فيلم «فارس الكؤوس» لتيرنس ماليك يبحث عن معنى آخر للحياة

المخرج الأميركي تيرنس ماليك 52 سنة معروف بقلة أفلامه، إذ أخرج حتى الآن سبعة أفلام طويلة وبرفضه الظهور العلني في الصحافة والمهرجانات، وهو بين قلة من مخرجي السينما الأميركية الذين يسبحون عكس التيار، إذ ينتمي إلى فصيلة من صناع السينما تستخدم الفيلم كوسيلة للتعبير عن رؤية فلسفية للعالم، وليس لرواية قصة في إطار سطحي استهلاكي هدفه التسلية. وبلغ ماليك ذروة التعبير عمّا يؤرق الفنان في فيلميه السابقين «شجرة الحياة» السعفة الذهبية في مهرجان كانّ عام 2011 و«إلى الأعجوبة» 2012 .

يبدو ماليك في فيلمه الجديد «فارس الكؤوس» أكثر تحرراً من ذي قبل، إن في السرد وشكل التعبير عن «المأزق» الإنساني، أو في طريقة وضع شذرات المادة البصرية معاً في سياق سينمائي. وإن نجح في الجانب الأول بدا أقل نجاحاً بل أقرب إلى الغموض المشوب بالاضطراب في الجانب الثاني، فأَحى صعباً تصوّر أن يصمد فيلمه الجديد هذا أمام الكثير من عشاق أفلامه، بل ومن المدربين جيّدا على فهمها وتذوقها والاستمتاع بها، وبهذا المعنى يبدو «فارس الكؤوس» مخيّبا للآمال. هنا الكثير من معالم أسلوب ماليك: العذاب الروحي الذي يتمثل في رفض البطل «ريك» عالمه القائم على الزيف، فهو كاتب سيناريو أفلام تجارية في هوليوود ويشعر بالقرف مما يكتبه من أفلام للتسلية، ويبحث عن معنى للحياة خارج تلك الدائرة المغلقة لعالم مليء بالزيف والترهات والشخصيات الكرتونية السطحية التي تبدو كأنها تستعرض نفسها بدلاً من أن تكون شخصيات إنسانية حقيقية من لحم ودم يمكن إقامة علاقات إنسانية دافئة معها.

نتابع من خلال كاميرا حرة لا تكاد تتوقف عن الحركة طوال ساعتين تقريباً هما زمن الفيلم الكثير من تداعيات الذاكرة التي تختلط مع الواقع المعاصر بلوس أنجليس، في أجواء عالم صناعة التسلية، إنما خارج الصناعة نفسها، أي في «الحياة العذبة» لو استخدمنا عنوان فيلم فيلليني المشهور «لا دولشي فيتا»، أي عالم الليل والأضواء، والعارضات ممشوقات القوام، والعري الأنثوي، والإغواء، والغرق في المتعة، دون أيّ إحساس بالإشباع.

يقسم ماليك فيلمه إلى فصول من خلال عناوين خاصة مثل «الرجل المشنوق»، «الموت» و«التحرر»، لكنها مجرّد تقسيمات لا تفصل بين تلك الرحلة الممتدة التي تبدو بلا نهاية للبطل خلال تأمله مغزى حياته الفارغة وسياقها.

يستدعي «ريك» من ذكرياته الخاصة مع أسرته إذ فقد أحد شقيقيه الذي يبدو أنه انتحر بشنق نفسه في غير أن نرى ذلك، بل نفهمه من السياق ، وتوترت علاقته بوالده الذي يبدو غير راض عن اختياره في الحياة ويريد عودته إلى أحضان البيت، إلى مشاجراته التي لا تنتهي مع شقيقه الثاني، واستدعاؤه صورة زوجته الطبيبة كيت بلانشيت التي تعمل في مجال بعيد تماماً عن عالمه البراق.

في خضم تلك الجولة الطويلة التي تتأرجح بين الخيال والواقع، الواقعي والروحاني، والمباشر والرمزي، يترك ماليك العنان لنفسه كي يتماثل مع بطله في أزمته الروحية العميقة لكن المشكلة أن ماليك في خضم انسياقه للتعبير عن تلك الحالة الذهنية والنفسية التي يصعب تصويرها سينمائياً، يفقد القدرة على السيطرة على المادة، ليس لأنه لا يعرف ماذا يصور وماذا يبقي أو ماذا يستبعد؟ بل بسبب افتقاد سيناريو الفيلم منذ البداية البؤرة الدرامية التي تجعل الفيلم مشدوداً على شخصية ذات ملامح محددة. تلك التداعيات والصور المختلفة لما يمرّ به البطل في حياته وضعت في سياق درامي ما يعيد ترتيب الشذرات المتفرقة من المعلومات التي تعبر في الفيلم مثل الزلزال الذي يهدم شقة ريك في لوس أنجليس ويدفعه للخروج إلى العالم، أو ذلك القس الذي يلجأ إليه بحثا عن الخلاص فتكتسب معنى أعمق في السياق. وكل مشهد في الفيلم يؤسس لما سيأتي بعده، مهما تداخلت التداعيات والصور والأنماط البشرية المتعددة التي نراها، خاصة النساء، وتكتسب معنى أكبر من ذلك الانطباع الذي يأتي من عبورها السريع على سطح الفيلم. كما نرى مثلاً في شخصية ناتالي بورتمان التي أرادها ماليك المرفأ الذي يجد البطل عنده أخيراً الحب والتواصل العاطفي، لكن سرعان ما يفقدها أيضاً في خضم التداعيات السريعة، ولا نفهم تحديداً ما حدث.

تعود جاذبية الصور إلى الموهبة الخاصة التي يتمتع بها مدير التصوير المكسيكي المرموق إيمانويل لوبيزكي، كذلك العناية الخاصة بشريط الصوت الذي ينتقل من همسات التعليق الذي يأتي من خارج الصورة الفيلم كله يروى من خلال ذاك الصوت الخارجي ، إلى الموسيقى الايقاعية تــارة، والغامضة الموحية خوفاً تارة أخرى.

يهب ماليك الكثير من تلك القصص الصغيرة التي يرويها داخل الفيلم معنى، مثل قصة الأمير الذي يرسله والده الملك إلى مصر للعثور على الماسة السحرية، لكنه يخالف التعليمات ويخضع للإغواء، فيشرب من كأس محرمة عليه، فيفقد البوصلة والهدف بعد أن يرقد في سبات طويل، في إشارة إلى البطل نفسه، لكن من دون أن يتخلى عنه والده قط، أو ما يكمن في عنوان الفيلم نفسه «فارس الكؤوس»، ورقة اللعب المشهورة التي ترمز إلى التردد والخوف والعجز مع الرغبة في التحرر والحلم الدائم بالأفضل.

يعاني الفيلم تكرار الفكرة والمعنى واستخدام الكثير من اللقطات التي تعيد التأكيد مثلاً على فكرة استحالة التواصل مع المرأة، وكيف أن الحب محكوم بالفراق، وأن الحياة ليست مثلما تبدو، بل يجب البحث عن معنى حقيقي لها، وغير ذلك من «الثيمات» المفضلة لدى ماليك. وفي سياق مماثل يصبح دور الممثل عامة، والبطل كريستيان بيل خاصة، هامشياً وعابراً، مجرّد أداة يستخدمها المخرج من غير أن يكون لوجوده حضور خاص في حدّ ذاته، بل تكاد اللقطات القريبة من وجهه تكون نادرة في هذا الفيلم، فالبطل موجود دوماً في إطار المكان، وكثير من الممثلين المعروفين، مثل أنطونيو بانديراس، هم هنا مجرّد أشباح عابرة في فضاء الفيلم.

تميّز الفيلم تلك الشجاعة التي تجعل مخرجاً مثل تيرنس ماليك عازفاً عن الأضواء، متمرّداً، حتى النهاية على تقاليد هوليوود، متمكّناً من التعبير عن أفكاره ولو باستخدام إمكانات هوليوود نفسها وتطويعها لحسابه بلا أيّ تنازلات، كأنه يهزأ بها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى