الأزمات… والدروس المستفادة

لمياء عاصي

الأزمة السورية، التي أصبحت الأبرز في نشرات الأخبار اليومية على مستوى العالم، لها جانب قلما يتمّ التحدث عنه، وهو الأزمة الاقتصادية والمالية، التي نشأت بفعل هذه الحرب القذرة التي تتعرّض لها، وتستهدف فيها البنى التحتية والمنشآت والطبيعة والإنتاج والحضارة والبشر، ولا بدّ من البحث عن حلول تتناسب مع عمق المشكلات والتحديات التي تواجه الناس ومتخذي القرار الاقتصادي في الوقت نفسه.

إنّ أيّ محاولات لتلمّس طرق واقعية لتخفيف آثار الأزمة ووضع خارطة طريق لها، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار، أسباب المشكلة وسبل التعامل معها، وهنا، لا بدّ من استعراض أزمات دول أخرى والاستفادة من تجاربها في تلمّس طريق الخروج من أزماتها، حيث أنّ النتائج تقريباً متماثلة، من حيث التأثير على معدّلات البطالة العالية والتضخم وتدني الدخل والقدرة الشرائية للمواطنين، وانخفاض سعر الصرف إلى حدود غير مسبوقة، الأمر الذي يلقي نسبة كبيرة من عموم الناس في مستنقع الفقر.

العديد من الأزمات الاقتصادية والمالية مرّت في تاريخ الاقتصاد العالمي في المائة سنة الأخيرة، ولعلّ الأزمة الكبرى التي حصلت في عام 1929، وسُمّيت بالكساد الكبير أو Great recession كانت فاتحة تلك الأزمات في القرن العشرين، أما في تسعينات القرن الماضي فقد عصفت بجنوب شرق آسيا بين عامي 1997 -1998، أزمة مالية سبّبت انهيار الأسواق المالية في كلّ من ماليزيا، تايلند، اندونيسيا، كوريا الجنوبية وسنغافورة، حيث حصلت الأزمة بعد نمو سريع في تلك البلدان، أما حول أسبابها الحقيقية، فقد نشأت عن الأخطاء في السياسات النقدية والتوسّع في الإقراض بشكل يتجاوز الحدود والمعدّلات المسموح بها والانفتاح غير المدروس على مؤسسات المال العالمية وعمليات المضاربة على العملات، مما أدّى إلى حصول مشكلة في السيولة، وتعثر في سداد القروض البنكية حيث كانت البداية، وبعد ذلك بدأ سعر صرف العملة الماليزية بالتدني، والأسعار بالارتفاع وخيّمت أجواء عدم الثقة على الأسواق المالية، وفي معالجة هذه الأزمة ومحاولة الخروج من تداعياتها، تمكّن مهاتير محمد، رئيس الوزراء الأسبق لماليزيا، من صياغة حزم إجراءات مالية واقتصادية تتلخص كما يأتي:

أولاً: تحويل القروض المستحقة الدفع على الحكومة الماليزية إلى قروض متوسطة، لتخفيف الضغط على المصارف وخصوصاً المركزي الماليزي.

ثانياً: تثبيت قيمة العملة الماليزية الرينغت أمام الدولار لوقف عمليات المضاربة والإتجار بالعملات.

ثالثاً: إجراءات لتمكين المنتج المحلي، من خلال مزايا وتسهيلات للمنتجات المحلية، والقيام بتوعية كبيرة جداً بين المواطنين لتتركز مشترياتهم على المنتجات الوطنية الماليزية.

رابعاً: تعديل أسعار الفوائد على الإيداع، لتشجيع الإيداع في المصارف الماليزية.

خامساً: إنقاذ المؤسسات الوطنية المتعثرة عن طريق ضخّ الأموال فيها، حتى لا تضطر إلى الإفلاس وتسريح العمال، وكان موضوع العمال ومعدّلات البطالة على رأس الأولويات للحكومة الماليزية.

سادساً: الإجراء الأكثر جرأة الذي تمّ اتخاذه، هو بيع بعض الأصول الوطنية المملوكة من قبل الدولة في محاولة لتأمين الأموال للإيفاء بالتزاماتها، والقيام بإنقاذ المؤسسات المتعثرة، لتفادي انهيار المؤسسات وتسريح العمال وما تسبّبه البطالة من آلام مضاعفة، ولهذا الغرض، أقام مهاتير معرضاً للعموم تمّ فيه عرض الأصول الوطنية التي ستبيعها الدولة.

في النتيجة لم يقم الماليزيون باللجوء إلى صندوق النقد الدولي، لأنّ الصندوق سيجبرهم على تطبيق الوصفة الاقتصادية المعروفة المستندة إلى النقاط العشر لتوافق واشنطن، الأمر الذي سينعكس على الشعب الماليزي بالبطالة والفقر، وهذه النقاط، أو ما يعرف بتوافق واشنطن، يلخص السياسات التي يجب على أيّ دولة مقترضة من الصندوق أن تطبّقها، أهمّها:

سياسة مالية منضبطة أو تقشفية لتفادي العجز المالي في الموازنة العامة للدولة، ورفع الدعم على السلع والخدمات الأساسية المقدمة من الدولة للمواطنين في سياق التقشف، إضافة إلى تحسين الموارد العامة للدولة عن طريق إعادة هيكلة الضريبة وتطبيق ضريبة القيمة المضافة بدلاً من الضرائب التصاعدية، بالطبع يرافق تلك الإجراءات: تحرير التجارة، وخصخصة المؤسسات المملوكة للدولة.

بدلاً من اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، قامت ماليزيا بتطوير حزمة إجراءات معتمدة على مواردها المحلية، وتمكنت من تجاوز أزمتها خلال ثلاث سنوات، إذ تعافى الاقتصاد الماليزي، وبدأ يسجل معدلات نمو إيجابية اعتباراً من سنة 2000، في حين لجأت اندونيسيا إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي وطبّقت سياساته، مما أدّى إلى إحداث ركود اقتصادي وارتفاع في مستويات الفقر، مما زاد في معدلات الجريمة، بالإضافة إلى عدم الاستقرار السياسي وانهيار حكم الرئيس سوهارتو، وكمؤشر على البؤس الاقتصادي العميق عملت الاندونيسيات كخادمات في كلّ أصقاع الأرض.

مثال آخر، هي الأزمة اليونانية، التي نشأت عن التوسع غير المدروس في الانفاق الحكومي، والذي اصطدم بالأزمة المالية العالمية في عام 2008، مما أدّى إلى حصول مشكلة في السيولة وتعثر في سداد الديون، بناء على ذلك، اضطرت الحكومة اليونانية للجوء إلى مؤسسات عالمية للاقتراض، مؤخرا، قام حزب Syriza اليساري، بتقديم لائحة إصلاحات مختلفة إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره أحد أهمّ المقرضين، وتركز لائحة الإصلاحات اليونانية الجديدة على ثلاث نقاط، أولاً: معالجة جدية للتهرّب الضريبي، ثانياً: مكافحة الفساد، ثالثاً: إجراءات لوقف التهريب، هذه اللائحة لا تشمل سياسات تقشفية، وهذا هو الأهمّ بالنسبة إلى الشعب اليوناني.

بعد استعراض الأزمات السابقة، لا يمكن النظر إلى الأزمة السورية كأيّ أزمة اقتصادية عادية، ذات أسباب اقتصادية ومعالجة اقتصادية أيضاً، بل، معروف أنها ناجمة عن ظروف الحرب الطاحنة في البلد، وسيطرة ميليشيات مسلحة على مناطق هي الأغنى بالنسبة إلى النفط والقمح وغيرها من الثروات الطبيعية، إضافة إلى كلفة العمليات العسكرية، وما حصل من هجرة للرساميل السورية للخارج وتوقف المؤسسات الإنتاجية عن الإنتاج، واهتزاز الثقة بالعملة المحلية، نتيجة للعقوبات الاقتصادية وتدني القدرة الشرائية لعموم الناس، ولكن… وبالاستفادة من دروس الأزمات الاقتصادية التي مرّت بها دول أخرى، مثل ماليزيا واليونان، فإنه يمكن اتباع سياسات اقتصادية للتخفيف من آثارها بقدر الإمكان، وإنْ كان الخروج منها بشكل كامل مرهون بانتهاء الحرب وخروج الدولة السورية منها منتصرة موحدة.

في هذا السياق يمكن وضع خارطة طريق، لمقاربة المشكلتين الأكثر خطورة على الاقتصاد السوري، حسب ما يلي:

أولاً: تمكين الإنتاج المحلي الصناعي والزراعي، حيث سبّب توقف الإنتاج، في الكثير من المنشآت والقطاعات إلى انكماش كبير في الناتج المحلي الإجمالي الذي بلغ في عام 2013 ما نسبته 41 من الناتج الإجمالي لعام 2010 حسب توقعات «الاسكوا»، وهذا يعني أنّ البلد فقد حوالي الــ60 من ناتجه المحلي الإجمالي، وبالتالي انخفضت حصة الفرد من هذا الناتج.

ثانياً: معالجة قضية البطالة، ومعروف أنها تعتبر الظاهرة الأخطر اقتصادياً واجتماعياً، لأنها تسبّب الفقر والدخول في حلقته المفرغة، حيث فاقت نسبة البطالة الــ70 في بعض المناطق في سورية، من خلال التمكين للإنتاج المحلي وتشجيع المؤسسات الصغيرة والورشات والمحترفات الصغيرة.

إذاً، البحث عن حلول غير تقليدية في إطار تمكين المنتج المحلي، بما ينعكس أيضاً على معدّل البطالة، وتشجيع وتنمية الشركات أو المؤسسات الصغيرة والمتناهية الصغر، التي أثبتت جدواها في عملية التعافي من الأزمات، وأخيراً… وربما الأهمّ، التعامل مع ملفات التهرّب الضريبي، والفساد والتهريب باعتبارها مثلث الفساد الأكثر فاعلية في تفاقم الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى