استراتيجية الطوق النظيف خيار أميركي لاحتواء إيران 1/2

محمد أحمد الروسان

هناك قاعدة جيوسياسية تقول: كلّ الأحداث الإقليمية مترابطة، وكلّ حدث محلي هو بالضرورة وبالتبعات إقليمي ودولي أيضاً، فهل ما يتوفر من معطيات بلسان لغة المنطق، يشير إلى أنّ اتفاقاً مع إيران ممكن أم لا يزال صعباً في ظلّ الظروف الحالية؟ توقيع الاتفاق إنْ تمّ، يُعدّ استثناءً، وهذا ليس مستحيلاً، ويحمل من المؤشرات والدلالات ما يتجاوز فكرة النووي الإيراني، إلى مرحلة تؤسّس لعهد جديد في المنطقة، من الترتيبات الإقليمية متضمّناً اعترافاً صريحاً بمدى النفوذ الإيراني، لذلك نرى محاولات ذات مخاضات مزمنة غير مكتملة، لتشكل تحالف إقليمي تركي سعودي مصري قطري بامتدادات باكستانية، لبناء طوق صلب حول إيران يحيط بها من الجهات الأربع بمحيط متجانس مذهبيّاً إلى حدّ ما، لتحقيق نوع من التوازنات بمفهومها الشامل، أو ليكون بمثابة حصان طروادة للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وفي ظلّ استمرار التحالف الأميركي مع الإسلام السياسي في المنطقة، وعبر نيولوك جديد، وخاصةً في حال تطويع وتأطير تنظيمات «الإخوان المسلمين»، في إطار قريب جداً من نموذج حزب العدالة والتمنية التركي، المُراد تسيّده وأدلجته في المنطقة، وهذا من شأنه أن يجعل تنظيم «الإخوان المسلمين» بهويات وطنية كلّ في ساحته وهويته وظروفه، إنْ حدث هذا السابق ذكره مع واشنطن دي سي تصبح أيّ تنازلات إيرانية نووية مسألة تفصيلية غير ذات صلة المهم تأمين الحدّ الأدنى من حاجات إيران النووية .

إيران وعلى مدار سنة سابقة كانت مفاوضاتها تقنية صرفة، وقدّمت تسهيلات في متابعة برنامجها النووي وليس تنازلات تقنية، وأجابت على كافة تساؤلات السداسية الدولية حول برنامجها الذري، وأقرّها المرشد في خطاباته، وتمثلت في: إمكانيات وقف إنتاج اليورانيوم المخصّب بنسبة 20 وليس وقف إيران لتقنية التخصيب التنازل في نسبة المخصّب ، إعادة برمجة العمل على تطوير أجهزة التخصيب لا وقفها، تنظيم العمل لا وقفه بمنشأة نووية في قم فوردو ، احتمال تقنين العمل بمفاعل آراك، ومع ذلك بقيت الحبكة أو العقدة تتعاظم وتتبلور في تعاظمها، في محاولات أميركا الجمّة في الربط بين الحلّ النووي والترتيبات الإقليمية، وهي لعبة مزدوجة ذات بعد متعدّد.

تساؤلات عديدة على شاكلة التالي: هل تكيّفت العاصمة الأميركية واشنطن دي سي مع القنبلة النووية الإيرانية، كما فعلت في الماضي القريب مع باكستان والهند، وفي ظلّ معطى استراتيجي يتموضع في أنّ أميركا تعتبر البرنامج النووي الإيراني تهديداً استراتيجيا،ً في حين أنّ «إسرائيل» تعتبره تهديداً وجوديّاً؟ هل صار البلدربيرغ الأميركي يؤمن بحقيقة أنّ إيران دولة إقليمية حقيقية عقلانية ذات مجال حيوي تبني سلوكها على الربح والخسارة، وبالتالي لا بدّ من التعايش مع إيران نووية كخصم قوي؟ هل مشكلة وعقدة واشنطن مع إيران في مفاصل تقنية البرنامج النووي، أم في سلوك إيران ونفوذها الإقليمي؟ الناطق الرسمي باسم البلدربيرغ الأميركي الرئيس حسين باراك أوباما العندليب الأسمر لجنين الحكومة الأممية وفي فترة حكمه الأولى حاول تفجير إيران وعبر القوّة الناعمة عام 2009 عقب تداعيات وعقابيل انتخابات الرئاسة في إيران، وفشل، ثم ما لبث أن فرض عقوبات على إيران، وخاصةً عقوبات 2010 وهي التي آلمت إيران بعمق.

تساؤل وأزيد، في حال تمّ التوصل إلى اتفاق ما عبر تخريجه من خلال قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي وتحت الفصل السابع أو السادس برفع العقوبات كاملة، مقابل تسوية نووية قد تكون مؤلمة لجهة إيران، فماذا يعكس هذا التحوّل الدراماتيكي في مفاصل المقاربات الأميركية إزاء طهران وبرنامجها النووي؟ أعتقد أنّه تغيّر في الاستراتيجيات وليس التكتيك، تغيّر في أهداف ومنحنيات السياسة الأميركية في جلّ المنطقة، ويعني تراجعاً أميركياً من مستوى تغيّر سلوك إيران وتقليص مساحات نفوذها، إلى العمل على احتوائه، ويعني التسليم بنفوذ إيراني ومحاولة رسم إطار له، إطار جغرافيّ للنفوذ العسكري الإيراني وامتداداته الميدانية عبر الأنصار والحلفاء في المنطقة، حيث وضعت إيران كلّ بيضها خارج السلّة الأميركية فنجا من الكسر، بينما العرب ومع كلّ أسف وضعوا كلّ بيضهم فيها وأزيد من بيضهم، لهذا سينكسر جلّه وسيزحفون على بطونهم.

لغة الرياضيات السياسية

فالعراق بالنسبة إلى إيران جزء من أمنها القومي، وسورية بالنسبة لحزب الله عمق استراتيجي، واللغة الديبلوماسية غير اللغة الاستخبارية المواتية، ولا حليف لأميركا سوى نفسها، والمشهد صار سورياليّاً، وإنْ قام بعض العرب بزيارة إيران، فهي زيارة الضعيف للقوي، هكذا المعادلات تقول وتتحدث وبعلم الرياضيات السياسية التي لا تجامل أحداً، وهذا أجمل شيء في لغة الرياضيات السياسية الرقمية، والتي تتساوق مع منطق الأمور، حيث لا مكان للعواطف والمشاعر والرغبات والأمنيات والهوبرة، في ثناياها وتمفصلاتها وتحوصلاتها، في أصل جذورها التربيعية والتكعيبية، إنّها الرياضيات العقلية لغة الأرقام ولغة المنطق.

إذاً، في الإطار التقني جلّ المسالة تتعلق بمستوى التخصيب وآلية الرقابة عليه، فإمّا اتفاق كامل ناجز، وإمّا حرب شاملة مع خصم قوي، وستكون حرباً وحشيةً وصعبةً ودمويةً، وبالتالي غير متماثلة، وهذا يعني حرباً بين خصوم غير متكافئين في القوى العسكرية، وهذا يقود إلى استخدام أدوات أخرى لموازنة القوى على الأرض، وفي الفعل وردّ الفعل، إنّها حروب بالوكالة وما شابه، والذي قد يعرقل أيّ اتفاق نووي هو الإطار الزمني لأيّ اتفاق، بعبارة أخرى: أيّ عدد السنوات التي ستقبل بها إيران برقابة شاملة على كلّ جوانب برنامجها النووي، ومسألة إيقاف إيران لبرنامج تخصيب اليورانيوم، صارت خارج جلسات النقاش، الأميركان يريدون ضمان أنّ طهران لن تحصل على السلاح النووي وقف هذا البرنامج وليس تجميده في هذا المنحنى والمعطى وجعل البرنامج النووي بطيئاً بما يكفي.

أحسب وأعتقد، أنّ إيران لم تكن إلى حدّ ما أقول إلى حد ما جزءاً من اتفاق كيري ـ لافروف في صيف 2013، والذي يجري تطبيقه على الأرض منذ عام ونصف العام، وتأسيس الضمانات له على أرض الميدان في المنطقة، طهران لن تنخرط مع غيرها من الدول لسدّ العجز الكبير الذي يعاني منه الدولار الأميركي، وفي هذا المضمار تقول المعلومات، إنّ تياراً في البلدربيرغ الأميركي لعب دوراً فاعلاً في وصول روسيّا إلى موقع الندّ لواشنطن، وشريك فاعل في كينونة أرضية جديدة، من أجل احتواء القوى العالمية المناهضة لواشنطن، بمن فيها إيران والصين والدول الأوروبية والعربية والإسلامية، والقوى اللاتينية الجنوبية، مع الذهاب إلى حدّ تفكيك الاتحاد الأوروبي، ولكن على قاعدة الشراكات مع موسكو في ظلّ عالم متعدّد الأقطاب.

والسؤال هنا الذي يطرح نفسه: ما هو مصير مشاريع التقسيم لكلّ من روسيّا والصين التي جهّزتها نواة البلدربيرغ الأميركي، كبداية لتقسيم أوروبا، وعبر مشروع يبدأ بحرب عالمية أرادها الأميركيون لتداعيات انفجار طائفي اثني في الشرق الأوسط ينطلق من سورية؟ هل ابتلعها اتفاق لافروف ـ كيري في صيف 2013؟ أم أنّ الذي أنهى مشروعهم كأميركان هو حصولهم على التزامات دولية بمصالحهم ومجالاتهم الحيوية؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هو مسار الضمانات التنفيذية على الأرض لتلك الالتزامات الأممية للمصالح الأميركية وكيف ستتحقق؟

الأميركان قدّموا تنازلاً لروسيّا وضمانة لدمشق حتّى لا يتمّ اعتراض طائراتهم ضمن ما يُسمّى بالتحالف الدولي لمحاربة «داعش» في العراق وسورية، من خلال وصول أنصار إيران الحوثي إلى السلطة في اليمن، وأنصار روسيّا إلى حدّ ما الناصريون إلى السلطة في مصر، بالرغم من عمل واشنطن على إعادة إنتاج الإسلام السياسي، ليُصار إلى التحالف معه من جديد في صورة مكتملة التناقضات والمفارقات، تؤشّر إلى تخبّط السياسة الأميركية وتقلّبها بين ليلة وضحاها.

في المنظور «الإسرائيلي» الصهيوني لجنيف إيران النووي بأنّه عمليّاً: هو نتاج صمود الدولة الوطنية السورية وتماسك جيشها وأجهزتها الأمنية ومؤسسات القطاع العام، وبالمجمل صمود النسق السياسي السوري. «إسرائيل» الصهيونية ترى في مفاعيل وتفاعلات جنيف إيران الموقت حتّى اللحظة، يعني الاعتراف بإيران دولة إقليمية لها نفوذها ومجالها الحيوي في جلّ منطقة الشرق الأوسط، وبحق إيران في تخصيب اليورانيوم كعملية تقنية فنيّه نووية، وبعيداً عن نسبة التخصيب، ويعني ضخّ المزيد من الأموال المجمّدة، وهذا يقود الى تحسين الاقتصاد الإيراني، وبالتالي تحسّن وانتعاش في الاقتصاد السوري المأزوم نتيجة المسألة السورية.

ويعني تخفيض نسبة البطالة في إيران بشكل ملموس، وتخفيض نسبة التضخم المالي، واستعادة العملة الإيرانية لما فقدته من قيمتها، وبالنتيجة إحياءات متصاعدة لدورة الاقتصاد الإيراني. وفي ذات السياق العام ترى «إسرائيل» الصهيونية، أنّ جنيف إيران ما زال غامضاً، ويحتاج إلى مزيد من الإيضاحات والكشف عن مفاصل المعلومات، وصحيح أنّ إيران لم تتنازل عن حقها في التخصيب، والأخير تمّ تأجيله لاحقاً وضمن الاتفاق الشامل مع مجموعة 5+1 وعبر بند المفاوضات: التخصيب كعملية من حق إيران أم لا؟

من جانب حذر، تنظر «إسرائيل» الصهيونية إلى جنيف إيران كحدث سياسي، قد يقود إلى حالة استراتيجية من العلاقات المختلفة مع العاصمة الأميركية واشنطن دي سي، ومن جانب آخر كنتيجة مفعّلة سوف يقود إلى التقليل من الرقعة الجيو ـ استراتيجية، التي تسيطر عليها روسيّا والصين في منطقة الخليج، وقد يقود هذا إلى إحياء عودة النفوذ الأميركي إلى أسيا الوسطى عبر إيران، ويقود إلى تراجع تركيا وتمايز في علاقاتها مع واشنطن.

ولكن «إسرائيل» الصهيونية تحاول إخفاء ابتسامة هنا: أنّ جنيف إيران سوف يؤسّس إلى تغيّر تدريجي في نواة المجتمع الإيراني عبر الطبقة الوسطى الإيرانية، واستعادة الأخيرة لديناميكياتها بسبب تحسّن الاقتصاد الإيراني، كونها الطبقة التي يمكن الرهان عليها في إحداث التغيير المنشود والمأمول أميركيّاً وغربيّاً وصهيونيّاً، كونها طبقة لها آفاق سياسية كبيرة في إيران وهي ذات مكون بشري شاب، والطبقة الوسطى في إيران هي مصنع القيادات السياسية والثقافية والفكرية والعلمية والعسكرية والاستخبارية، وهي التي تحافظ على الصراع الطبقي في المجتمع، بينما «إسرائيل»الصهيونية تضحك بتشفّ بأنّ الطبقة الوسطى في الأردن تمّ تذويبها وإلغاؤها ضمن نهج محدّد في السياسات الاقتصادية وغيرها، لتأجيل و/أو إلغاء أيّ رهان سياسي عليها في التغيير مع كلّ أسف، ففي حالة اندلاع الصراع و/أو التنافس لمستويات ساخنة على المدى الطويل في الداخل الأردني، فسوف تكون النتائج عنيفة بالمعنى السياسي والأمني والمورد البشري، فلا طبقة وسطى يمكن لنواة الدولة الأردنية عندها الركون إليها، لإعادة التوازن إلى الصراع المجتمعي، أو إنْ شئت سمّه التنافس بفعل المحفزات الداخلية الديموغرافية والإقليمية، والتي يُصار إلى توظيفها عبر البلدربيرغ الأميركي ونواته الأممية، بعد تعثر المشروع الأميركي في سورية.

اذاً، أميركا والغرب الأوروبي وعبر جنيف إيران يسعون إلى تغيير طبيعة النظام السياسي في إيران، عبر الطبقة الوسطى الفاعلة في المجتمع الإيراني، كمقدّمة لإنهاء البرنامج النووي الإيراني، وعبر إطلاق العنان وإفساح المجال السياسي لطهران وإدماجها في بيئة الاقتصاد العالمي، والاعتراض «الإسرائيلي» الصهيوني هنا: هو أنّ هذا يحتاج إلى وقت طويل ومثابرة، وهذا لا يصبّ في الصالح الاستراتيجي «الإسرائيلي»، مع وجود نخب سياسية وعسكرية واستخبارية واقتصادية إيرانية تلتفّ حول الدولة الإيرانية وولاية الفقيه.

ونظرة «اسرائيل» الصهيونية أنّ جنيف إيران يعزّز مكانة إيران كقوّة نفوذ في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ويقود إلى تقاربات ومزيد من العلاقات مع غالبية الشعب الأذري في شمال إيران حيث أذربيجان، والى تفاهمات خاصة وجديدة مع باكو حول مخزونات بحر قزوين في الشمال الإيراني للتوصل، إلى اتفاقيات إطار قانونية مع الدول الأربع الأخرى المطلة عليه، وهل هو بحر أم بحيرة؟ كذلك إلى تفاهمات إيرانية أذربيجانية حول الوجود العسكري والاستخباري «الإسرائيلي» المستتر في الداخل الأذربيجاني.

«إسرائيل» الصهيونية تسعى إلى توظيفات لجنيف إيران النووي الموقت وتعمل عليها، للحصول على ثمن ما غير واضح في مجمل الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وخاصةً على المسار الفلسطيني «الإسرائيلي»، مع عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم وللمرة الرابعة، كأن يكون مثلاً بقاء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، تفاهم حول القدس، والتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، وحول كلّ موضوعات الحلّ النهائي بما فيها اللاجئين والنازحين، وأنّه في حالة عدم منح «إسرائيل» هذا الثمن فسوف تعيقه وعبر أدواتها في الداخل الأميركي وفي الكونغرس وغيره من مؤسسات الدولة الأميركية، وعبر أدواتها في الخارج الأميركي وفي أوروبا، إلاّ في حالة واحدة محتملة وهي رفض الحكومة الأممية البلدربيرغ الأميركي التوجهات الصهيونية! وهنا قد تقوم «إسرائيل» بخطوة عسكرية حمقاء إزاء ايران لخلط الأوراق، ولمنع توقيع اتفاق شامل بين مجموعة خمسة + 1 وإيران، إنْ على المدى القصير، وإنْ على المدى الطويل، والاحتمال في السياسة ليس يقيناً.

محام، عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية

www.roussanlegal.0pi.com

mohd ahamd2003 yahoo.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى