من الإبداع القوميّ

فؤاد سليمان

جوع

ويله، ويلَ أمّه، كم هو كافر!!

يُنكر ربّه، ألفَ مرّة في اليوم

كافر، يُمسك ربّه في عُنقه، ويخنقه

يا له من ظلمةٍ مرعبة!!

يا له من أفعى تأكل نفسها!!

جوعٌ… من دكّ العروش، غيرَ الجوع؟

من أطلع ملايين من العبيد، من قبورهم غير الجوع؟

من جرّد لحوم الملوك عن عظامهم غير الجوع؟

من تُرى، مَنْ غيرَه، عرّى الإنسان من إنسانيته وتركه، ضبعاً مع الضباع، وحشاً في الوحوش.

ظلمة كافرة سحيقة؟؟؟

جوع… أُطْمِعْنا في لبنان، مرّةً في التاريخ، لحمَ الجِيَفِ المنتنة في القبور!

من القبور نبشناها لنشبع!

وأُطْعِمْنا لحومَ أطفالنا، نذبحهم لنأكل!

وأكلنا الديدان من جيف البغال المَيْتة!!

أكلناها يومذاك…

وعضضنا النعال من الجوع…

وما رفّ لأحد من الناس جفنٌ علينا

مساكين كنّا… أذلاء…

أنا ما ذكرتُه عهداً إلاّ وتنشف دمائي في عروقي.

ويلَه من شعب، جاع يومذاك، ليُشبِعَ السلاطين وحاشياتِ السلاطين الصعاليك.

ويهددوننا بالجوع اليومَ…

وينْسوْن أنّ التاريخ لن يعيد نفسه،

ولن نرضى أن يعيد التاريخُ نفسه

لنا نحن، للشعب اليومَ، التاريخُ…

سنقبض على عنق التاريخ

لن يحاول التاريخ محاولتَه مرّةً أخرى

لن نجوع… أرجعوا رغيفَ الخبز النقيّ الشهي

أيها المتاجرونَ برغيف الحياة!!

هذا رغيفُنا نحن… طحنّاه بقلوبنا، ونحن عجنّاه بدموعنا، بآلامنا خبزناه…

وسنأكلُه لأنّه لنا!!

لا تحاولوا أيها المجرمون مرّة أخرى

فالسيف في يد الشعب، رهيب عجيب

من دمٍ ومن نار.

صنم

… هذا الحجر اليابسُ في ساحة الشهداء!!

ما أعرف في الحجارة، أصلبَ منه رأساً

وكأنه يجثمُ على صدري، بثقَلهِ،

وهو جاثم جثمةَ الغراب،

في أنقى موضع من مدينة الشهداء!!

… وكأنه وحدَه يحمل عار أربعة أجيال من العبوديات!!

فما بالُ هذا الصنم، يطالع الناس في لبنان، على إشراقة الضوء، بمثل هذه السّحنة البغيضة، ومثلِ هذا اللون المسلول؟؟ وتقولون، إنّكم في لبنان، تبنون للأجيال!!

أهكذا تطالعون الأجيال؟

بحجر منحوت للعبيد، جاحظ كريه،

فيه أثرُ السياط التي ألهبت ظهورَنا!!

وفيه تمريغ الجبهة المكسورة!!

وفيه إرادة أرادوها هكذا…

مقهورةً ذليلة.

وتبنون للأجيال؟؟

أيها الناس…

إذا مررتم بساحة الشهداء ورأيتم الحجر الكبير الذي زرعوه هناك، أغمِضوا عيونكم عنه: إنّه صنَم…

أيها الناس في لبنان!!

إذا رأيتم في الساحة التي مات فيها آباؤكم على أعواد المشانق، صخرة كئيبة، جامدة، فلا تلتفتوا… هذه مقبَرة.

والحجرُ اليابس، هذه الجثةُ المنتصبة هناك،

دُقّوا رأسه دقاً

إنه صنم.

النهر الأسود

… ما أدري، إن تكن «لوحة الجلاء» المشرِقة في نهر الكلب، قد مَحَتِ الألوان السوداء، التي حفرَتْها في الصخر اللبناني، قوافلُ الغزاة المتدفّقين من الغرب والشرق، والشمال والجنوب!!

ما أدري ماذا قال الصخر اللبناني؟

وهو يسمع لأول مرّة في التاريخ طرقاتِ الإزميل تحفر فيه حروفاً عربية أنيقة!!

ماذا قال الصخر اللبناني؟؟

أما أطرق الصخر حياءً من نفسه؟

وقد دكّته جحافل الجبابرة دكّاً

عجِبْتُ للصخر… وأنا ما أعرف في الصخور

أجملَ وجهاً، وأطيبَ فيئاً من هذا الصخر!

وما أعرف في الصخر، مثلَ هذه الكبرياءِ التي أراها في «صنّين» و«ظهر القضيب» و«حرمون»…

عجبت له كيف ألوى على أزاميل الغزاة

بمثل هذا الحنان ومثل هذا اللين!!

ولم ترتفع له نبرة، في وجه هؤلاء الذين مرّغوا كبرياءَه بالتراب ومزّقوا جسده بحديدهم وفولاذهم…

… أنا ما أمرّني شيءٌ في بلادي،

مثل هذه الدمغات السوداء

ألقاها على جبين بلادي،

سمة العبيد الملاعين، يحملون عارهم

على جباههم حفرةً عميقة، بالنار واللهيب!!

ليت الصخرَ، في نهر الكلب، تفتّت،

فما بقيَتْ منه حبّة من تراب!!

وليت النهر الذي ولِغَتْ بمائِهِ النقيّ الكلابُ

فحمل عاره باسمه إلى اليوم..

ليته جفّ، فما بقيَتْ منه حبّة ماء…

… وليت اليدَ المباركة التي أزاحت الستار على صخرة الشرف والكرامة،

ليتها فتّتت ألوان العبودية،

الباقية على مداخل الصخور…

فلا تبقى هناك إلا رخامةٌ نقيةُ الحروف،

عربيةُ البيان، مشرِقة الوجه..

وحدَها، لوناً من الكرامة والكبرياء.

دم على الرمال

… في فرحة لبنان الكبيرة،

يومَ عرسه الأغرّ المُشرق

وكانت فرحته الأولى، منذ أربعِ مئةِ سنة،

من أيام فخر الدّين لمعة من الزمن في حياة لبنان،

لم يُشرق وجه هذا الجبل الجميل بألوان الفرح.

… في فرحته الأولى،

كان العراق يوسّدُ خمسة من رجاله العسكريين

في خمسة نعوش… فداءً لفرحة لبنان.

فداء لهذا اليوم المحجّل، في تاريخ الجبل،

هذا الدم النبيل، الذي شربَتْهُ رمالُ الصحراء…

لفرحتِكَ يا لبنانُ، مأتمُ العراق هذا،

يغرز جيشُ فيصل الكبير سيوفه في الأرض واجمةً حزينة!!

وكأنها ضريبة على العراق، كانت،

يؤديها هذا الشعب الأبيّ، للبنان دماً كريماً نقياً.

وما أحبّه وأغلاه على قلب لبنان هذا الدم…

كأنها أطياب الصندل يحرقها العراق، في عرس لبنان.

والجبل، وقد وعاها في قلبه، هذه النقاط

لن يتركها تغور هدراً في النسيان

هي في لوحة الجلاء، إشعاع يخلع على النهر

ظلالاً حمراءَ… ما ينساها النهر في مسيره الأبدي

ولبنان، في فرحته، يحنو على هذه النقاط

المهدورة في الصحراء… يلمسها بعينيه

ليزرعها شجرةً حمراء، لا تُنْبِتُ غيرَ المحبة.

فيا لبنانُ!!

لفتةً أيها الجبلُ الحلو، صوب العراق في يوم مأتمه

لفتة الكريم نحو الكريم، يجود بدمه

وشُدّاها على الأخاء قبضة، مغموسة بالدم.

ويا عراقَ الشاطئين عزاءً.

على المقلب الثاني

… على البحار السبعة… في كل مطرح من الأرض،

من بلادي واحدٌ.

واحدٌ تقتلعه العاصفة من هنا، من هذا التراب

فتزرعُه في مقالبِ الدنيا، على الأمواج،

في البحار السبعة.

… وما غصّتْ أُمّ مثلما غصّت أُمّهات بلادي،

ترمي شبابَها واحداً بعد واحد

على كفّ العفاريت، على الموج، خلفَ الشمس

وحيث لا تَصِلُ عينٌ.

ولبنان حكاية حلوة، خلف البحار…

بيت تُطلُّ عليه الشمس…

ورُعيان في الدروب.

… لعينيك يا بلادي، هذه الأجنحةُ تزاحم النسور في القمم وهذه الجباه المجعدة،

وهذه الزنود تزيح أدغال الغابات

لعينيك يا بلادي، هؤلاء الفتيان.

يزرعونك فكراً وعمقاً وخيراً في المقلب الثاني من الأرض.

اللهم سبحانك!

من قدّر لهذه النصبات الغريبة، المقتلعة من هذه السفوح وهذه الجبال،

مثلَ هذا الخصب وهذا الفيء.

اللهم سبحانك، تحمل البلد الصغير الحلو،

يمد أفياءَه على ناطحات القِباب وقباب السماء…

اللهم سبحانك!

تراب مقدّس

… حمدْتُك ربي…

خلت أني أمس، قلتُ شيئاً عظيماً، في هؤلاء

الذين زرعوا الشّطوط الغربية يُمناً وخيراً،

وركّزوا جباههم في الشمس عاليةً…

… وتحمل إليّ الأمواج البارحةَ شيئاً منهم،

هو شيء، أُقسم عليه، أنه أغلى من المال والأولاد، ويكاد أن يكون أغلى من قسَمي.

… رجل من ضيعتي، تنحدر به الحياة بعيداً غريباً

توقد تأصّلت فروعُه هناك، جيلاً بعد جيل،

وطال عهدُه بكنيسة الحارة، وسنديانات الدير…

… رجل من ضيعتي، جذع سنديانة لبنانية عتيقة صامدة.

بنى لأمه وأبيه هنا، عندنا، مقبرةً من رُخام لن ينام فيها.

يسألني هذا الرجل، ثلاثة أشياء:

… سنديانة الكنيسة العتيقة، «عند السيدة» كيف حالها؟؟

هل يبست، وهل دبّ فيها الموت؟

«إزرعوا غيرها» يقول لي…

وحبّات من تراب، من عندهم من الكرم

يوسّد عليها رأسه، على التراب الغريب

ومن لبنان… شريطة صغيرة عليها ألوان العلَم يضعها على صدره

آمنت بالتراب… ما أكثرَ خيرَه!

ما أشدّ حنانَ القلب البشري إليه

آمنتُ بك يا ترابَ بلادي،

يكفر الناس بك هنا، ويسألني عنك رجل من ضيعتي

حبة يزرع قلبه فيها

ويا أيها الشيخ…

أيها اللبناني العتيق. أيها الغريبُ يشتاق

إلى تراب وطنه!!

لبّيك لبّيك…

في غد مع الموج، يصلك ورقةٌ خضراء من سنديانة الكنيسة.

وحبةٌ من تراب الكرم.

وعلمٌ من بلادك أحمرُ…

من مجموعة «تمّوزيات»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى