أمير البُزُق… محمد عبد الكريم

«أشهد أنني عشت حياتي، وتمتّعت بلذة العزف وسماع الموسيقى وإبداعها. أنا أغنى رجلٍ في التاريخ، لأنني ملكت قلوب الناس وعقولهم وأرواحهم، وهذا أعظم الثروات. ولسوف يذكرني الناس كلّما سمعوا ألحاني، أو ذُكِر اسمي. أو كلّما شاهدوا غجرياً يتشيطن على بُزُقِه ببراعة» هذا ما قاله الموسيقي السوري المبدع محمد عبد الكريم الشهير بـ«أمير البزق»، المولود على الأرجح عام 1905 في حيّ «الخضر» الشعبي في مدينة حمص من أسرةٍ تعشق الموسيقى.

في طفولته وعلى إثر حادثٍ عنيفٍ، أصيب محمد عبد الكريم إصابة بليغةً، الأمر الذي سبّب له عاهةً دائمةً رافقته طوال حياته، وأدت إلى توقف نموّ جذعه. يعدّ والده علي مرعي الذي كان عازفاً على آلتَي العود والبُزُق، أستاذة الأول في الموسيقى، وبعد وفاته تولّى أخوه سليم رعايته، فألحقه بالمدرسة الابتدائية، وكان يصحبه معه إلى الأفراح ليعزف على بُزُقه، وبعد إتمامه دراسته الابتدائية، انتسب محمد عبد الكريم إلى «نادي الميماس» عازفاً ضمن فرقته الموسيقيّة كما عزف ضمن الفرق الموسيقية التي زارت مدينة حمص.

في العاشرة من عمره، انتقل محمد عبد الكريم إلى دمشق مع والدته، وهناك بدأ العمل عازفاً على البُزُق في «مقهى النوفرة» مرافقاً الفنان خيال الظل «الكراكوزاتي أبو شاكر» وفي دمشق تعرّف أيضاً إلى فخري البارودي الذي قدّمه للمجتمع الدمشقيّ.

تعود تسميته «أمير البُزُق» إلى الملك فيصل ملك العراق الذي أعجب بعزفه أثناء حفلةٍ أقامها في باريس، ووصفه بأنّه «أمير العزف على آلة البُزُق» فطلب منه محمد عبد الكريم «فرماناً» يشير إلى ذلك، فأصدر الملك أمراً ملكياً بتسميته أميراً لآلة البُزُق.

تتلمذ «أمير البُزُق» على يدَي حسين محيي الدين بعيون، عازف البُزُق الشهير، وأولى رحلاته كانت إلى حلب، وعام 1925 زار القاهرة حيث تعرّف إلى أقطاب الموسيقى أمثال: محمد القصبجي، زكريا أحمد، محمّد عبد الوهاب.

عام 1927، سافر إلى ألمانيا بعد العرض المقدم من وكيل شركة «أوديون» للأسطوانات الموسيقية، وهناك سجّل «أمير البُزُق» خمس أسطوانات ضمّت مجموعة من المقطوعات الموسيقية. ومن ألمانيا سافر إلى فرنسا التي أحيا فيها عدداً من الحفلات، حيث حاز إعجاب الفرنسيين قبل العرب، ولم تطل إقامته في فرنسا، حيث غادرها إلى إيطاليا في العام نفسه، فأقام في روما ثم في نابولي، فميلانو حيث أحيا عدداً من الحفلات أثارت الكثير من الإعجاب بعزفه المبهر، وبالأخص عندما عزف على بزقه ألحان «النابوليتان» الشعبية، التي أدمن الإيطاليون الاستماع إليها من «الماندولين والبانغو والغيتار» حتى لقبوه بـ«بغانيني البُزُق».

لا شك أن قصر قامة «أمير البُزُق» سبّب له عدداً من المواقف المحرجة، غير أنه تجاوزها بتمرينه وعمله المتواصل والحثيث على آلة البُزُق، الذي أثمر إبداعاً أدهش الكثيرين. ففي إحدى السهرات قدّم «أمير البُزُق» وصلة عزفٍ سحرية كانت مسك الختام أبكت الحضور ثمّ أضحكتهم ثمّ جعلتهم نياماً!

ومن طرائف ما روي عنه أيضاً، أنه كان يتمرن بالعزف بأصابع قدميه على آلة البُزُق! وأنه وخلال إحدى الحفلات الموسيقية في بريطانيا وبعد أن استقبله الجمهور بالضحك والاستهزاء من مظهره، خلع «أمير البُزُق» حذاءه وأخذ يعزف بأصابع قدمه مقطوعة من التراث الموسيقي البريطاني، كما قيل إنه عزف النشيد الوطني البريطاني، ما دفع الحاضرين يقفون احتراماً له ولإبداعه، ثم غادر المسرح ولم يرجع إليه إلا بعد اعتذار الجمهور.

كان «أمير البُزُق» من المعجبين بالموسيقى الغربية، وقد طوّر آلة البُزُق وجدّدها، وعن ذلك يقول: «هل سمعت بالمثل القائل: وزاد في الطنبور نغماً؟ أنا قمت بذلك، وأضفت إلى البُزُق وترين، وجعلت من أربطة البُزُق 38 بعدما كانت 18 للتنويع في النّغم…» ولم يقف «أمير البُزُق» في مساعيه التطويرية عند هذا الحد، بل استبدل «طاسة البُزُق» وجعلها من خشب «الموندرين» كما جدّد في عقد البُزُق وأضاف إليه «زنداً ودساستين» كما أن لـ«أمير البُزُق» مقاماً خاصاً مسجّلاً باسمه يدعى «مريومة».

يعدّ «أمير البُزُق» من أسرع عازفي البزق في العالم، وقد تنافس مع العازف التركي الشهير والسريع جداً «شنشلار» وتفوق عليه، كذلك تعدّ معزوفته «رقصة الشيطان» من أصعب المعزوفات على البُزُق وأسرعها، لسرعتها ورشاقتها، وبناء جملها اللحنية المعقدة، وقد استطاع من خلالها أن يعبّر عن فيض طاقاته الإبداعية الخّلاقة عزفاً وتلحيناً وتأليفاً موسيقياً، وقد لقّب بعدها بـ«شيطان البُزُق».

في أواخر حياته أصيب «أمير البزق» بمرضٍ نقل بسببه إلى مشفى الهلال الأحمر وتوفّي في 30 كانون الثاني1989م وشيّع إلى مثواه الأخير في جنازةٍ بسيطة، بعد حياةٍ حافلةٍ أنجز خلالها إرثاً إبداعياً وموسيقياً خالداً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى