العادة والناس

رولان مشوح

الطبيعة الأولى هي ما وُلد عليه الإنسان وفُطر، وما يدخله الإنسان على الطبيعة الأولى من التحسين والتقبيح يسمى بـ«الطبيعة الثانية» أو العادة، والعادة على ما يراها كثر هي طبيعة ثانية، لها من القوة ما يداني «الطبيعة الأولى». ولعلّ من المكرّر على مسامعنا أننا جميعاً محكومون بعاداتنا الجيدة أو الرديئة، فهي التي تقود سلوكنا وتحدد مستوى أدائنا، ونمط علاقتنا، واتجاهات تفكيرنا، وأنواع اهتماماتنا. فالعادة هي سلوك يكتسب بالتكرار وليست سلوكاً غير شعوري، بل هي سلوك خاضع للعقل الذي يراقبه ويعدله كلما اقتضت الضرورة، فبسبب التكرار المستمر يعتقد العقل البشري أن هذه العادة جزء مهم من سلوكيات الشخص، فيعاملها مثل المأكل والمشرب وأيّ عادة قوية أخرى. هنا لن يستطيع المرء تغييرها بمجرد التفكير في التغيير، أو بقوة الإرادة، أو بالعالم الخارجي وحده، بل عليه أن يغيّر معناه الذي كوّنه في الفكرة الأساسية، وبرمجة نفسه على الفكر الجديد، وتكرار ذلك أكثر من مرة، وبذلك فهو يمر بالخطوات نفسها التي كوّن بها العادة السلبية لكي تحل مكانها عادة إيجابية.

في مراحل حياة الإنسان المختلفة يكتسب عادات جديدة من خلال المرور بعدة مراحل:

أ – التفكير: في هذه المرحلة يفكر الشخص في الأمر ويمنحه انتباهه ويركز عليه، وقد يكون ذلك بسبب فضوله أو أهميته بالنسبة إليه.

ب – التسجيل: بمجرد أن يفكر الإنسان في أمر يسجله الدماغ، ويفتح له ملفاً من نوع الفكرة نفسه، ويربطها بجميع الملفات الأخرى التي هي من نوعها ذاته، أو قد تكون مفيدة لها. والتسجيل هو المرحلة البسيطة التي يستطيع الإنسان أن يبتعد عنها، ويغلق الملف لو أراد ذلك.

ت – التكرار: في هذه المرحلة يقرّر الشخص تكرار السلوك ذاته وبالأحاسيس عينها، فيفعل أيّ شيء، سواء كان ذلك إيجابياً أو سلبياً.

ث – التخزين: بسبب تكرار التسجيل تصبح الفكرة أقوى، فيخزنها العقل بعمق في ملفاته ويضعها أمامه كلما واجه موقفاً ما من النوع ذاته، ولو أراد الشخص أن يتخلص من السلوك فسيجد صعوبة أكبر لكونها مخزنة عميقاً في ملفات العقل الباطن. فالله منح الإنسان مرونة في إعادة تشكيل ذاته وتغيير عاداته بما يتفق مع تبدّل احتياجاته ومتطلبات مجتمعه، ولديه استعداد طبيعي لاكتساب العادات التي هي شبيهة بالغرائز في تلقائيتها ويسر انسيابها، إلا أنها ليست في ثبات غرائز الحيوانات بل هي غرائز مكتسبة ومرنة وقابلة للتغيير والتطوير، شرط أن يعي الإنسان طبيعتها ويتدرب على التعامل معها، وبذلك يتمكن من تغيير عاداته في التفكير والسلوك كما اقتضت الحياة ذلك، أو كلما اتسعت معارفه ونضجت خبراته.

إن التأقلم مع مستجدات الحياة يتطلب من الأفراد والمجتمعات امتلاك القدرة على تغيير العادات الفكرية والسلوكية، فعلى المستوى الفردي لا تتحقق فاعلية الإنسان إلاّ إذا تمكن من تكوين عادات ذهنية وعملية راسخة يتدفق منها الأداء من خلال تغلّبه على عاداته.

فالعادات الاجتماعية المكتسبة على ما يرى الفيلسوف الأميركي جون ديوي تشبه الوظائف الفسيولجية في الإنسان في رسوخها وتلقائيتها، إذ يقول: «إن جميع الفضائل والرذائل ما هي إلاّ عادات، فالأمانة والعفة والخبث والشجاعة والتفاهة والاجتهاد وعدم المسؤولية أنواع من التكيّف»، فالإنسان هو عامة ابن البيئة الثقافية والطبيعية ففيهما تتخلق القيم والاهتمامات ونمط التفكير، ومعايير الاستحسان والاستهجان، وضمن هذه الدائرة العامة تكون لكل فرد عاداته الخاصة التي هي مصدر مهاراته، فالفرد محكوم بعادات التنشئة وما فيها من جفاف أو طراوة بحسب طبيعة الثقافة التي نشأ عليها، ومحكوم أيضاً بعاداته الخاصة الفكرية والسلوكية.

لو لم يكن العقل اللاوعي يحتفظ بثمار جهود المران غير المتصل ويسمح بإضافة بناء اليوم إلى بناء الأمس كي يكتمل تشييد المهارة، لفُرض على الإنسان أن يبدأ يوميّاً من الصفر، ولأضحت المهارة مستحيلة، ولكن قابلية التراكم واستمرار التراحم بين أجزاء الأفعال المتقطعة أتاحا للإنسان أن يبلغ أروع درجات المهارة وأن يحقق أقصى مراتب الاتقان وهذه نعمة عظيمة لم يكن ممكناً من دونها تشييد الحضارة. لكن هذه القابلية العظيمة لاختزان الأفعال النافعة هي الوجه المشرق من العادات المكتملة التكوين، أما الوجه المظلم فهو أنّ تراكم الأفعال السيئة يؤدي إلى تكوين عادة سيئة مكتملة التكوين ومستحكمة، وهي في الغالب ذات دافع وجداني عميق لكونها نتاج الميول والغرائز الطبيعية، ما يجعلها صعبة التغيير. يقول جون ديوي: « … لو أردنا أن نغيّر إرادة شخص أو أن نعدّل من شخصيته الحاضرة وجب علينا أن نغيّر في الظروف الموضوعية التي تدخل في تكوين العادات التي اكتسبها».

يقول أيضاً: «نحن مضطرون إلى الاعتراف بأن تغييرنا الشخصية من الأسوأ إلى الأحسن لا يتم إلاّ عن طريق تغيير الظروف فنحن لا يمكننا أن نغير العادة مباشرة، إنّما يمكننا أن نغير العادة بطريق غير مباشرة بأن نغير الظروف بحكمة وذكاء عبر اختيار التي تسترعي انتباهنا والتي تؤثر في تحقيق رغباتنا، ووزنها».

من المؤكد أنّ المجتمع قد يبرمج أفراده بعادات رديئة تعطل فاعليتهم النافعة، وتوقف نمو القـدرات البانية، وفي المقابل قــد يفتح المجتمـع لأفراده آفاقاً لتجديد العـادات وتطوير القدرات.

لكل منّا عاداته، السيئة والجيدة، وفي طريق سعينا إلى تغيير السيّئ نكتسب المزيد من العادات الجديدة، وتبقى سلسلة العادات مرافقة للإنسان منذ الأشهر الثلاثة الأولى على ولادته، حتى مماته.

محامية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى