فيدرالية النفايات والخطوط الحمر

يوسف المصري

أفضل وسيلة لحلّ النفايات هي وضعها في إطار وطني عريض وسحبها من «التداول المتسم بنفس فيدرالي» والذي ارتفع صوته في الأيام الأخيرة تحت شعار كل منطقة مسؤولة عن نفاياتها.

… الإطار الوطني يعني أن تكون هناك خطة واحدة لمعالجة النفايات على مستوى كل لبنان. اما سحبها من التداول ذي النفس الفيدرالي، فيعني انهاء صفقات المحاصصة الطائفية المطروحة في الكواليس لنيل كل طائفة حصة من حصص ثروة «الزبالة» ومعالجتها.

ويتوقف مرجع سياسي عند امر مهم، وهو أن أزمة النفايات بينت خفايا ازمات مضمرة في لبنان، وذلك على نحو لم تستطع أية أزمة أخرى أن تبينه. لقد بينت أن الدولة تنزلق بسرعة لينطبق عليها مصطلح الدولة الفاشلة، وهو أمر لم تقارب معناه الجوهري حتى أزمة الشغور الرئاسي.

وأزمة النفايات بينت أن لبنان معرض تحت ضغط انفلات الأمن الإجتماعي والمعيشي من عقاله، لاهتزاز الخطوط الحمر فيه. وقطع الطريق الساحلي الجنوبي هو أبرز هذه الخطوط الحمر التي لم يتجرأ أي أصحاب مطالب سياسية على تجاوزه، ولكن أصحاب مطلب إبعاد النفايات عن مناطقهم هزوه بقوة وعلى نحو لفت أنظار مراقبين كثيرين. يضيف المرجع: الطريق الساحلي ليس فقط صلة وصل بين بيروت العاصمة والجنوب، ولكنه خط أحمر دولي لأنه الخط اللوجستي الذي يؤمّن طريق إمداد «يونيفيل» من بيروت الى الجنوب، وعليه فإن تأمينه يعتبر احد الموجبات غير المباشرة لاستمرار سلاسة تنفيذ القرار 1701. والطريق الساحلي الجنوبي هو ايضاً طريق المقاومة.

والواقع ان قطع هذا الطريق لمدة قاربت اليومين على خلفية احتجاجات النفايات، أظهر استنتاجاً مهماً، وهو أن الأمن الاجتماعي في لبنان له نفس أهمية – وأحيانا أكثر- خطر الأمن العسكري في تداعياته على الحد الأدنى من الاستقرار الموجود والمطلوب اقليمياً ودولياً وداخلياً المحافظة عليه.

… وعليه فإن أزمة النفايات يجب ان تشعل الضوء الأحمر على مساحة الأمن الاجتماعي والمعيشي والخدماتي المتردي في لبنان، ويجب ان تؤشر الى ان غضب الناس من أوضاعهم المعيشية والخدماتية بلغ عتبة الانفجار الشامل. وأن المطلوب المسارعة في امتصاص الاحتقان الاجتماعي عبر خطط اصلاحية – سياسية مركبة، ذلك انه لا اقتصاد مجرداً عن السياسة ولا سياسة مجردة عن الاقتصاد.

وخلال اليومين الماضيين، كان في بيروت دبلوماسي غربي يقضي اجازة خاصة. ونقل عنه محادثوه اعتباره أزمة النفايات في لبنان، بأنها أزمة القشة التي قصمت ظهر البعير. فالدول برأيه تتفجر أوضاعها الداخلية نتيجة أسباب غير مباشرة لكونها تتعاظم من خلال الاستخفاف بها وعدم التنبه اليها باعتبارها أزمات صغيرة.

وبرأيه فإن لبنان بعد أزمة النفايات لن يكون هو ذاته على ثلاثة مستويات: أولها ان طبقة المحسوبية التجارية تعرضت لضربة قوية، حيث شعرت بأن لبنان بلد أصبح ذا منسوب مرتفع من الخطر الاجتماعي، وان الفساد فيه استنفد كل شيء يمكن الإفادة منه، وباختصار ان المواطن لم يعد قادراً على الاحتمال. والسؤال هل ستعتبر هذه الطبقة أم أن ذاكرتها ميالة لامتصاص الأزمات وتجاوزها لمصلحة انتاج أساليب جديدة لتستمر في النهب.

المستوى الثاني يتمثل برسالة الاحتجاجات الشعبية التي اظهرت وجود انقسام معيشي في البلد بين مناطقه، هو أخطر من السياسي. وهو أمر خدم للأسف فكرة موجودة لدى دبلوماسيين غربيين يعملون في لبنان، ويعتبرون ان الفيدرالية هي طريق سريع لحل مشاكل لبنانية مزمنة اقتصادية واجتماعية وليس فقط سياسية. وقبل هذه الأزمة سمع هؤلاء الدبلوماسيون كلاماً فيه رائحة المطالَب الفيدرالية الخدماتية وذلك على خلفية مشكلة الكهرباء، والمطالبة بإرساء مساواة في دفع فواتيرها بين المناطق اللبنانية، وإلا فإن كل منطقة تنير كهربائها الخاصة بها !! . والآن تعيد أزمة النفايات انتاج هذه اللغة نفسها على ألسنة الناس.

المستوى الثالث وهو من باب توقع ان يسود الحذر والاستهابة المستجدة لدى كل الطبقة السياسية اللبنانية من خطورة تبعات فلتان الأمن الاجتماعي، إذ إن هذا النوع من الأزمات لا يؤدي فقط الى لعب دور القشة التي تقصم ظهر البعير بل تطيح بكل لغة الخطاب السياسي المعتمدة حالياً لإدارة أزمات البلد واحتوائها، وذلك لمصلحة بروز لغة سياسية في الشارع لا يوجد وسيلة لاحتوائها لا لدى الدولة ولا حتى لدى الزعماء السياسيين.

والسؤال الأخير والأهم هو هل تتوقف الطبقة السياسية اللبنانية عند العبر والمؤشرات التي تركتها رسالة أزمة النفايات إما إنها ستتعامل معها بوصفها أزمة عابرة؟ إن طبيعة النظرة التقويمية لهذه الأزمة ذات الصِّلة بالامن الاجتماعي، ستحدد ما اذا كان لبنان ذاهباً لأزمة اكبر فيما لو تم تجاهل معانيها، اما اذا حدث العكس، فيمكن القول إن الخير في ما حصل لأنه قدم انذاراً مسبقاً لخطر موجود ومستطير وكان الجميع يستخفون به.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى