الدبلوماسية: أداة تواصل وتعاون أم نشاط تجسسي تآمري؟

صفحة الدراسات في «البناء»، أنشئت لتكون مساحة للأبحاث العلمية المتعلقة بشتى المواضيع ذات الصلة في قضايا الأمة والعالم العربي.

وهي إذ تتسع لمثل هذه الدراسات تبقى مجالاً مفتوحاً للحوار وطرح الإشكاليات الفكرية والسياسية وغيرها، تنشيطاً لدور الثقافة في الصيرورة الاجتماعية. علماً أن الآراء التي ترد على مساحة الصفحة تعبر عن أصحابها وليست بالضرورة مطابقة لقناعات الصحيفة.

إلا أنه انطلاقاً من القناعة الراسخة بضرورة خلق حوار فكري حول القضايا والإشكاليات كافة وما أكثرها، والتي تفرض نفسها على صاحب القرار والمثقف وقادة الرأي والمواطن في أي موقع كان، كانت صفحة الدراسات في «البناء» هي الترجمة العملية لهذه القناعة آملين أن تشكل هذه الصفحة مساحة فكرية ـ سياسية تعنى بهموم الوطن والمواطن، تدرس الحاضر لترسم المستقبل.

د. نسيب أبوضرغم

بدايةً، لا بد من تأكيد أن الدبلوماسية كمضمون قد عرفتها البشرية منذ عهود سحيقة، «فهي قديمة بمعناها وممارستها وليس في تسميتها». و»يمكن إرجاع الدبلوماسية إلى العصور السحيقة في القدم، وربما إلى الجماعات البدائية التي وحدت نفسها بحكم ظروفها الاقتصادية والاجتماعية، مضطرةً إلى الاتصال في ما بينها للإيحاء بحل سلمي للمشاكل المعلقة التي أوجدتها البيئة البدائية التي عاشتها».

إن الراصد لحركة تطور الفكرة الدبلوماسية أو النشاط الدبلوماسي، يرى أن الشعوب القديمة سواء في الهند أو الصين أو في وادي النيل أو ما بين النهرين، قد عرفت النشاط الدبلوماسي كما تدل الوثائق التاريخية، وكانت هذه الدبلوماسية موظفة لإيجاد الحلول للمشاكل الموجودة عبر الاتفاقات والمفاوضات.

وما عرفته الشعوب المذكورة أعلاه من نشاط دبلوماسي، كان قد عرفته بلاد الإغريق والرومان والبيزنطيين، وكذلك المدن الإيطالية والعرب في جاهليتهم وفي الإسلام.

مع تأكيد تطور المفهوم الدبلوماسي سواء ما تعلق منه بحدود الوظيفة، أم بمضمونها. نعود في هذه المرحلة لمقاربة موضوع الدبلوماسية، في وقت تتكاثر وتتزايد المداخلات والتداخلات من قبل رجال السلك الدبلوماسي في شؤون الدول المعتمدين لديها، وبخاصة في دول العالم الثالث، وبشكل أكثر خصوصية في الدول السورية والعربية.لم تكن الدبلوماسية نظيفة في أي مكان في العالم، إلا أن ما اقترفته بحق شعوبنا، من تآمر وتخريب وإسقاط أنظمة ودول، واغتيالات، وتحريض، ورعاية جواسيس وعملاء، وتدخل مباشر على الأرض في كثير من الأحيان، بغية تحقيق الأهداف العائدة إلى دول رجال السلك الدبلوماسي، يفوق القدرة على احتمال هؤلاء الدبلوماسيين الجواسيس- المتآمرين .

وبناءً عليه، سوف نقارب هذا الموضوع، من زاويتين:

الأولى: مبدئية، تتعلق بالاتفاقات الدولية الدبلوماسية، ورأي أهل الفقه بالظاهرة الدبلوماسية.

الثانية: الممارسات الفعلية القائمة على الأرض وتداعياتها السلبية على الدولة المعتمدة لديها.

أ- في الاتفاقات الدولية:

1- يعتبر مؤتمر فيينا لعام 1815 وما أقره من قواعد دولية ثابتة، حجر الأساس في بناء الدبلوماسية.

2 ـ اتفاق فيينا الدولي للعلاقات الدبلوماسية 1961 .

ما هي الدبلوماسية: الدبلوماسية كلمة يونانية الأصل مشتقة من «Diploma»، وتعني الوثيقة، ولقد استعملت عبارة»Res-diplomatica»، أو العمل الدبلوماسي حتى نهاية القرن 17 لتشير إلى مهنة حفظ الوثائق وتبويبها وتحقيقها… ويقول R. Genet :»إن الدبلوماسية هي فن تمثيل الحكومة ورعاية مصالح البلاد لدى الحكومات الأجنبية، والسهر على أن تكون حقوق البلاد مصونة وكرامتها محترمة في الخارج، كما أنها تعني إدارة الشؤون الدولية بتوجيه المفاوضات الدبلوماسية».

ويقول شارل كالفو: «إن الدبلوماسية هي علم العلاقات القائمة بين مختلف الدول، كما تنشأ عن مصالحها المتبادلة وعن مبادئ القانون الدولي ونصوص المعاهدات والاتفاقات».

كان لا بد من عرض ما تقدم، كضرورة بحثية تسبق مقاربة دور الدبلوماسية الفعلي والقائم على الأرض، سواء على الساحة اللبنانية أم على غيرها، نظراً إلى ما لهذا الدور من آثار سلبية وأحياناً مدمرة لواقع الدولة المعتمد لديها، سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً.

إنه، ومن حيث المبدأ، فإن الدبلوماسية، ومنذ عقود خلت، باتت تشكل عاملاً مؤثراً في صيرورة المجتمعات، وبخاصة الصغيرة والضعيفة منها، كالمجتمع اللبناني، ليس بفعل صغر حجم هذا المجتمع، أو ضعف الناتج القومي العائد له، فحسب، بل بفعل تكوينه السوسيولوجي الفريد، ذي الطبيعة الهشة، المشكلة من مذاهب وطوائف، هي مكونات سياسية ـ ثقافية ـ لا تتورع عن مد يدها إلى الخارج، مستعينة بقوى خارجية لتحقيق مكاسب داخلية، تشكل أرضاً خصبة لفعل الدبلوماسية الهادف إلى تحقيق مكاسب تعود إلى الدول المعتمدة على حساب الدول المعتمد لديها.

وفي السياق ذاته، يكشف لنا التاريخ الدبلوماسي، عن كثير من الثورات والفتن والحروب والحوادث، كان الدبلوماسيون هم المحرضون عليها، وأحياناً، هم المنظمون لها.

ليست الأحداث الدموية عام 1860 غير دليل على دور هؤلاء الدبلوماسيين القناصل في إشعال تلك الفتن الطائفية، التي كلفت لبنان أثماناً باهظة على مستوى وحدته الاجتماعية. وكذلك دور هؤلاء الدبلوماسيين في إحداث الانقلابات والثورات، مثال ما حدث في إيران بالانقلاب على مصدق، أو ما حدث في سوريا عام 1949 عبر انقلاب حسني الزعيم.

كذلك الانقلاب الذي وقع ضد الرئيس سيلفادور الليندي في تشيلي، والانقلاب الذي وقع ضد الرئيس باتريس لومباني في الكونغو.

قد يكون لبنان مثالاً متميزاً في تأثير تدخل الدبلوماسيين في شؤونه، فهو الأكثر انفعالاً بحركة السفراء وذلك نظراً لطبيعة تركيبته كما أسلفنا.

لقد شهد تاريخ لبنان بروز سفراء أجانب وعرب، كانوا بمنزلة مفوضين سامين، كانت لهم الكلمة العليا واليد الطولى في قرارات الدولة الأساسية. في وقت ما زلنا نرى يومياً حركة دبلوماسية خارجة على كل القواعد الدبلوماسية، يقوم بها سفراء معتمدون لدى الحكومة اللبنانية. غير مراعين لأبسط القواعد الدولية المعتمدة والمنصوص عليها في تفاق فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961.

وفي هذ السياق، لا بد من إيراد التعريف الذي وضعه كابيه للدبلوماسية:

«إن الدبلوماسية هي طريقة قيادة الشؤون الخارجية لأشخاص القانون الدولي، من خلال وسائل سلمية عن طريق المفاوضة».

انطلاقاً من ذلك، يمكننا أن نطرح الإشكالية التي هي موضوع هذه الدراسة، في كيف تقود الدبلوماسية الحاضرة الشؤون الخارجية لأشخاص القانون الدولي الدول + المنظمات الدولية والإقليمية .

لا بد من الإشارة في هذا السياق، إلى أن الوظائف التقليدية للدبلوماسية هي ثلاث:

أولاً: الحماية: حماية مصالح الدولة وحماية رعاياها.

ثانياً: المفاوضة: من أجل استدراك منازعات وأحياناً للتخفيف منها، أو من أجل ترتيب أوضاع الماضي ومعالجة أوضاع المستقبل.

ثالثاً: المراقبة: مراقبة كل ما يمس مصالح الدول في علاقاتها المتبادلة بمعزل عن المصالح الخاصة.

هل ما زالت الدبلوماسية حاضراً تعمل في هذا الإطار ذاته؟

بالتأكيد لا، فالدبلوماسية الحديثة قد اتسع ميدانها ونظامها بعد الحرب العالمية الأولى، حيث دخلنا عصر الدبلوماسية العلنية أو المفتوحة، من حيث أن الدبلوماسية لم تعد وقفاً على الدول الأوروبية أو الدول الكبرى، بل أصبحت تشمل العديد من الدول ذات الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المختلفة، إلى جانب وجود منظمات دولية وإقليمية، وبالتالي لم تعد وظائف التمثيل والمفاوضة والمراقبة والحماية والإعلام، وظائف دبلوماسية محصورة بالمجال السياسي والإيديولوجي فقط. لقد اتسع نطاقها ومجال ممارستها ليشمل ميادين عدة: اقتصادية وثقافية وتكنولوجية… وصار التمثيل الدبلوماسي لا يطرق باب الحياة السياسية فقط، أو ينحصر في حيز محدود من النشاط التجاري والاجتماعي والثقافي، وعقد بعض معاهدات السلم أو الهجرة أو الإقامة، وإنما اتسعت وظيفة التفاوض لتتناول المعاهدات بكل أنواعها الاقتصادية والصناعية والفنية: كاتفاقات النقد وحفظ الملكية الأدبية والفنية وشراء المعدات والأدوات الصناعية.

وفي هذا الإطار، نود أن نشير إلى سياق تاريخي، ارتبط ارتباطاً وثيقاً بتطور مضمون الوظيفة الدبلوماسية. لقد شكلت نهاية الحرب العالمية الأولى نهاية مرحلة من العمل الدبلوماسي، كانت تقوم فيها الدبلوماسية بدور تقليدي عبر وظائف تقليدية، حُددت بثلاث: الحماية والمفاوضة والمراقبة. بعد هذه المرحلة جاءت المرحلة الثانية، وصعود الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي كقطبين دوليين، يرسمان مسار التطور البشري سياسياً واقتصادياً وثقافياً لعقود طويلة. إضافة إلى قيام منظمة الأمم المتحدة، والفروع المنبثقة عنها، والمنظمات الإقليمية كمنظمة دول عدم الانحياز، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وقبل ذلك جامعة الدول العربية، وكذلك قيام الاتحاد الأوروبي، الظاهرة الأكثر جدية وفعالية من الظواهر التي سبق ذكرها.

هذه المرحلة انتهت بتفكك «الكتلة الاشتراكية» وبانهيار الثنائية الدولية، وبتفرد الولايات المتحدة الأميركية بقيادة العالم.

في هذه المرحلة، حصل تغيّر نوعي في المشهد الدبلوماسي، بحيث لم تعد عملية التمثيل الدبلوماسي قائمة على مبدأ توازن السيادات، المبدأ الذي أخذ به اتفاق فيينا الدبلوماسي لعام 1961، والمُعبر عنه بمبدأ منح الحصانات القضائية للمبعوثين الدبلوماسيين والقنصليين، إضافة إلى حق الدولة المعتمد لديها اتخاذ الإجراءات التي تضمن سيادتها.

هذا ما أكدته المادة 41 في فقرتها الأولى من الاتفاق الدبلوماسي المشار إليه أعلاه. لقد جنحت الولايات المتحدة الأميركية بشكل فظ تجاه عدم احترام المعاهدات والمواثيق، فنصَّبت نفسها حاكمة على العالم. هكذا تتصرف في مجلس الأمن الدولي بحيث أخذت تستصدر من هذا المجلس قرارات تحت الفصل السابع من دون أن يكون الفعل المقصود بالقرار يهدد السلام والأمن الدوليين.

ما درجت عليه الولايات المتحدة الأميركية في المنظمة الأممية، كان عبر حركة دبلوماسية لم تقتصر على نطاق هذه المنظمة، بل تعدى ذلك إلى كامل الرقعة الأرضية.

لم تعد الثنائية القطبية موجودة، وبسقوطها انتقل العالم من مرحلة الدول العظمى إلى مرحلة الدولة العظمى، إلى عصر الإمبراطورية الأميركية القابضة على مفاصل القرار الدولي.

لقد حددت المادة الثالثة من اتفاق فيينا الدبلوماسي لعام 1961 وظائف البعثة الدبلوماسية بما يلي:

أ- تمثيل الدولة المعتمدة في المعتمد لديها.

ب- حماية مصالح الدولة المعتمدة ومصالح رعاياها في الدولة المعتمد لديها ضمن الحدود التي يقرها القانون الدولي.

ج- التفاوض مع حكومة الدولة المعتمد لديها.

د- استطلاع الأحوال والتطورات في الدولة المعتمد لديها بجميع الوسائل المشروعة.

هـ- تقديم التقارير اللازمة عنها إلى حكومة الدولة المعتمدة.

و- تعزيز العلاقات الودية بين الدولة المعتمدة والدولة المعتمد لديها وإنماء علاقاتها الاقتصادية والثقافية والعلمية.

السؤال الذي يطرح نفسه، هل تلتزم البعثات الدبلوماسية الوظائف التي حددتها المادة الثالثة أعلاه؟

بالتأكيد لا، ذلك أن الغالبية الساحقة من هذه البعثات تخرج من دائرة الوظائف والمهمات التي نصت عليها المادة الثالثة أعلاه، فهي قد درجت على تحويل السفارات، وبخاصة منها، سفارات الدول المقتدرة دولياً وإقليمياً إلى مرجعيات تحاك عبرها كل المؤمرات الآيلة، إما إلى إحداث أعمال شغب أو انقلابات عسكرية، أو اغتيالات سياسية، سواء أكان ذلك عبر التمويل أو التخطيط أو المشاركة الفعلية، أو في كل هذه الأمور معاً. وقد أوردنا في بداية الدراسة أمثلة عدة حول تدخل الدبلوماسيين في إحداث أعمال داخل الدولة المعتمد لديها.

قبل الدخول في مفاعيل التدخل الدبلوماسي في الشؤون الداخلية للدول المعتمد لديها، لا بد من الإشارة إلى الحق الذي وفَره اتفاق فيينا الدبلوماسي للدول التي يجرى التدخل الدبلوماسي في شؤونها الداخلية. ففرض على البعثة الدبلوماسية موجبات قررتها المادتان 41 و42 من الاتفاقي الدبلوماسي- فيينا 1961 لقد نصت المادة 41 على ما يلي:

1 ـ «يجب على كل المتمتعين بالحصانات والامتيازات مع عدم المساس بها، احترام قوانين الدولة المعتمد لديها، وأنظمتها، ويجب عليهم كذلك عدم التدخل في شؤونها الداخلية».

2 ـ وقد نصت الفقرة الثالثة من المادة ذاتها على ما يلي:

«يجب ألا تستخدم مقار البعثة بأي طريقة تتنافى مع وظائف البعثة، كما هي مبينة في هذا الاتفاق، أو في غيره من قواعد القانون الدولي العام، أو أي اتفاق خاص نافذ بين الدولة المعتمدة والدولة المعتمد لديها».

وهكذا يتوجب على البعثات الدبلوماسية عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة المعتمد لديها. حيث تتجلى مظاهر هذا التدخل من خلال تجنب التدخل والتأثير في العلاقات بين الدولتين، كما يتوجب على البعثة وأعضائها عدم اتخاذ مواقف ضد أحد الأطراف، أو المشاركة في المؤتمرات أو الانقلابات، أو انتقاد سياسة الحكومة داخلياً وخارجياً، والإقدام على تصرفات من شأنها انتهاك مبدأ السيادة أو عدم احترامه.

إن انتهاك هذه المبادئ وعدم احترامها من قبل البعثة وأعضائها، لا يؤدي فقط إلى خلق جو من التوتر بين الدولتين، والى تدهور العلاقات بينهما، بل وأيضاً، إلى طلب استدعاء البعثة أو أحد أعضائها، أو إعلان المبعوث الدبلوماسي شخصاً غير مرغوب فيهPersona no grata، أو طرده.

لقد سجل التاريخ الدبلوماسي، أن أكثر حالات طرد المبعوثين الدبلوماسيين أو استدعائهم، وبالتالي اعتبارهم أشخاصاً غير مرغوب فيهم، كانت جراء تدخلهم في الشؤون الداخلية للدولة المعتمدة لديها، أو محاولة تجسس يقومون بها، أو عدم احترامهم لأحكام مبادئ اتفاق فيينا الدبلوماسية 1961.

مثلاً:

1 ـ طرد السير ساكفيل Sackville ، وزير خارجية بريطانيا من واشنطن عام 1888، بسبب رسالة منه يفضل فيها اسم مرشح لرئاسة الولايات المتحدة على سواه من المرشحين.

2 ـ طرد إسبانيا للسفير البريطاني بسبب تحريضه المنتفضين الإسبان عام 1848.

3 ـ طرد السفير التركي في القاهرة، فؤاد طوغاي، عام 1954، بسبب انتقاده قانوناً أصدرته الثورة المصرية.

4 ـ طرد بريطانيا لخمسة دبلوماسيين روس بسبب أعمال تجسسية، حيث ردت موسكو بالمثل، فطردت خمسة ممثلين دبلوماسيين بريطانيين، وهو ما يسمونه بالعرف الدبلوماسي نسخة طبق الأصل .

السؤال: ما هي الإجراءات التي يحق للدولة المعتمد لديها، والتي وقعت فيها انتهاكات البعثة الدبلوماسية أن تتخذها حفظاً لسيادتها؟

إن الإجراءات التي قررها اتفاق فيينا للدولة المعتمد لديها، نصت عليها المادة التاسعة من الاتفاق المذكور.

1 ـ نصت الفقرة الأولى من المادة التاسعة:

«يجوز للدولة المعتمد لديها أن تعلن للدولة المعتمدة، أن رئيس بعثتها أو أي موظف دبلوماسي فيها، غير مرغوب به أو غير مقبول».

2 ـ كما أن الفقرة الثانية من المادة التاسعة ذاتها، نصت على أنه «يجوز للدولة المعتمد لديها أن ترفض الاعتراف بالشخص المعني فرداً بالبعثة، إذا رفضت الدولة المعتمدة أو قصرت خلال فترة معقولة من الزمن بالوفاء بالتزاماتها المترتبة عليها بموجب الفقرة الأولى من المادة التاسعة.

3 ـ طرد الموظف الدبلوماسي: تستطيع الدولة المعتمد لديها عدم الاعتراف بالصفة الدبلوماسية واعتبارها شخصاً غير مرغوب بهPersona no grata، وهذا يؤدي إلى طرده.

4 ـ قطع العلاقات الدبلوماسية، والذي هو حقٌ سيادي للدولة، فمثلما تستطيع الدولة أن تقيم علاقات دبلوماسية مع أية دولة أخرى، ترى أن لها مصلحة فيها، فعلى ذات القاعدة، تستطيع الدولة عينها أن تقطع علاقاتها الدبلوماسية.

من خلال هذا العرض، رغبنا بالوصول، إلى طرح موضوع النشاط الدبلوماسي، ليس من خلال النص فقط، وإنما من خلال الممارسة. الممارسة التي تُثبت أن هذا النشاط كان في معظمه خارجاً على أحكام الاتفاقيات الدولية ذات الصلة. وبالتالي فقد جنحت البعثات الدبلوماسية في القسم الأكبر منها، وبخاصة تلك العائدة إلى الدول المقتدرة، عن القيام بالوظائف التقليدية أو المستخدمة بعد الحرب العالمية الأولى، إلى اعتبار السلك الدبلوماسي جهازاً تنفيذياً خارجياً لمهمات فرض المصالح والرؤى السياسية والمشاريع الهادفة إلى زعزعة أمن المجتمعات والدول. ولقد قال أحدهم: إن السفارات أصبحت أوكار جواسيس والسفراء هم رؤوساء هؤلاء الجواسيس.

ما نريد أن نتوقف عنده هو نقطتان:

1 ـ العولمة والدور الإمبراطوري للولايات المتحدة.

2 ـ قدرة الدول على مواجهة هذا الدور الإمبراطوري.

ما يمكن أن نقاربه في موضوع العولمة، هو أن نعرض بعض التعريفات المتعلقة بهذا المصطلح «العولمة»، وصولاً إلى دور الولايات المتحدة الأميركية الدبلوماسي في هذا الشأن.

العولمة لغةً هي جعل الأمر عالمياً، أما من الوجهة الواقعية، فهي منتوجة من تعولم الرأسمال، وهو حالة فوق رأسمالية بالمعنى التقليدي. ذلك أن الحالة الرأسمالية المعروفة قبل عصر العولمة الإمبريالية ، هي في تضخم الرأسمال الوطني إلى الحدود التي تسمح له بالانتشار الخارجي عبر شركات ومؤسسات وما شابه ذلك، وبالتالي فرض سياسة هذه الدولة صاحبة الرأسمال على مساحات من العالم.

قبل العولمة، كانت الدولة إمبريالية بالرأسمال، في عصر العولمة، أصبح الرأسمال هو الإمبريالية بالدولة، أي أن صفة الإمبريالية التي كانت مختصة بالدولة، أصبحت صفة مختصة بالرأسمال. وبالمختصر، فقد أصبحنا أمام عولمة السوق وسوقنة العالم.

أما الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة الأميركية في هذا الوضع الجديد، فهو دور المركز والمرجعية، بعد أن قُدر للولايات المتحدة، وقد استفردت بالعالم، بفعل انهيار المنظومة الاشتراكية، أن تحول الرأسمال المتعولم إلى طاقة في حركة مشروعها للهيمنة الأحادية، فاندمج هذا الرأسمال المعولم بالمشروع الأميركي الإمبراطوري، وأصبحا الآن يشكلان فعالية قيادة التاريخ منذ عام 1991 وربما إلى سنوات لا تتجاوز العشرين سنة، بانتظار أمرين اثنين:

الأول: تفكك العملاق الأميركي وهذا مستبعد.

الثاني: قيام عمالقة أخر روسيا- الصين الهند… يعيدون التوازن إلى العالم من جديد، وقد بدأت ظواهر تكوّن هذه الحالة تظهر عملياً عبر دول البريكس .

بالعودة إلى الدبلوماسية، وربطاً لها بالوضع الدولي الذي عرضناه أعلاه، يظهر، أن العمل الدبلوماسي في العالم، قد طرأ عليه تحول نوعي، فقد خسر بانهيار الثنائية الدولية قوة توازنه وتأكيده على مبدأ السيادة، وأصبح شكلاً تابعاً متفرجاً على صناعة التاريخ التي يقوم بها الأميركي. ثمة مشهدان في الوضع الدبلوماسي، الأول أميركي، لازال يكابر ويعمل لإبقاء الأحادية الدولية قائمة، فيشعل الحروب، ويدمر الاقتصادات وهو ترجمة للاستراتيجية العائدة للإمبراطورية الأميركية.

والثاني يتلقى نتائج هذه الدبلوماسية، وقد بدأ يحقق بعض نقاط القوة منذ عقد من السنين.

إلا أن المعركة لم تحسم بعد، لذلك، فإذا كانت الدبلوماسية هي النشاط التنفيذي في الساحة الخارجية، فماذا يمكن أن تكون عليه دبلوماسية الولايات المتحدة الأميركية، غير النشاط التنفيذي لنشر العولمة، وبمعنى أدق لفتح أسواق العالم عبر إسقاط الحمايات الجمركية اتفاق الغات و اتفاق التجارة الدولية و قانون داماتو وبإزالة كل المعوقات داخل الدول، والتي تمانع في جعل الأوطان وظائف، والاقتصادات مسلوبات للعولمة، والأسواق الوطنية أسواقاً مكشوفة ومفتوحة للسلعة الغربية، والأميركية بالتحديد.

إن الولايات المتحدة الأميركية، تنظر إلى كامل الكرة الأرضية، من فوق سطحها، وفي أعماق محيطاتها، على أنها منابع للثروة، وإن كانت هذه الثروة ملكاً لشعوب هي بأمس الحاجة إليها، ترى الولايات المتحدة، على رغم ذلك، أن هذه الثورات تقع في دائرة هيمنتها.

هذا ما حصل في الخليج العربي، وقبله في دول أميركا اللاتينية، وأفريقيا وآسيا وبخاصة في بحر قزوين، وما يحصل في قاع المحيط المتجمد الشمالي، وما حصل في العراق وما يحصل في سوريا.

إن الولايات المتحدة ترى الكرة الأرضية سوقاً كروية الشكل، ومصدراً للثروة كروي الشكل، وهي مركز الكرة وصاحبة الأمر فيها.

في هذا الإطار، نفهم حركة الدبلوماسية الأميركية، والدبلوماسية التابعة لها. الدبلوماسية الغربية وعلى رأسها دبلوماسية واشنطن، تشكل حركة غايتها تثبيت واقع سياسي في دولة الثروة، أو في دولة الموقع الاستراتيجي، أو دولة الأداة، تثبيت واقع يسمح للولايات المتحدة باستمرار هيمنتها الاقتصادية والسياسية، وخلق واقع جيو- سياسي جديد، على أنقاض واقع جيو-سياسي سابق لم يكن يلبي حاجات ومصالح الولايات المتحدة، وبالتالي يُكون معوقاً ما، يربك حركة نهب الولايات المتحدة لثروات الشعوب، هذه الاعتبارات التي ظهرت بكامل وحشيتها مع العولمة، والتي لا تقف عند أي اعتبار أخلاقي، أو حق تاريخي، أو قيمة إنسانية، حيث تحولت الدولة الأميركية بكامل أجهزتها إلى وحش تمكنت منه نزوة العولمة، وأصبح يتقدم محطماً كل الحمايات والدفاعات والحقوق العائدة للشعوب بغاية السطو وتكديس الثروة وفرض السلطة.

أليس موقف الولايات المتحدة الأعمى مع «إسرائيل»، دليلاً على أن القاعدة، لدى هذا الوحش الأميركي، ليست أخلاقية، بل مادية-مالية- سلطوية.

وعلى كل حال، فإن الولايات المتحدة الأميركية، لم تجنح إلى هذا الدرك اللاخلاقي في العقود القليلة الماضية، فإن أنطون سعادة قد أعلن عن سقوط الولايات المتحدة الأميركية، من عالم الإنسانية الأدبي في العشرينيات من القرن الماضي، يوم كانت الولايات المتحدة تدعي أنها رسولة الحرية وصديقة الشعوب.

في هذا الإطار، نفهم، حركة السفير الأميركي في عواصم العالم، حيث يتصرف بمضمون واحد وبأشكال مختلفة. المضمون هو كيف يجعل من الدول الأطراف تخضع لمشيئة المركز واشنطن ، وكيف يتأمن استمرار معادلة التابع والمتبوع، والناهب والمنهوب، وكيف تسلم الشعوب خزائنها وخزاناتها ومقدساتها وجوهرها الوطني… لهذا الكاوبوي المستقوي بالعولمة.

هناك ثمة معادلة ظاهرة، وهي:

أنه بقدر ما تكسب الولايات المتحدة الأميركية من شروط القوة، المسلوبة أصلاً من دول أخرى ومجتمعات مختلفة، بقدر ما تقوم بتجاوز قواعد القانون الدولي، وبذلك يتراجع القانون أمام تقدم القوة الأميركية، ليصبح شاهد زور. ليس اتفاق فيينا الدبلوماسي وغيره من الاتفاقات ذات الصلة، سوى أجزاء من القانون الدولي، كونها، اتفاقات دولية، ولكنها عديمة الفعالية، لأنها لم تعد تعيش في عالم متوازن. إن العولمة، زحف مالي ثقافي- اقتصادي غطى معظم الكرة الأرضية، وهذا الزحف يرفض أن تعيقه أحكام القانون الدولي القائم على احترام السيادات، إذْ لا سيادة إلا للمركز واشنطن ، ولا سلطة إلا «للسيد الأميركي»!

بهذا النهج تتعامل الولايات المتحدة مع العالم، ونحن في لبنان لنا من الأمثلة الكثير على وقاحة السفراء الأميركيين، الذين يتدخلون بالكبيرة والصغيرة، فيظهر السفير الأميركي على شاشة التلفزيون ليدلي برأيه بقانون الانتخابات النيابية، وبالاستحقاق الرئاسي، وقد سبق له أن أصر في عام 2005 على أن تجرى الانتخابات وفي موعد محدد، وكأنه يتصرف في الولايات المتحدة الأميركية، وصولاً إلى مقاطعة رئيس الجمهورية العماد لحود، ويفرض المقاطعة على جهات سياسية واسعة جداً.

لقد قَطَرَ السفير الأميركي حينذاك وراءَه سفير بريطانيا وسفير فرنسا في موقف بعيد كل البعد من الأعراف الدبلوماسية، فبأي منطق قانوني، يقاطع سفير رئيس دولة، هو منْ قدم له أوراق اعتماده، وبالتالي، بأي حق قانوني ودبلوماسي، يسمح لنفسه الطعن بشرعية رئيس الجمهورية؟!

إنها العولمة التي أظهرت الأوطان واقتصاداتها وشعوبها، مسلوبين لدى الأميركي، وبالتالي لا لزوم بالنسبة له، لأن يقف عند القانون الدولي الذي يقر ويعترف لهذه الأوطان بالسيادة، طالما أن هذا القانون، وضع قبل أن يمتلئ الجسم الأميركي بطاقة العولمة.

لقد أصبحت الدبلوماسية بهذا المعنى أداة تنفيذية لمصلحة العولمة، وأصبح العالم في مواجهة هذه الدبلوماسية، يواجه ما يمكن أن نسميه «بالعدوان الدبلوماسي المتمادي»، تقوده أميركا بمشاركة دول مجموعة السبع، في مواجهة دول العالم المتمسكة بحقها وثرواتها وإرثها الوطني.

المشهد الدبلوماسي القائم، يتمثل بممثل إمبراطوري، يرعى مصالح الإمبراطورية الكونية لدى رعايا هذه الامبراطورية التي هي عددٌ هائلٌ من الدول وليس كلها ، بعيداً من المعاهدات الدولية والأعراف وميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.

ألم تخرج الولايات المتحدة الأميركية إلى حرب العراق من دون موافقة مجلس الأمن؟ ألَم تلغ الولايات المتحدة الأميركية دولة قائمة فتمزقها وتفرقها بدماء مليون ومئتي ألف مواطن منها؟

ألم ترع الولايات المتحدة الحرب على سورية، أَلم يتحرك السفير الأميركي في دمشق فورد شخصياً على الأرض، لدعم المسلحين والمتمردين.

ألم تسمح أميركا بالاعتداء على غزة ثلاث مرات وتمنع بالفيتو إدانة «إسرائيل»؟

ليست الدبلوماسية بمفهوم واشنطن، أكثر من وسيلة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية بعيداً من أصول القانون الدبلوماسي أو سواه من المواثيق الدولية، وإن كانت تقوم على أشلاء الشعوب والأوطان.

لئن كانت الدراسة قد وُضعت في صيف 2006 فلقد أضيف إليها ما يتناسب مع المستجدات التي وقعت، سواء في منطقتنا أم في الخارج. ولكن أود أن أعرض حرفياً خاتمتها كما كتبت في حينه.

«إن هذا النهج الدبلوماسي العدواني المتفلت من كل القيود والاتفاقات والمواثيق والأعراف والأخلاق، سوف يستمر نهجاً أكثر قسوةً وبطشاً وتآمراً، حتى تأتي اللحظة، التي يتحصل فيها للعالم أن يعيد توازنه وللسيادات الوطنية حضورها.

إن مواجهة العولمة بكل أضلاعها، هي مهمة كل القوى الوطنية والحرة المستباحة سيادتها، إنها مهمة قومية، من حيث أنها تحفظ الوجود الوطني أرضاً ووحدةً وحدوداً وسيادةً، وهي مهمة اجتماعية بامتياز، من حيث أن مقاومة الرأسمال المتعولم وكسر آلياته عبر سيطرتنا على مواردنا، يضمن ثرواتنا ورفاهنا وتقدمنا الاجتماعي في كل أضلاعه.

إني أرى المستقبل، وقد أخذت تتكون كتلة تاريخية هي في طور التكون الأولي، بدأت إرهاصاتها وأولى تجلياتها في أميركا الجنوبية والوسطى مروراً بنهوض العملاقين الصيني والروسي. ليست المناورات الجوية التي أجريت بالأمس، بقيادة هذين الجبارين، غير دليل على صحة ما نذهب إليه. كتلة بدأت تظهر في سورية الطبيعية، عبر مقاومات ثلاث مقدسة، لبنانية وفلسطينية وعراقية، مقاومات هي من سيكتب التاريخ في الآتي من الأيام، وليس هذه الأنظمة العاجزة.

لم يبق أكثر من ربع قرن وتعود الدائرة إلى نقطة البيكار».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى