الشرق الأوسط يتهاوى… أميركا غير مسؤولة عمّا يحدث والحلول ليست سهلة ٢

ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق

أفردنا منذ أيام، حيّزاً واسعاً لتقرير كتبه فيليب غوردون ، ونشره في مجلة «بوليتيكو» مؤخّراً، تناول فيه الشرق الأوسط وما آلت إليه الأوضاع بعد ما سمّي «الربيع العربي»، مبرّئاً الولايات المتحدة الأميركية من أيّ تهمةٍ أو مسؤولية.

واليوم، ننشر الحلقة الثانية والأخيرة من هذا التقرير، وفيها يحاول الكاتب الذي يظهر كأنّه يعيش على سطح المرّيخ، أن يبدو ساذجاً إلى أبعد الحدود، إذ ربما لم تسنح له الفرص في حياته ليشهد جرائم الولايات المتحدة الأميركية في العالم. إنما أراد أن يقدّمها لنا كملاك حارس لهذا العالم، تنظّم أموره، وتحارب الإرهاب والقتل، وكأن في يدها حمامة سلام، كما يصوّرها لنا كأنّها تذهب إلى الحروب مرغمة، وتتحمّل هي تبعات هذه الحروب… عجبي!

إنّ غالبية ما ورد في هذا التقرير، بحلقتيه، يشي من جهة بالقدرة الإعلامية لدى الولايات المتحدة الأميركية لتلميع صورتها أمام العالم، وها هو غوردون يقدّم نفسه نموذجاً عن «الملمّعين»، كما يُظهر من جهة أخرى حجم الأكاذيب التي يبثّها هذا الإعلام.

ولعل المكان الوحيد الذي صدق فيه غوردون والإعلام الأميركي من خلفه، ذلك المقطع الذي تحدّث فيه عن نظرة أميركا إلى «إسرائيل»، إذ قال: « لدى الولايات المتحدة مصلحة كبيرة في «إسرائيل» مستقرّة وآمنة، وكذلك في فلسطين مستقرة وآمنة. بينما نستطيع القليل في الوقت الحالي حيال حلّ الدولتين، علينا على الأقلّ حماية هذه الآفاق التي قد تؤتي ثمارها بعد حين. وهذا يتضمن دعم قرار مجلس الأمن للأمم المتحدة لحلول دبلوماسية متوزنة وعادلة، ويعني بالتأكيد محاولة الحفاظ على سلامة كيان فلسطيني ينبذ العنف ويعترف بـ«إسرائيل» ويحترم الاتفاقات المسبقة، فضلاً عن محاولة إقناع الجمهور «الإسرائيلي» أن لا طريقة أخرى غير تلك – يحصلون فيها على «إسرائيل» يهودية وآمنة وديمقراطية تعيش بسلام مع جيرانها في المنطقة، إذا ما أرادوا التحكم بملايين الفلسطينيين في غزة والضفة».

كما نورد في هذا التقرير، مقالاً كتبه ستيفن كوك في«Council Foreign Relations»، حول مصر وما آلت إليه الأوضاع فيها، واحتمالات الصمود والسقوط.

ما الذي نستطيع فعله وما الذي نعجز عنه؟

ينظر عدد كبير من الأميركيين إلى هذه الاتجاهات ويفكر في التوقف. فقد استنتجوا أن المنطقة معقدة جداً وغير فعالة للغاية، وأنه علينا أن نفكر فقط في كيفية الخروج منها. وقد ترسخت هذه الخواطر في ذهني بوضوح تام منذ صيف العام 2013، عندما عرضت إدارة الرئيس أوباما استعمال القوة للردّ على استخدام سورية للأسلحة الكيماوية. وعند الحديث عن الحاجة إلى اتخاذ إجراءات جريئة أو قيادية، جاءت الإجابة من الغالبية العامة ومن الكونغرس، رفضاً مطلقاً لدعم عدد غير محدود من الضربات. وتذكرنا هذه المعارضة التي سمعناها ونسبة الجمهور المعارض لمثل هذا التدخل، وفقاً لاستطلاعات الرأي ومضمون مكالمات الكونغرس، بالحجج التي سمعناها من انعزاليي 1930. فنحن تعوّدنا على محاولات التدخل من قبل، غير أن المنطقة لم تكن لتحتمل ذلك، وفضلنا البقاء خارجاً. غير أن هذه الآراء لاقت أصداء وتحوّلات لافتة منذ ولادة «داعش»، فهناك شعور لا يزال قوياً جداً يؤكد أن أيّ تدخل في الشرق الأوسط سيكلّف الكثير. أتفهم وجهة النظر هذه، علماً أنها تذهب بعيداً جداً.

انتهج عدد آخر من الأميركيين منحى آخر مختلفاً نما باطّراد بعد ذكريات الحرب الأميركية على العراق عام 2003، وما تلاه من ارتفاع تهديد «داعش». ويرى هؤلاء أن هذه المشكلة تزداد تفاقماً بسبب سياسة ضبط النفس التي تنتهجها الولايات المتحدة والدعوة إلى اتباع نهج للتدخل يشمل المزيد من القوات في العراق فضلاً عن الغارات الجوية أو حتى تلك البريّة في حربها ضدّ الأسد في سورية، وإمكانية استخدام القوة لتدمير برنامج إيران النووي. وقد تمثّل هذا في الاستماع إلى توصيات المؤتمر المقبل للمرشحين الجمهوريين ناهيك عن صدى أكثر الأصوات تشدداً كصوت السيناتور جون ماكين، ليندسي غراهام أو المحافظين الجدد الذين دعموا الحرب في العراق وكذلك النداءات القوية لتحقيق المزيد من عرض العضلات.

ونتفهم حجم المخاطر المتوقعة، والرغبة في «القيام بأيّ شيء»، غير أن هذه المقاربة هي أكثر خطورة من مجرّد ترك كلّ الأمور خلفنا. وأصبحنا ندرك مؤخراً فقط أن تدخلات الولايات المتحدة في المنطقة العراق: والتي يمكن أن تزيد كلفتها على التريليون دولار، 5000 جندي أميركي، وأكثر من نصف مليون عراقي، وسمعة الولايات المتحدة عالمياً ، إضافة إلى استقطاب عدد من العواقب غير المقصودة كتفاقم الانقسام بين السنة والشيعة، وولادة «داعش»… إن استخدام القوة للتخلص من نظام الأسد هدف نبيل بحدّ ذاته، وما من شكّ في أن تحقيقه سيخلصنا من مشكلة حقيقية تواجهنا لكنه سيخلق مشكلات أخرى، بما في ذلك احتمال المزيد من عدم الاستقرار أو الصراع الطائفي في سورية، فضلاً عن «تلزيم» هذه المشكلات للولايات المتحدة فقط. ففكرة استخدام القوة المتمثلة بالضربات الجوية ضدّ الأسد ستجعله يتنحى عن الرئاسة ويسلمها للمعتدلين ستكون فظيعة للغاية، وستثبت التجربة أن الآمال قد وُضعت في غير مكانها.

عندما نشير إلى أن الولايات المتحدة تستطيع فقط «إصلاح» مشكلات الشرق الأوسط، مع إعطاء كلّ ذي حق حقه، سيكون من الجدير حينئذٍ أخذ الأمور التالية في عين الاعتبار: في العراق، تدخلت الولايات المتحدة واحتلت البلاد، وكانت النتئج كارثية. في ليبيا، تدخلت الولايات المتحدة لكنها لم تفرض احتلالها، وكذلك جاءت النتائج كارثية. أما في سورية، فلم تتدخل الولايات المتحدة ولم تقم باحتلال الأرض، وأيضاً كانت النتائج أكثر من كارثية. علينا أن نبقي هذه المعطيات في أذهاننا عندما نتأمل الحلول المقترحة للمضيّ قدماً.

اذاً، ما الذي يُفترض بنا القيام به؟ ما من جواب بسيط على هذه الأحجية. فهناك تغييرات تاريخية، تكتونية مستمرة الحدوث وستتطلّب أجيالاً بعد أجيال للفراغ منها. لكن هذا لا يعني انه يتوجب علينا الاستسلام أو أن نرضى به.

قد أقترح أن الولايات المتحدة ستركز على حماية مصالحها الحيوية في المنطقة وتشدّد على مداراة أهدافها التي يمكن أن تُنجز بشكل معقول، وها هي قائمتي التي تتضمن التالي:

1ـ ردع حرب إقليمية وحماية حلفائنا

لا نستطيع إيقاف الحروب الأهلية، لكن لا يزال بإمكاننا منع نشوب حرب بين الدول وقد بذلنا الكثير من الجهود منذ عقود لغاية تاريخه. الاستثناء الوحيد الذي خرق القاعدة كان اجتياح العراق للكويت، وقد عزّز ذلك استجابة الولايات المتحدة لاستعمال القوة الحاسمة للردع منذ ذلك الحين. كذلك، فإن انسحاب 36000 من جنودنا من المنطقة ومن قواعدنا الرئيسية من شأنه تقليل قدرتنا على القيام بكلّ ذلك، وسيجعل المنطقة أكثر أمناً وبعيدةً عن إمكانية القيام بحرب شاملة في المنطقة، التي ستظهر قزمة وضحلةً للغاية في ظلّ كثافة الفوضى الحالية. وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما في القمة الأخيرة التي عُقدت مع الزعماء الخليجيين في كامب دايفيد، محقاً في الالتزام بحماية شركائه وحلفائه ضدّ أيّ عدوان خارجي. وهذا الالتزام الأميركي لا يستثني «إسرائيل» ومهما كانت خلافاتنا حول إيران ومسار عملية السلام، فإن التزام الولايات المتحدة حماية أمن «إسرائيل» وتفوقها العسكري النوعي، يساعد على منع نشوب صراعات داخل الدول.

2 ـ الحفاظ على الممرات البرية مفتوحة

علينا الحفاظ أيضاً على وجودنا العسكري في المنطقة والتزامنا الحفاظ على الحرية التجارية. فأكثر من 20 في المئة من إمدادات النفط في العالم وأكثر من 30 في المئة من تلك التي تُشحن عن طريق البحر تمرّ عبر مضيق هرمز، وستكون دوماً معرّضةً للخطر والتهديد من دون القوة العسكرية الأميركية. وكذلك، فإن تزايد استقلالية الولايات المتحدة في مجال الطاقة، وتبادل أسواق الطاقة العالمية، سيعني ـ حكماً ـ أن إغلاق الممرات البحرية سيكون له أثر كبير على اقتصاد الولايات المتحدة. إذ إن للولايات المتحدة فقط القدرة على القيام بذلك، انطلاقاً من مصلحتها الذاتية ومصلحتها الجماعية أيضاً.

3 ـ منع الانتشار النووي

وكما أن الأمور في المنطقة سيئة للغاية، فستكون أكثر من ذلك بكثير لو أن عدداً من البلدان، وليس فقط إيران امتلكت أسلحة نووية. وإذا ما أصرّت إيران على امتلاك تلك الأسلحة، فإن كثيرين غيرها في المنطقة سيحلمون بالسير حذوها، لترتفع بذلك احتمالات نشوب حرب نووية فعلية. وحتى مع وجود أسلحة نووية إيرانية فقط، فإن التهديد سيبقى قائماً، ليس لأن طهران مجنونة كفاية كي تستعمله بل لأن قدرتها على احتواء وردع العدوان الإيراني في المنطقة سيكون محدوداً للغاية اذا ما حصلت إيران على رادع نووي. والطريقة المثلى لتحقيق هذا الهدف وكما كنتُ قد كتبتُ سابقاً في «POLITICO» ـ هو نوع من اتفاق طويل الأمد يمكن أن يزيد من احتمال حظر كافة المسارات الإيرانية نحو امتلاك قنبلة نووية.

4 ـ منع الملاذ الآمن للإرهابيين

لا نستطيع قتل كلّ إرهابيي الشرق الأوسط أو إلقاء القبض عليهم. لكن يتوجب علينا منع خلق ملاذ آمن للإرهابيين يمكّنهم من التخطيط وتنفيذ هجمات دمار شامل ضدّ الولايات المتحدة وحلفائها. ولهذا السبب فإن الولايات المتحدة محقة في قيادة هذا التحالف وفي تسديد الضربات الجوية والتي لديها قدرة فريدة على القيام بها ضدّ «داعش» في سورية والعراق، بينما تعمل أيضاً على قطع الإمدادات المادية لهذه المجموعات، تشويه إيديولوجيتها ومعتقداتها، إيقاف تدفق المقاتلين الأجانب ودعم الحكومة العراقية. وكان النقاد محقون في القول بأن قدرتنا على تدمير «داعش» محدودة بسبب عدم وجود القوات الأميركية أو بسبب آخر، لكنها لا تفسر كيفية وجود هذه القوات التي ستعمل خارجاً أفضل مما كانت عليه عند دخولنا العراق. علينا ايضاً القيام بدعم حلفائنا في المنطقة الأردن، تونس، دول الخليج التي تعاني بسبب «داعش» ويمكن لها أن تكون شريكاً أكثر فعالية في القتال ضدّه. إذا كانت هذه الأرض خصبة للإرهابيين بسبب الحكم غير الفعال والفاسد للحكومات في المنطقة، فإن القوى العسكرية في الكون أجمع لن تستطيع احتواءها.

5 ـ تجنّب الصراع «الإسرائيلي» ـ الفلسطيني

لدى الولايات المتحدة مصلحة كبيرة في «إسرائيل» مستقرّة وآمنة، وكذلك في فلسطين مستقرة وآمنة. بينما نستطيع القليل في الوقت الحالي حيال حلّ الدولتين، علينا على الأقلّ حماية هذه الآفاق التي قد تؤتي ثمارها بعد حين. وهذا يتضمن دعم قرار مجلس الأمن للأمم المتحدة لحلول دبلوماسية متوزنة وعادلة، ويعني بالتأكيد محاولة الحفاظ على سلامة كيان فلسطيني ينبذ العنف ويعترف بـ«إسرائيل» ويحترم الاتفاقات المسبقة، فضلاً عن محاولة إقناع الجمهور «الإسرائيلي» أن لا طريقة أخرى غير تلك – يحصلون فيها على «إسرائيل» يهودية وآمنة وديمقراطية تعيش بسلام مع جيرانها في المنطقة، اذا ما أرادوا التحكم بملايين الفلسطينيين في غزة والضفة.

قد لا تبدو هذه القائمة طموحة أو مجيدة للغاية. فهي ليست «الرصاصة الفضية» ولن يبدو هذا وعداً بـ«التحويل» أو على شاكلة «طبعة جديدة» للشرق الأوسط. لكن، وإضافة إلى كلّ الأسباب التي شرحناها آنفاً، فمن المرجح أن تستمرّ هذه الأحوال لسنوات بل لعقود مقبلة. لا نستطيع تجاهل هذه الحقيقة، لكننا نستطيع حماية مصالحنا الرئيسية، احتواء نسبة الضرر والدمار، تجنّب الأخطاء التي من شأنها أن تؤدي إلى عواقب غير سليمة، وأن تؤوي الموارد البشرية والعسكرية والمالية الثمينة وغيرها من التحديات في الخارج. إن التركيز على مصالح الولايات المتحدة الحيوية ليس حلاً مثالياً لمشكلات الشرق الأوسط ـ بل أفضل البدائل المتوافرة.

هل مصر مستقرّة؟

كتب ستيفن كوك :

لا أستطيع أن أتذكر تماماً، كم من المرات طرحتُ هذا السؤال على زملائي أثناء حلقات النقاش والطاولات المستديرة وجلسات الاستماع واللقاءات التي لا تنتهي معهم. إنه في الواقع، سؤالٌ يدور أكثر حول مدى صلابة ومتانة نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وحول النظام السياسي القديم / الجديد في مصر، أكثر من كونه سؤالاً مرتبطاً بالاستقرار. وقد تكون الإجابة الأكثر صدقاً هي: ربما نعم وربما لا. قد يكون من الصعب بمكان الوصول إلى الاستقرار المنشود، إنما على المستوى التحليلي، فإن هذا أقصى ما يمكن أن نطمح اليه. لا تبدو متانة النظام السياسي المصري واستمراريته بخير على الإطلاق. فمصر تعكس كافة أنواع المشكلات والأمراض المجتمعية الحديثة: طبقة وسطى تسعى دوماً إلى المزيد وتخشى من فقدان ما تملك، طبقة نخبوية قديمة مصممة على الحفاظ على المزايا التي تتمتع بها، تنمية اقتصادية غير متوازنة وتحضّر سريع. ويمكننا أن نضيف إلى هذا المزيج، ارتفاعاً حاداً في أسعار المواد الغذائية، زيادة تكاليف الوقود، انقطاع الكهرباء، انهيار البنية التحتية، انعدام شبكة الأمان الاجتماعي منذ فترة زمنية طويلة، وتمرّداً قويّاً. كلّ هذا المزيج ينسج مجتمعاً متصارعاً سياسياً، عنيفاً، وغير مستقرّ.

كيف يسعى السيسي ـ لغاية الآن ـ إلى إدارة كل هذه التحديات المعقدة والمتعددة الطبقات في الوقت عينه؟ ربما لأنه هو المبتدئ، لكن ليس بالمستوى المطلوب لغاية تاريخه. يمارس السيسي حكمه بإصرار شديد على الإكراه، المحسوبية، وبتركيز أقلّ على اجتراح رؤية صادقة وإيجابية حول مستقبل لمصر يتلاءم مع تطلعات معظم المصريين. ولو أن السيسي يملك مثل هذه الرؤية، فإن وسائل الإعلام، كذا المسؤولين، لن يحتاجوا إلى التشكيك في نية الرئاسة المصرية حيال كلّ أولئك الذين قد يختلفون معه أو يشككون في اتهاماته للإخوان المسلمين ومؤيديهم، كذلك أولئك المتعاطفين مع الإرهاب، وعملاء الحكومات القطرية والتركية، حماس، «إسرائيل»، إيران، وبالطبع الولايات المتحدة. وعندما لا يجد القادة من مفرّ، سوى اعتماد القوة أو التهديد باستعمالها، فإنهم يفشلون غالباً في الحصول على ولاء وتأييد السكان، وبالتالي، تعريض قدرتهم على بسط سيطرتها السياسية. وكان هذا هو سبب تراجع حسني مبارك.

منذ إيعاز المجلس الأعلى للقوات المسلحة أيام حسني مبارك إلى التعبئة عام 2011، مال الصحافيون، والأكاديميون، وصنّاع القرار إلى النظر إلى السياسة المصرية من منظور هذا الحدث، ثمّ الاحتجاجات الضخمة التي أدّت إلى انقلاب تموز 2013. كنا على اطلاع مباشر على ما يجري في ميدان التحرير. وهناك سبب وجيه لهذا، ليس أقلّه الخوف من قيادة بلاد تبدو خائفة بشدّة من استفزاز المصريين للنزول إلى الشارع مرة أخرى. نقدّر اهتمام الرئيس السيسي بمشكلات الكهرباء لهذا الصيف، الذي يتزامن مع حلول رمضان. نستطيع تفهّم هواجس هذا الرجل: فمع معدّلات حرارة اعتيادية إبان التسعينات من القرن الماضي، ومع انقطاع التيار الكهربائي وتوقف مكيفات الهواء عن العمل، ثار غضب الفقراء والبؤساء والجياع وأصحاب البطون الخاوية من أشكال الالتزام الديني. ويترافق هذا الغضب مع حرمان هؤلاء من متابعة مسلسلاتهم المفضلة خلال رمضان عند انقطاع التيار الكهربائي. ومع ذلك، فإن السياسة في مصر غير مرتبطة فقط بـ«الشارع»، إنما أيضاً وأيضاً بمدى قدرة الرئيس السيسي على قيادة الدولة فعلياً. ومن الواضح أن الرئاسة المصرية، وكذلك وزارة الدفاع، والداخلية، والقضاء وجهاز الاستخبارات، يتفقون على أن انتفاضة الخامس والعشرين من حزيران وما أعقبها من أحداث، إلى حين استلام مرسي الحكم، كانت وخيمة وكارثية ويُستحسن عدم تكرارها. ويبدو أن التنافس المؤسساتي، والتصدّع السياسي، والجهود المبذولة للتأكد من ضمان المصالح الضيقة لكلّ جهة، هي أبعد وأهم بكثير من كلّ هذا.

تساهم هذه الصراعات في تحقيق عدم الاستقرار، وتثير عدداً من الأسئلة حول متانة هذا النظام السياسي المصري ومدى استمراريته.

وتشير كلّ الدلائل إلى أن مصر بلد يقف على حافة الهاوية، ومع ذلك، فإني لا أميل إلى الاعتقاد بأن عدم الاستقرار الحالي سوف يستهلك السيسي تماماً كما فعل بمبارك ومرسي. صحيح أن غالبية المحللين والنقاد يؤكدون أن الأوضاع في مصر ليست على ما يُرام، لكن ما من شيء يشير إلى أن البلاد تسير نحو جولة جديدة من الاضطرابات السياسية. ونحن لا نعتقد كذلك، لأننا نتحدث إلى الأشخاص غير المناسبين علماً أنه قد يكون من الممكن ، أو لأننا عاجزون ببساطة عن فهم مصر وقد نكون ، بل لأن الانتفاضات والثورات بطبيعتها لا يمكن التنبؤ بها. ومن المهم جداً أن نبقي في أذهاننا أنه قبل أحداث 25 كانون الأول، كنا جميعاً نتخيل مدى هشاشة النظام السياسي المصري. على المحللين أن يتجنبوا الوقع في الفخ عينه مرة أخرى، وأن يفكروا في الاتجاه المعاكس تماماً. ما يعني أنه، وعلى رغم وجود مصر متنازع عليها سياسياً، مصر عنيفة، وقمعية، فإن إمكانية استمرار نظام السيسي أبعد مما نتصور. والا فالمخاطرة بالقيام بالعكس قد يفاجئنا بإعادة شريط الأحداث مرة أخرى.

فيليب غوردون صحافي في مجال العلاقات الخارجية في العاصمة واشنطن منذ 2013. ومساعد خاص ومنسق في البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج. ترتكز مسؤولياته على شؤون البرنامج النووي الإيراني، مفاوضات السلام في الشرق الأوسط، والصراعات في سورية والعراق، علاقات الولايات المتحدة مع دول الخليج، والتحولات الديمقراطية في الشمال الأفريقي، والعلاقات الثنائية مع «إسرائيل» ومصر والأردن ولبنان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى