تباركنا الآلهة بنعمتها فتهدينا بيتاً من الشعر… والعاطفة المتأجّجة هي نشوة القلب

في مُقدمة كتاب «ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر»، يذكر المؤلف د. عبدالغفار مكاوي أن هذا الكتاب «صدر قبل خمسة وعشرين عاماً، أما كتابة مُقدمة جديدة فلأني لمست بنفسي في مُناسبات لا حصر لها أن القُرَّاء، وبخاصة من الشعراء والأدباء الشبّان الذين سمعوا عنه، لم يتمكّنوا من التوصُّل إليه، أو أنّ الكهول الذين قرأوه في شبابهم أضاعوه في الزحام، أو استعاره أحدهم، ولم يعده كما هي العادة. لا بد من أن تستحضر في القلب والعقل لحظات ومواقف وأفكار عديدة، وربما أثارت بعض الهموم وحرّكت بعض الأمنيات التي لم يقدر التعبير عنها في الطبعة السابقة، ويهمني الآن أن أتناوَلها. رويت قصة هذا الكتاب في التقديم المطول للطبعة الأولى، ويسعدني اليوم أن أغتنم فرصة هذه الطبعة، لتجديد الحب والوفاء لذكرى صديق العمر صلاح عبدالصبور، وإهداء كل الود والإعجاب للشاعر الكبير عبدالوهاب البياتي».

يوضح الكاتب أيضاً: الصورة التي يُقدّمها إلينا الشعر الحديث صورة جذَّابة بقدر ما هي مُحيّرة، إنها تذخر بالألغاز والرموز والمفارقات، لكنها تحفل كذلك بشخصيات لا يمكن تجاهُلها، تدل على أن الشعر الحديث والمعاصر لا يقل شأناً عن الفلسفة أو الرواية أو المسرح أو الفنون التشكيلية. ما من شاعر استحق هذه التسمية مثل بودلير، فلم يقتصر أثره في الشعر الحديث على يومنا الراهن فحسب، بل امتد كذلك إلى نظريات فن الشعر التي تتحدث عن طبيعة بنائه. كان بو أول مَنْ فصل فصلاً حاسماً بين الشعر والشاعر أو بين الكلمة والقلب، كان يريد أن يكون موضوع الشعر هو العاطفة المتأججة، على أن تكون عاطفة لا صلة لها بالعاطفة الذاتية أو الشخصية، ولا بما سمّاه «نشوة القلب».

يبدو شعر مالارميه 1842 1898 في نظر مكاوي كأن لا سبيل إلى مقارنته بشعر أحد من السابقين عليه أو المعاصرين له، وأهم ما يميّز شعر مالارميه أنه شعر هامس حي، لا يفرض على قارئه. ومالارميه يتمم الرأي الذي نعرفه منذ عهد بودلير، أن المخيلة الفنية لا تنسخ الواقع ولا تصوّره تصويراً مثالياً، بل تغيّره أو بالأحرَى تشوّهه، وهو يُتمّم هذا الرأي حين يرسيه على أساس أنطولوجي وجودي ، كما يبّرر غموضه وصعوبة فهمه تبريراً وجودياً، وكلمة الوجودية هنا لا صلة لها بالفلسفة المعروفة، بل بعلم الوجود أو الأنطولوجيا. ولا قصيدة تصوّر مأساة الشعر والشاعر أروَع من القصيدة التي كتبها سنة 1855، تحت عنوان «اليوم البكر الحي الجميل» ويقول فيها:

اليوم البكر، الحي، الجميل

أتراه سيفتّت لنا بضربة جناح مخمور

هذه البحيرة الجامدة المنسية التي تغشاها تحت الصقيع

الثلاجة الشفَّافة للأسراب التي لم تهرب!

في هذه القصيدة رمز واضح للشاعر في صورة طائر البجع أسير الثلج والصقيع، فقصيدة مالارميه تُعبّر عن مأساة شاعر لم يحقّق ماضياً رسالته الشعرية، ويبدو الآن هدفاً بعيداً عصياً، بل لعلّ هذه الرسالة مثال يستحيل تحقيقه على بني الإنسان.

يتناوَل المؤلف الظواهر العامة في شعر القرن العشرين، قائلاً: «ليس من العسير أن نضع أيدينا على اتجاهين رئيسيين في بناء الشعر الحديث، سار فيهما رامبو ومالارميه في القرن الماضي، فهناك إن شئنا التبسيط ما يمكن أن نسميه بالشعر المتحرر من الشكل المحكم أو الشعر غير المنطقي في جانب، وهناك الشعر العقلي الملتزم من جانب آخر. وتم التعبير عن كلا الاتجاهين سنة 1929 في صيغتين تُناقض أحدهما الأخرى، أما الصيغة الأولى فيُعبّر عنها فاليري بقوله: «ينبغي أن تكون القصيدة عيداً من أعياد العقل»، وأما الاتجاه الآخر المضاد فيُعبّر عنه رائد المدرسة السوريالية أندريه بريتون 1896 1966 حين يقول: «إن القصيدة ينبغي أن تكون حطام العقل»، أو حين يقول بعد ذلك: «إن الكمال هو الكسل». إن الشعر الحديث يتسم ببرود العقل، والتأمُّل فيه تأمُّل بارد محسوب، والكلام عنه يحتاج إلى دقة المعرفة والتخصُّص والصنعة، إنما لا ينفي ذلك البتة أن الشاعر الحديث يعلم في الوقت نفسه أن الشعر سر ومُعجزة، سحر وقوة، منطقة رقيقة ينتزعها الشاعر ما يكاد يقصر عنه التعبير والكلام، ويصبح الشاعر مُغامراً يُخاطر بنفسه في مناطق لغوية ظلت مجهولة قبله. ولم تبق حرارة الإلهام منذ مطلع القرن التاسع عشر معياره الوحيد، فالسحر الذي ينبع من الشعر الحديث فيه رجولة، والعذاب فيه عذاب صلب خشن، ويكاد مُعظم روَّاد الشعر يتفقون في سوء ظنهم بالإلهام، ويفرّقون تماماً بين الانفعال والقوة، وبين المعاناة الشخصية وصدق العقل. وها هو فاليري يكتب في مقاله عن قصيدة «أدونيس» للافونتين: «إن الشعر فن مشكّك إلى أقصى حد، إنه يفترض الحرية البالغة حيال عواطفنا الشخصية، والآلهة تُباركنا بنعمتها فتهدينا بيتاً من الشعر، ثم يصبح علينا بعد ذلك أن نؤلّف البيت الذي يليه، والذي ينبغي أن يكون جديراً بشقيقه العلوي القديم».

قسّم د. عبدالغفار مكاوي كتابه إلى جزءين، الأول خصّصه لدراسة الشعر الحديث وثورة الشعر في القرن العشرين، والثاني يحتوي على نصوص الشعراء ونبذة عن حياة كل شاعر وأعماله.

صدر كتاب «ثورة إلى الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر» للدكتور عبدالغفار مكاوي في طبعته الجديدة مع مقدمة للدكتور محمد حسن عبدالله ضمن منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويقع في 670 صفحة قطعاً كبيراً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى