الدهس «الإسرائيلي» قتلٌ مقصود وإعدامٌ خارج القانون

د. مصطفى يوسف اللداوي

حوادث الدهس التي تقع نتيجة السرعة الفائقة، أو فقدان الكوابح، أو العبور الخاطئ، أو بسبب فقدان الرؤية، وأحياناً بسبب السكر وغياب العقل نتيجة الافراط في شرب الكحول وتعاطي المخدرات، تصنّف بأنها حوادث مرورية عادية تحدث في كلّ مكانٍ في العالم، فهي حوادث طبيعية ويومية، وقد اعتاد عليها الناس لكثرتها وتكرارها، وقد لا يقفون عندها كثيراً، إلا لمجرّد المعاينة ومعرفة الأسباب، للتعرّف عن المسؤول عن وقوع الحادث، أهو تهوّر السائق أم إهمال الضحية، وهي تزداد وتقلّ وفقاً للثقافة العامة للمواطنين، ووعيهم المروري وإحساسهم بالمسؤولية تجاه النفس والآخرين، ولعلّ أغلب ضحايا حوادث الدهس هم من الأطفال الذين يلهون ويلعبون في الشوارع العامة، أو الذين لا ينتبهون عند قطع الشوارع، ولا يحسنون تقدير سرعة السيارات واتجاهاتها، فضلاً عن جرأتهم وتهوّرهم وتفكيرهم الصبياني.

غالباً تقوم شركات التأمين التي تخشى التعويض وتحاول التهرّب منه، بمشاركة الشرطة في إجراء التحقيقات اللازمة، والوقوف على خلفية الحادث، وهي تنبّه المتعاملين معها إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر، والانتباه الشديد لمثل هذه الحوادث، وقد تكون منطلقاتها مادية، ولكنها تبقى حريصة على التخفيف من نسبة هذه الحوادث، ومن النادر أن تصنّف حوادث الدهس المرورية بأنها جرائم قتلٍ متعمّدٍ، فلا يعاقب السائق بتهمة القتل سجناً أو قصاصاً، بل غالباً ما يغرّم ويطالَب بالتعويض، أو يعاقَب بفترات سجنٍ قصيرة، وحرمانٍ من القيادة لفترةٍ زمنيةٍ معينة، وغير ذلك من العقوبات الرادعة والزاجرة.

لكن من غير الطبيعي أن يكون الدهس متعمّداً ومقصوداً، بسوء نيةٍ وبقصد الإضرار وإلحاق الأذى، خاصةً أنّ مرتكبي مثل هذا النوع من الحوادث غالباً ما يبدون أسفهم وندمهم، ويحرصون على الوقوف إلى جانب الضحية وذويه، ويبدون استعدادهم للتعويض وقبولهم بالعقاب، وقد يقف ذوو السائق إلى جانب أهل الضحية، ويقدّمون لهم كلّ المساعدات الممكنة، ويسلمون ابنهم إلى السلطات المسؤولة لاتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة ضدّه، كما أنّ الجهات الرسمية للدولة تتخذ إجراءات رادعة، وتضع قوانين صارمة للحدّ من مثل هذه الحوادث ولو كانت عرضية وغير مقصودة.

لكن الجريمة الكبرى والفعل المشين والمرفوض دولياً والمدان إنسانياً، والغريب سلوكاً والشاذ خُلقاً، عندما يكون الدهس متعمّداً، والقتل مقصوداً، وإلحاق الأذى والضرر بالإنسان هدفاً وغاية، وهو ما نجده بصورةٍ شبه يومية وبوضوحٍ تامّ من «الإسرائيليين» تجاه المواطنين الفلسطينيين، حيث نلمس حوادث دهسٍ متعمّدة، وقتلٍ مقصودٍ لمواطنين أبرياء، وأطفال صغار، وتلاميذ مدارس، وعمال وعابرين، ونساءٍ ورجالٍ، يُدهسون في الشوارع، وتلاحقهم سيارات المستوطنين على الأرصفة، وتهاجمهم ولو كانوا بعيدين عن مساراتها.

تقع مثل هذه الجرائم في كلّ أرض فلسطين التاريخية، وليس في الضفة الغربية والقدس الشرقية، فقد وقعت حوادث دهسٍ متعمّدٍ كثيرة في المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، وتُرك الضحايا على الأرض ينزفون، ينظر إليهم «الإسرائيليون»، فلا يقدّمون لهم المساعدة، ولا يعجلون بنقلهم إلى المستشفيات والمراكز الصحية، ما يؤدّي إلى وفاتهم، نتيجة الدهس المباشر، أو بسبب النزف الشديد وتأخر الإسعاف.

الإسرائيليون يتعمّدون دهس المواطنين الفلسطينيين، ويقصدون قتلهم، ولا يوجد ما يجعلهم أبرياء من هذه الجريمة، ولا ما يشفع لهم منها، فهم يتعمّدون قيادة السيارات بسرعةٍ فائقةٍ في الشوارع والطرقات العامة التي يرتادها الفلسطينيون، بالقرب من المستوطنات الفلسطينية، أو داخل المدن والبلدات بالقرب من المدارس والأسواق، وأحياناً في الطرق السريعة والأماكن النائية، ويختارون الأوقات التي يسهل فبها اصطياد الفلسطينيين في الشوارع والطرقات، سواء وقت الظهيرة أو في ساعات الليل المتأخرة.

يرتكب مثل هذا النوع من الجرائم قطاعاتٌ كثيرة من «الإسرائيليين»، إذ لا يقوم بها المستوطنون وحسب، وإنْ كانوا هم أكثر الجناة وأوضحهم، بل يرتكبها أيضاً المتديّنون والحاخامات، ورجال الشرطة وجنود وضباط الجيش، والشباب المتسكع والمستوطنون المتطرفون، والوافدون والزائرون الصهاينة والمؤيدون لهم، الذين يجدون في قتل الفلسطينيين دهساً مشاركة ومساهمة في بناء وتحصين المشروع الصهيوني.

يبرّر «الإسرائيليون» جرائمهم كذباً بأنها إما أنها عرضية وغير مقصودة، أو أنها «دفاعٌ عن النفس»، ومحاولة لإنقاذ أنفسهم وعائلاتهم من الفلسطينيين الذين يقفون على قارعة الطريق، يحملون الحجارة والأدوات الحادّة، ويتربّصون بـ«الإسرائيليين» العابرين لرشقهم بالحجارة، أو لضربهم والاعتداء عليهم بالأدوات الحادّة التي يحملون، فلا يستطيع السائقون التوقف مخافة تعرّضهم للخطر، بل يندفعون ويزيدون في سرعتهم ليتمكنوا من النجاة والإفلات من رشقات الحجارة التي تنتظرهم وتتربّص بهم.

تصدّق الشرطة «الإسرائيلية» رواية المستوطنين، وتبرّئهم من الجريمة، وتتهم الضحايا بأنهم هم السبب في الحادثة، وأنهم المسؤولين عن مقتلهم، بل وأنهم كانوا يعرّضون حياة المواطنين للخطر، ولهذا فهي تكتفي بمعاينة مكان الحادث، وتسجيل البيانات وجمع الأدلة والمعطيات، وتأمر بنقل الجثة إلى المستشفى وتسليمها أحياناً إلى ذويها أو احتجازها لفترة، بينما تخلي سراح المستوطنين، وقد تأمر بقوةٍ لمواكبتهم ومرافقتهم حتى يصلوا إلى أماكنهم المقصودة، بقصد حمايتهم ومنع الاعتداء عليهم.

أما القضاء «الإسرائيلي» فهو الحصن الحصين للمجرمين الصهاينة، إذ أنه يبرّئهم ولا يدينهم، ويعفيهم من أيّ مسؤولية قانونية وأخلاقية، بل إنّ القضاء يبرّر جرائمهم، ويشرّع لغيرهم مثلها بتساهله وتواطئه، ولعله يستند في أحكامه إلى تشريعاتٍ وقوانين سنّها برلمانهم، وشرّعها نظامهم، والتزم بها قضاتهم، طالما أنّ الضحية هو فلسطيني، بينما يكون قضاؤهم مختلفاً وحكمهم قاسياً ورادعاً إذا كان القتلى «إسرائيليون».

أما إنْ كان الداهس فلسطينياً والمقتول دهساً «إسرائيلي»، فإنه يُحال إلى المحاكم العسكرية، وتصنّف الحادثة بأنها «عملٌ إرهابي»، وأنه جاء على خلفيةٍ قومية، بسبب الحقد والكراهية، وتصدر في حقه أحكامٌ قاسية جداً، قد تصل أحياناً إلى المؤبد، حيث لا يؤمن القضاء «الإسرائيلي» ببراءة الفلسطينيين من سوء النية وتعمّد الدهس والتخطيط للقتل.

لا يوجد في القانون الدولي والإنساني ما يجيز عمليات قتل «الإسرائيليين» للمواطنين الفلسطينيين، الخاضعين لسلطات الاحتلال الغاشمة، إلا أنّ العدو الصهيوني لا يبالي بالقانون الدولي، ولا يحترم القانون الإنساني، بل يعتمد على شرعته التي استحدثها لنفسه، والقانون الذي سنّه لخدمة أغراضه وأهدافه، وما زال ماضياً في سياسته، يقتل بصمتٍ، ويمارس الإعدام عشوائياً وعبثياً خارج أي عرف أو قانون.

https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi

tabaria.gaza gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى