عندما يرتبط الفنّ بالقضية والبلاد يتخطّى الإبداع ويلج عوالم اشتقنا إليها فايا يونان… موهبة نديّة تبلغ قمماً بجدارة الكلمة والصوت والحضور

عبير حمدان

مَن يستمع إلى فايا يونان وهي تغنّي، خصوصاً من دون موسيقى كما الحال في مقاطع تنشرها عبر صفحتها على «فايسبوك»، لا يمكنه إلّا أن يغمض عينيه ويسافر إلى عوالم اشتقنا إليها. هناك، حيث الملائكة تغنّي وترنّم، وحيث الطبيعة بمكوّناتها كافة من أنهار وأشجار وجبال وعنادل ونسائم تشدو. هناك، لا بدّ لهذا الحلم أن يطول، ليعمل على تنقية لاوعينا من الملوِّثات المتراكمة عبر الأيام، تلك الملوِّثات المتمثّلة بالأصوات الشاذّة التي لا تحترف إلا النشاز، وبالموسيقى التي لم تعد إبداعاً بقدر ما تكون إعادة المُعاد، وتكرار المكرّر، فإذ هي ضجيج لا أنغام.

فايا يونان، صاحبة الصوت الملائكيّ النديّ النقيّ، تسعى الشهرة إليها ولم تسعَ هي إلى الشهرة. يأسرنا صوتها ويسحرنا حضورها القويّ. معها، نتذوّق الفنّ بطعم آخر. ففنّها مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقضية والبلاد والحبّ الجميل، وهو بهذا الارتباط، يتخطّى الإبداع، ليلج عوالم غابت عنّا منذ زمن، ونشتاق إليها بحرارة، عوالم لا يعرفها إلّا فنّان محترف من رتبة متقدّمة مثل فايا، ومستمعٌ يدرك التمييز بين الفنّ واللافنّ.

فايا يونان، شابة سورية مقيمة في السويد مع عائلتها، ودّت في خضمّ الأزمة التي تعصف بوطنها، أن تؤازره ولو بأغنية، بنغم، بكلمة. فامتشقت طاقتها التي لا تتوفّر في أيّ كان، وسجّلت مقطع فيديو جمعها بشقيقتها الزميلة الإعلامية ريحان، وراحت فايا تغنّي، بينما كانت ريحان تعلّق بسلسلة من الجمل والعبارات. وبعد تحميل المقطع على موقع «يوتيوب»، وانتشاره في مواقع أخرى كـ«فايسبوك»، سرعان ما استقطب نسبة مشاهدة عالية جدّاً، إذ وصل عدد مشاهديه بعد فترة وجيزة، إلى أكثر من مليون مشاهد.

مساء الإثنين المقبل، تحْيي فايا يونان حفلاً كبيراً في قصر الأونيسكو في بيروت، وذلك بعد النجاح الباهر الذي حقّقته في إطلالتها الأولى عبر المسرح، وذلك في دار الأوبرا في دمشق، في حفلٍ كُتِب عنه الكثير في الصحافة والإعلام، وأثنى عليه عمالقة الفنّ السوريّ، وفي مقدّمهم القدير الكبير دريد لحّام.

«البناء» أجرت مقابلةً مع فايا، و

نبدأ من الوطن وقدسية الانتماء إلى تفاصيله، لتخبرنا فايا المجبولة بالحنين عن هذه العلاقة الأبدية فتقول: حين تركنا سورية، كنت في الـ11 من عمري وذلك عام 2003، لكن العلاقة بالوطن بقيت قوية، وكنّا نزوره في كل مناسبة وخلال العطل الصيفية. أضيف إلى ذلك التصاقنا بلغتنا العربية كجزء لا يتجزّأ من هوّيتنا. ومع بدء الأزمة في سورية، أضحت المسؤولية مضاعَفة، إذ إننا سعينا إلى معرفة كلّ ما يجري في الوطن، وكان التواصل مع الأقارب والأصدقاء حتمياً لتصبح العلاقة يومية وأكثر متانةً.

لكن، ماذا أخذت ابنة الـ11 سنة من زاد الذكريات معها إلى بلاد الاغتراب؟ تقول فايا: نحن من بلدة اسمها المالكية تقع في منطقة الجزيرة، لكنني عشت فترة قصيرة في دمشق. طفولتي الفعلية كانت في حلب، وأجزم أنها كانت طفولة سعيدة جداً، وأحمل في جوانيت ذكريات جميلة كثيرة، خصوصاً أنها كانت مرحلة ازدهار عاشتها سورية الحبيبة.

لا تنفي فايا أن هذه الطفولة السعيدة تعرّضت لما يُشبه التهشيم في مكان ما فتقول: بعد ما شهدته الشام من جرّاء ما حصل ويحصل اليوم، فإن طفولتي تعرّضت للتهشيم، بما تضمّه من ذكريات ضمن جدران بيتنا في حلب. إذ تركنا صُوَرنا وصدى الأيام الخوالي. ولكن، يبقى في البال ما هو جميل. طبعاً، أشعر اليوم بألمٍ كبيرٍ بسبب ما نراه على شاشات التلفزة، ولعلّ السعادة التي عشناها في سورية، هي التي تجعل الألم مضاعفاً.

ترفض فايا الغوص في مستنقع السياسة، وبحسب تعبيرها، هي ليست في موقع يخوّلها إطلاق التحليلات السياسية، إذ تقول: كلّنا متّهمون، وما يحصل الآن في وطني بشع جداً. علينا أن نحبّ وطننا أكثر ونسعى إلى القضاء على هذه البشاعة كلٌ ضمن إمكانياته ومن موقعه، بعيداً عن التحليلات السياسية والاتهامات المتبادلة.

أما عن قدرة الفنّ في تغيير المشهد فتقول فايا: الفن قادر على التغيير بشكل كبير وجذريّ. الفنّ هو الأمل، خصوصاً إذا أقترن برسالة محدّدة. وفي خضمّ هذه الأوضاع التي نعيشها، يمكن للفنان إيصال الفكرة بما تحتويه من رقيّ للناس. الفنّ الحقيقيّ بمختلف قطاعاته يلامس الذات الإنسانية، سواء كان في الموسيقى أو المسرح أو الغناء أو الرسم. ويمكنه أن يخدم القضايا المحقّة بشكل أفضل من المنابر الخطابية والبيانات السياسية والتسويات والمؤتمرات.

يتخبّط الفنّ بين الرقيّ والتجارة. وكيف لفنانة تحمل رسالة عنوانها الأمل القدرة على مواجهة هذا الكمّ الهائل من الانحطاط الفني؟ تجيب فايا: الفن انعكاس لصورة المجتمع. أيّ رقيّ فنيّ يكون نتاج مجتمع مشبع بالثقافة والرقيّ. وأيّ انحدار في الفنّ، يكون صورة لمجتمع مثقل بالشوائب والانحطاط. ولعل الانفتاح الالكتروني ساهم في انتشار كل ما نشهده اليوم. لكن لهذا الانفتاح إيجابياته أيضاً، إذ لا يمكنني أن أنكر أن مواقع التواصل الاجتماعي ويوتيوب، هي التي ساهمت في إيصال صوتي والرسالة التي قدّمتها مع شقيقتي للناس، وبشكل كبير بعيداً عن أيّ احتكار قد تمارسه شركة إنتاج، وربما لأن رسالتنا كانت شفّافة وبسيطة وحقيقية، ووجدت فضاءها المناسب لتدخل إلى كلّ مكان.

وتضيف في الإطار نفسه: طالما هناك إمكانية للاستفادة من هذا الفضاء الإلكتروني بشكل يخدم رؤيتي الفنية وقضيتي، فلن أتردّد في استغلاله إيجابياً. تمكّنت اليوم من حرق المراحل بشكل سريع، ويُنتظَر منّي أن أقدّم الأفضل على رغم أن الخبرة تنقصني. إلّا أنّني أسعى إلى تطوير قدراتي كي أحافظ على المستوى المطلوب.

فايا تخصّصت في مجال الاقتصاد والتجارة وعملت في هذا المجال لفترة، لكنّها أحبّت الغناء منذ صغرها، وكانت تغني في عددٍ من المناسبات، وحين انتشر الفيديو الذي صوّرته مع شقيقتها الزميلة ريحان، لمست حجم تفاعل الناس معها. ولا تُخفي سرّاً حين تقول إنها تقدمت منذ سنتين إلى أحد برامج الهواة لكنّها لم تنل القبول. اليوم، لا تشعر فايا بأيّ انزعاج من عدم القبول هذا، إذ إنّ برامج الهواة تمنح الوجود للمشاركين فيها لفترة محدودة، وبعدما تُسدَل الستارة وتُطفأ الأضواء، يغيب البريق، ولو كانت الأصوات جميلة، بحسب تعبيرها.

لكن ما الذي تريد أن قوله فايا من خلال الأغنية؟ تجيب: أريد أن أبعث الأمل في القلوب والعقول. «أحبّ يديك»، هي أغنيتي التي تتحدث عن الخير المستقرّ في الأيادي القادرة على العطاء. أنت سألتني في بداية الحوار عن تهميش الطفولة والذكريات، لكن الأيادي التي حافظت على هذه الذكريات وعلى الوطن تستحق الحبّ، وعلى رغم أنني أحبّها، إلا أنّني أحبّ بلادي أكثر. ولأنّني أحبّها أرى أنها تستحق منّا الأمل.

أما ماذا بعد الأمل المقيم بين حروف القصيدة، فتقول: ما زلت في بداية الطريق. وهناك عقبات كثيرة أمامي. وعلى رغم أنّ العروض انهالت عليّ، إلّا أنّني لم أقبل أيّاً منها لأنّها لا تشبهني. أغنيتي نفّذتها من خلال جهد تمويليّ جماعيّ، وهذا نمط سائد في الغرب. إذ إنّ أيّ أحد يحبّ هذا النوع من الفنّ، يمكنه المساهمة في التمويل. طبعاً لا يمكنني أن أستمرّ على هذا النحو، لكنّني أحببت أن تكون انطلاقتي مستقلّة. ولاحقاً، من يريد التواصل معي من المنتجين ضمن الإطار الملائم لما أقدّمه، سيجدني.

تؤكد فايا أنّ علاقتها بوسائل الإعلام جيدة، وتعتبر أن النقد الموضوعي مهمّ ويساعدها في تقديم الأفضل. وتختم بالتأكيد على ضرورة الخروج من النفق الدمويّ الذي بات يطبع مجتمعنا العربي. ومن خلال فنّها، تسعى إلى إيصال الصورة المشرقة لأبناء جيلها في المقلب الآخر من الكرة الأرضية، بعيداً عن الإطار الذي تروّج له السياسة، بما ينتج عنها من تقاتل وانقسام لا يخدم إلا مصلحة العدوّ في تشويه التاريخ وتغيير الجغرافيا.

كلمات المقطع الذي شكّل انطلاقة

فايا يونان الأولى

شآمُ، ما المجدُ؟ أنتِ المجدُ لم يَغِبِ

بغداد، بغداد.

ريحان:

وفي العراق، تحريرٌ منذ أكثر من عشر سنوات، تحريرٌ من الظلمِ والقمعِ، والاستبداد أتى باستبدادٍ وقمعٍ وظلمٍ أكبر. تحريرٌ هُجِّرَ فيه أهل البلد جميعاً، تحريرٌ قسّم المُقسَّم وجزّأ المُجزّأ، تحريرٌ تضمحِلّ فيه الحضارات، تحرير يهمِّش جميع سكان العراق بكافة اختلافاتهم الإثنية والدينية. تحريرٌ استعبد البشر ودمّر الحجر وقتل الإنسان والوطن.

فايا تغنّي :

بغداد والشعراء والصوَر

ذهب الزمان وضوعه العطر

يا ألف ليلة يا مكمّلة الأعراس

يغسل وجهك القمر

لبيروت

ريحان:

أربعون سنة. أربعون سنة يعيش فيها لبنان وشعبه جميع أنواع الحروب، حرب أهليّة، ثانية طائفية، وأخرى مذهبية، واجتياحاتٌ عدوانية، وأثمانُ تخبّطاتٍ إقليمية، وتصفياتٌ وصفقاتٌ دولية. أربعون سنة، أصبح فيها لبنان الصغير كبيراً جدّاً بجراحه، بمآسيه اليومية. أربعون سنة من وجعٍ في أغلبِ أحيانه صامد وصامت.

فايا:

لبيروت… من قلبي سلامٌ لبيروت

وقُبَلٌ للبحر والبيوت

لصخرةٍ كأنّها وجه بحارٍ قديم

يا قدس يا مدينة الصلاة… أُصلّي

ريحان:

فلسطين، بوصلة القضايا، أكبرها وأقدمها. أكثر من ستّين سنة على انتهاكاتٍ وصرخاتٍ لأجيالٍ شاهدةٍ على لامنطقية الأمس وهمجية اليوم وخوف الغد. تهجيرٌ، تنكيلٌ، اغتصابٌ، بالحقّ قبل الأرض. أكثر من ستّين سنة تلاشت فيها الجغرافيا لتُرسَم حدودٌ أُخرى. حدودٌ تخترق القلوب والعقول، حدودٌ ترفض الانصهار فتتشبّث بالتاريخ وبالمستقبل، وتصنع حاضراً مقاوِماً بشعبٍ من إرادة، لوطنٍ موجودٍ وحيٍّ وباق.

فايا:

عيوننا إليك ترحل كلّ يوم

ترحل كلّ يوم

تدور في أروقة المعابد

تعانق الكنائس القديمة

وتمسح الحزن عن المساجد

ريحان:

بلادي، بلاد الحرب والألم، بلاد الحبّ والحلم، بلادي.

فايا:

موطني، موطني

الجلال والجمال والسناء والبهاء… في رُباك

والحياة والنجاة والهناء والرجاء… في هواك

هل أراك… سالماً منعَّماً وغانماً مكرَّماً؟

سالماً منعَّماً وغانماً مكرَّماً؟

هل أراك… في علاك… تبلغ السِّماك تبلغ السِّماك؟

موطني… موطني.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى