السيسي في موسكو… أين مصر في لعبة المحاور؟

د. محمد بكر

ليست هذه المرة الأولى التي يزور فيها الرئيس السيسي موسكو، لكن هي الزيارة الأولى بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية، هذا الاتفاق الذي بات الحد السياسي الفاصل بين مرحلتين متباينتين تماماً، كل ما رُسم وما حيك وما تم تحضيره وتصنيعه للمنطقة سابقاً، لن يكون على الإطلاق كما هو بعد هذا الاتفاق الذي أصبح بمنزلة الحجر الأساس لتدشين صروح التوافقات، والدواء السحري «لانقشاع ظلال الحرب المشؤومة وإعادة الأمن والأمان» تماماً كما أعلن الرئيس الإيراني محمد روحاني أمام جمع لأهالي همدان، يبادر فيها الرئيس السيسي ربما للرد على جملة من الرسائل السياسية التي بعثتها موسكو خلال الفترات السابقة، سارع فيها بوتين لتقديم صورة بلاده وشكل العلاقة التي تربطها مع مصر على قاعدة «الصديق الوفي»، ولم يجد أي إحراج في إرسال السفن الروسية إلى ميناء الإسكندرية لإجراء تدريبات مشتركة مع البحرية المصرية، ولم يبخل للحظة في تقديم معروض واسع من الأسلحة الروسية لتكون في متناول الجيش المصري، تدرك مصر جيداً أبعاد وماهية التحولات الحاصلة، كما تدرك موقعها الجيوسياسي الذي تُسمر باتجاهه كل العيون، حتى عين الإرهاب، وكرة النار التي بدأت تكبر في سيناء، إرهاب لا هامش فيه للمناورات السياسية وغض الطرف كرمى لعيون جهات بعينها، كذلك أدركت مصر أيضاً صورة وطبيعة الحاصل في الحرب السورية، وتلازم مشهدها مع تطورات الحاصل في سيناء، يأتي الاتفاق النووي ليكسر أي جمود وليؤسس لضرورة التعامل مع الأطراف المعنية بمكافحة الإرهاب، التي اكتوت بناره من جهة وخبرت تعقيدات المعركة معه من جهة أخرى، من هنا نقرأ ونفهم الحراك المصري الحاصل وتصريح الخارجية المصرية في وقت سابق أنها تدعم سورية في مواجهة الإرهاب، إضافة إلى ما أعلن عن توافق مصري ـ روسي للانخراط في جبهة واسعة لمكافحة الإرهاب وبمشاركة سورية، والاتفاق أيضاً على الحل السياسي للأزمة السورية على أساس مقررات جنيف، لكن يبقى السؤال الأكثر إلحاحاً في هذا السياق، ما هي المخرجات السياسية التي تسعى مصر إلى الوصول إليها من خلال هذا الحراك، هل هي مخرجات لاستجماع الإرادات وتحشيد الجهود لمساعدة مصر في ما تتعرض له من إرهاب موجه وممنهج فقط، ولا سيما في توقيت يقرأ فيه البعض التقارب العربي ـ الروسي على أنه نتيجة فشل تحالف واشنطن في مواجهة داعش، أم تذهب تلك المخرجات بعيداً للتأسيس لتحول استراتيجي تحرف فيه أم الدنيا مسارها السياسي الذي بقيت تسلكه على مدى عقود، وذلك باتجاه المحور الروسي ومنظومته الدولية والإقليمية؟

كثيرة ٌهي المشاهد والأحداث التي تواردت ولا تزال على المسرح المصري لم تخلُ مطلقاً من محاولات أميركية مستمرة ولاسيما في ظل سلسلة من التحولات التي شهدتها الساحة المصرية خلال فترة ما سمي بالربيع العربي ، لإيغال الأيدي وتعزيز الحضور الأميركي في الداخل المصري، إذ تدرك الولايات المتحدة الدور المحوري لمصر في لعبة الأمم، وأن تجيير قرار بحجم القرار السياسي لمصر ليصب في المصلحة الأميركية في المنطقة إنما هو من الأهمية الوازنة بمكان للضغط على الخصوم في ميادين الكباش والنزاع، من هنا نفهم ما تم إعلانه في لقاء بوتين السيسي عن ضرورة بذل جهود مشتركة للتقليل من التأثير الخارجي في علاقة البلدين، اللافت خلال الفترة الماضية هو التماهي السياسي الإيجابي لمصر الجديدة «كما القديمة» مع التحركات الأميركية، وصّف فيها الرئيس السيسي غير مرة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية بالاستراتيجية في حين اعتبرها وزير الخارجية الأسبق نبيل فهمي أنها بمنزلة زواج شرعي، هذا السلوك المصري الذي انسحب أيضاً على العلاقة مع دول الخليج العربي على قاعدة التلازم الاستراتيجي بين الأمنين القوميين لمصر والخليج، تتالت فيها الزيارات السعودية خلال الفترة الماضية بشكل غير مسبوق ولتتوج بإعلان الجانبين أن كلاً من مصر والسعودية هو جناح الأمن القومي العربي في المنطقة، الأهم من ذلك وذاك العلاقة مع الكيان الصهيوني التي لا تزال مصر السيسي تعدها نتيجة لاتفاق دولي، ولا ننسى الزيارة الأخيرة لوكيل وزارة الخارجية «الإسرائيلية» دوري غولد وما أعلنه لجهة أن مصر و«إسرائيل» تتقاسمان وتتحدثان بلغة واحدة حيال التحديات المشتركة المتمثلة في داعش وإيران، وهنا بيت القصيد أي العلاقة بين مصر وإيران التي لا تزال تتشح بالبرودة وقسط من الجفاء السياسي، بل ويراد لها أميركياً أن تكون كذلك، وعلى رغم محاولات إيران تفعيل تلك العلاقة إلا أن مصر وعلى لسان السيسي ترى أن العلاقة مع الجمهورية الإسلامية تتحدد بكليتها من البوابة الخليجية، وهذا بالتحديد ما يمثّل مبعثاً على التشويش على أي دور قومي لمصر في ظل الانتصار الواضح للسياسة الخليجية وتحجيم العلاقة مع إيران.

الثابت أن مصر بموقعها الجيوسياسي الحساس، وما يحتكم له الاقتصاد المصري من ارتباطات وارتهانات لـ«العطاءات» الاقتصادية الأميركية والحاجة إلى المال الخليجي، يجعل من مصر بلداً ذات خصوصية في المنطقة لجهة التعامل مع المتغيرات الدولية، والوقت الذي يحتاجه للوصول إلى تحولات استراتيجية في سلوكه ونهجه السياسي إذا ما قرر ذلك بالفعل، من هنا يمكن القول إن الحراك المصري باتجاه المسارات والطروحات الروسية ولا سيما في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب، والتعامل مع المعروض السياسي الذي يحاول أن يقدمه الروسي لاستيلاد صيغ ومعادلات توافقية للمنطقة، إنما هو خطوة في الاتجاه الصحيح، ولو أن هذا الحراك قد يكون مرحلياً، جاء ربما نتيجة لما فرضته الوقائع الدولية من مشاهد لا يمكن إلا التعامل معها والانخراط في مساراتها.

الثابت كذلك أن المحاولات الأميركية لاختطاف الدور المصري ووضع كل العراقيل لدرء تناميه وعودة ثقله الوازن إلى الإقليم، وإثارة مخاوف العرب من عدو وهمي يتمثل في الإيراني، بهدف تعميق الفجوة بين مصر وإيران، واستمرار استهداف المؤسسة العسكرية المصرية واستنزافها بالأدوات القاعدية والمجاميع المتطرفة، هي محاولات ستستمر ولن تعرف طريقها إلى الهدوء، وعليه فإن أي حراك لتعزيز ثنائيات مصر سورية، مصر إيران، مصر- روسيا هو الحراك الوحيد الذي من الممكن أن يكون فاعلاً على مستوى التأسيس لاستيلاد جهود نوعية قادرة على سحق الإرهاب على الأراضي المصرية، ومحرضاً لمصر جديدة قومية، أمٌ للدنيا وبهيةُ العرب.

كاتب فلسطيني مقيم في سورية

mbkr83 hotmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى