودية في المركز والتي هتفت لترامب في مؤتمر «آيباك» إلى اتخاذ خطوة أخرى فتصوّت له. عملياً، فإن حملة هيلاري في هذه اللحظة هي التي توقف الادارة عن العمل على مبادرة دولية في موضوع النزاع «الإسرائيلي» ـ الفلسطيني.

وإلى ذلك، فإن الزعامة اليهودية في الولايات المتحدة تجلس على الجدار وتجتهد ألا تعلق في عين العاصفة، التي تصل إلى هوات جديدة وغير محتملة. يهود أميركا، مثل أميركا كلها، يوجدون في انقسام كبير في حملة الانتخابات هذه، ولكن زعماءهم يفهمون جيداً أنه يجب بذل الجهود لتقليص الشروخ الداخلية، بما في ذلك في الموضوع «الإسرائيلي»، في مواجهة المجهول.

كلينتون مديرة موبّخة… وترامب أبٌ غاضب

كتب ناحوم برنياع في صحيفة «يديعوت أحرونوت»:

اثنان يقفان على المنصة. واحدة تتخذ وجه مديرة مدرسة، متشدّدة، دقيقة، مرشدة، موبّخة، مثل منيرفا مكونغل، المعلمة من مسلسل هاري فوتر، باستثناء أنها من دون أعمال سحرية الثاني هو الأب المعربد الذي يهدّد بتفجير المدرسة. خطواته دبّية، مهدّدة وجهه يعبّر عن اشمئزاز، لغته هزيلة كما أنه أزعر سيّئ المزاج ودوماً ضحية. القوة التي تنبع منه رادعة، ولكنه ليس عديم الكاريزما. هو من نوع الاشخاص الذين يخرجون من الآخرين ما فيهم من شر. اذا كانت هي منيرفا مكونغل، فهو لوسيوس مالفوي.

إذا كان هذا يبدو لكم التركيبة اللازمة لبرنامج واقعي تلفزيوني من النوع المتدني، وليس منافسة على زعامة العالم الحر، فهو بالفعل هكذا.

يجدر بنا العودة لتذكير القارئ «الإسرائيلي» بأنه ضيف غير مدعوّ إلى هذا الاحتفال. فليس لنا يتوجّه ترامب وكلينتون. ويجدر العودة إلى تذكيره بأن هذا ليس برنامج مسابقات من يجيب فيه على الأسئلة بالشكل الافضل هو الذي يفوز، بل هو خطوة تسويقية مركبة، أعدّتها فرق من الخبراء في الطرفين. فهما يبدوان وكأنهما يتنافسان الواحد مقابل الآخر، أما عملياً فهما يتنافسان كل واحد مع جمهوره المستهدف. إحدى الجمل الهادفة التي خلفها الراحل شايكا أوفير تقول ان في المناجاة المونولوغ يتحدّث المرء مع نفسه، أما في الحوار الديالوغ فيتحدث فيه اثنان كل واحد مع نفسه. كان هذا هو جوهر الحوار بين كلينتون وترامب في المواجهة.

الموقع المعتبر «بوليتيكو» قرّر أنّ هذه كانت المواجهة الأبشع في التاريخ الأميركي. تاريخ يمتد 56 سنة، إذا بدأنا الاحصاء من المواجهة التلفزيونية الأولى، بين كنيدي ونكسون. آخرون بلغوا بغضب لا حيلة فيه عن المواجهة الاكثر شراً، الأكثر دناءة، الأكثر كذباً. يخيل أنهم أخذوا العدوى من ترامب الذي حمل كل جملة له بـ«الأكثر»: الأكثر فظاعة، الأكثر رهبة، الأكثر حجماً.

مشوّق أن نتابع تغطية حملة الانتخابات في التيار المركزي للإعلام الأميركي: الكثير جداً من العواطف. وحتى أكثر المحللين وعياً يخرجون عن أطوارهم. معظمهم يمقتون ترامب ويشعرون بالذنب على مساعدتهم له في الوصول إلى هذا الحدّ بعضهم يمقتون الكلينتونيين. أحد منهم لا يبقى غير مكترث.

كلينتون تحسن في إعداد واجباتها. عشية المواجهة الاولى كانت مشكلتها الاكبر هي صورة المرأة التعبة، المريضة، المثيرة للشفقة، والتي استندت بالاساس إلى الفيلم الذي وثّق غيابها عن الوعي في مناسبة 11 أيلول في نيويورك، وبالطبع، إلى ما قاله عنها ترامب. فقد أثبتت نفسها، حيوية، مقاتلة، فحوّلت وجهة الزخم.

إلى المواجهة الثانية جاءت بقرار للتوجه إلى قطاع واحد لا يزال بحسب رأي قيادتها منفتحاً على التأثير ـ النساء البيضاء في الضواحي. في الساعات التي أجريت فيها المواجهة بثت بالتوازي مباراة بين فريقي الفوتبول الاكثر شعبية في الولايات المتحدة ـ «نيويورك جينترز» و«غرين بيه براكس». الرجال البيض في البلدات وفي الضواحي كانوا يشاهدون المباراة من على الشاشة الكبيرة في البيت، أما النساء فكنّ يشاهدن المواجهة من على الشاشة الصغيرة. كلينتون تحدثت إلى النساء. وحوّلت قسماً كبيراً من أجوبتها لتكون برنامجاً لربّات البيوت. هي، التي حرصت دوماً على أن تعرض نفسها كواحدة من الشباب، عضواً في الغرف الحربية، أصرت فجأة على تفصيل انجازاتها في التشريع الذي يخفف عن عملية تبنّي الاطفال، الموضوع الذي لم يطرح حتى اليوم في حملة الانتخابات. أنا واحدة منكن، قالت للناخبات في الضواحي. يسرّني أن تصوّتن لي. إذا كان صعباً عليكن، فعلى الاقل لا تصوّتن لهذا المزاجي، كاره النساء، الذي ينفخ من خلفي.

أما ترامب فجاء إلى المواجهة الثانية كي يوقف النزيف. ظهوره الحازم، المليء بالثقة بالنفس، دفن المؤامرة التي نسجت في المؤسسة الجمهورية للعمل على تنحيته. وبهذا المفهوم فقد نجح. ولكن مشكوك في أن يكون أقنع متردّداً واحداً، او متردّدة واحدة، بالتصويت له ومشكوك في أن يكون شطب عن جدول الاعمال الاشرطة المليئة بالفظاظة من الماضي. ربما العكس: فقد نجحت كلينتون في أن تخرج منه قولاً واحداً لم يقصد على ما يبدو أن يقوله في انه اذا انتخب سيحرص على إدخالها إلى السجن. وقد عزّز هذا القول الاحساس بأن الحديث يدور عن رجل عنيف، مناهض للديمقراطية، عديم التحكم بالذات، لا يعرف ما هو المسموح للرئيس عمله وما هو محظور عليه. المؤيدون المؤكدون صفقوا، ولكن هؤلاء كانوا يعتزمون التصويت له في كل الاحوال.

كان يمكن لكلينتون أن تهنأ أساساً بما لم يحصل في المواجهة. فهي لم تشعر بسوء، لم تضطر إلى المساعدة، لم تتعثر في لسانها. كل من يتصدر المواجهة السياسية يخاف قبل كل شيء من هذا. أما ترامب فاراد ان ينقل واجب البرهان اليها، إلى الاخطاء في معالجتها للرسائل الالكترونية، إلى قضية بنغازي، إلى الازمات في أميركا أوباما، وإلى قضايا زوجها الجنسية. أما هي فلم تنجر في ظل إظهار مثير للانطباع قدرتها على التحكم بالنفس. وكلينتون علق مع الاشرطة.

يحتمل أن تدير هذه المواجهة أقدام مزيد من الشباب عن صندوق الاقتراع. فهم يمقتون بقدر متساوٍ ترامب وكلينتون على حدّ سواء. من ناحية ترامب، حتى هذا يُعدّ إنجازاً.

خطوط حمراء هنا وهناك

وكتب ناحوم برنياع في «يديعوت أحرونوت» أيضاً:

في أثناء الحملة المذهلة التي وضعته على مسافة لمسة، بل وأي لمسة، من البيت الأبيض، قال دونالد ترامب أموراً كثيرة. أحد تصريحاته تناول المنشورات عن أفعاله في الماضي. «يمكنني أن اطلق النار على أحد ما في الجادة الخامسة. وحتى عندئذٍ لن أخسر الناخبين»، قال.

يتبين أن هذا كان صحيحاً حتى نقطة معينة. فمقطع الفيديو الصوتي من عام 2005، والذي تبجّح فيه بغزواته الجنسية وفصل في الحديث عن أعضاء النساء التي يسعى إلى الاتصال بها، كان على ما يبدو نزعاً واحداً أكثر مما ينبغي. فقد تميزت نهاية الاسبوع الماضي بالهرب الجماعي لشخصيات جمهورية مما بدا كسفينة غارقة. يحتمل مزيد من المفاجآت، ولكن الزمن الذي كان ترامب يمكنه فيه أن يطلق النار على أحد ما في الجادة الاكثر اكتظاظاً في منهاتن ويخرج بلا ضرر انتهى بلا رجعة. حتى ترامب نفسه يفهم هذا.

عن السباق إلى البيت الأبيض في 2016 ستكتب عشرات الكتب. مؤرخون، كُتّاب وصحافيون سيرهقون لوحة مفاتيح حواسيبهم في محاولة لشرح ما حصل، كيف حصل ولماذا. ثمة، مع ذلك، درس واحد إيجابي يمكنه استخلاصه من قضية الشريط منذ اليوم. يتبين أنه في الحياة العامة ليس كل شيء ينجح. توجد توقعات، توجد قيم، توجد خطوط حمراء حتى لدى اولئك الذين ملوا السلامة السياسية. كان يمكن لترامب أن ينكل بكل اولئك المساكين حتى حدود معينة. في اللحظة التي تبين انه ينزل إلى مستوى أدنى أكثر ممّا يجاز في أميركا في خطاب الرجال في البار، تبدّد السحر.

قوة هذا الدرس جميلة أيضاً للمجال العام في «إسرائيل». ففي السنوات الأخيرة تدور رحى صراع على تخليد رحبعام غاندي زئيفي. فقد نال زئيفي تخليداً رسمياً لأنه قتل على أيدي مبعوثي «منظمة إرهابية فلسطينية». فالمعلمون في «إسرائيل» يؤمرون بتعليم مذهبه في يوم واحد في السنة شوارع، طرق بين المدن وجسور، وربما مدارس أيضاً، سمّيت على اسمه الحكومة تعهدت باستئجار بيت يخلد فيه عمله.

المشكلة هي أن زئيفي لم يكن في حياته شخصية قدوة. العكس هو الصحيح ـ فقد كان ترامب، وأسوا من ترامب. تقرير لعمري اسنهايم، الذي بثّ هذه السنة في برنامج «عوفدا» التلفزيوني ادّعى ظاهراً بأفعال جنائية، بينها: أفعال اغتصاب لمجندات عملن تحت إمرته، تحرّشات جنسية، مساعدة بعد الفعل لقتل مزدوج في العالم السفلي، أفعال إرهاب وتنكيل بمنتقديه وعائلاتهم، وغيرها. بعض من هذه الافعال نشر في الماضي، ولكن زئيفي، مثل ترامب، لم يتضرّر. فقد حمته المنظومة.

بين أبناء عائلة زئيفي وسكرتير الحكومة الاسبق، تسفي هاوزر أجريت مفاوضات على البيت الذي سيخلد فيه زئيفي. العائلة ضغطت، وهاوزر استسلم. المبنى الذي اختير هو الخان التركي القديم في باب الواد، بيت له أهمية رمزية وتاريخية وموقع استراتيجي. وقد اتخذ القرار بخلاف رأي قدامى لواء هرئيل من البلماخ، ممن فقدوا في القتال هناك عدداً من رفاقهم. على المبنى ان يخلدنا، لا أن يخلد زئيفي، يقولون. في يوم الجمعة سافروا إلى باب الواد للتظاهر ضد القرار.

كان شيء ما مثيراً للانفعال، للتقدير، لاحتجاجهم، في العقد التاسع من حياتهم. ولكن مع كل الاحترام لعملهم، المشكلة التي تثور بسبب مشروع تخليد زئيفي لا تتلخص في العقارات. ومثلما فهم ملايين الأميركيين، بتأخير محرج، أن ليس كل شيء يمرّ، حان الوقت لأن يفهم هذا أيضاً متخذو القرارات في «إسرائيل». فأفعال زئيفي غير جديرة بالتخليد ـ لا أفعاله في الجيش ولا أفعاله خارج الجيش. إذا كانت ملابسات موته تستدعي تخليده، فيجدر عمل ذلك بتواضع وبعقل، لا بدروس تعليمية ولا على أم الطريق الرئيس إلى القدس أحد ما سبق أن اقترح، بنزعة شر، تخليده في بار ـ بقر، مشروع اللحوم الذي قتل فيه رفاقه ضحاياهم .

نحن نعيش في فترة انتقالية. المجتمع الأميركي يبحث عن طريقه في متاهة التصريحات العنصرية الفضائحة. والعاصفة التي نشبت حول دونالد ترامب هي مدعاة للحرج، ولكنها فرصة أيضاً. أحياناً تكون حاجة إلى وضع حدّ.

هذا هو الحكم بالنسبة إلى أرض رحبعام زئيفي. كل مجتمع وترامبه، كل مجتمع وحدّه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى