سوراقيا… القادمة عبر مخاض الاستراتيجيات الكبرى

إعداد د. نسيب أبو ضرغم

لقد جاء إسقاط طائرة السوخوي 24 الروسية بالواسطة التركية، دليلاً إضافياً عن حجم المصالح الاستراتيجية التي تتصارع على الجغرافيا السورية. وإنه بالعودة إلى القاعدة التي تقول بأنّ حجم التحرّك العسكري يحدّده حجم المصالح القابع وراءه، فمنذ اللحظة الأولى لاندلاع شرارة الأحداث في الشام، ظهرت، وإن كانت غير واضحة تماماً، كتلة المصالح العائدة لما يزيد عن اثنتين وثمانين دولة وفي مقدّمتهم التحالف الصهيو أميركي.

كان الإعلام العائد للتحالف الصهيو أميركي يتبع طريقة شخصنة الأهداف، للتعمية على حقيقة ما كان قد بُدئ بالتحضير له ضدّ الدولة والمجتمع السوريين منذ العام 2000، بُعيد انتصار المقاومة بفرضها الانسحاب من جنوب لبنان من دون قيد أو شرط، وبعد رفض الرئيس بشار الأسد في القمّة التي جمعته آنذاك مع الرئيس الفرنسي ساركوزي، وأمير دولة قطر حمد، العام 2001.

كان هذا الإعلام يركّز على أنّ المشكلة هي في ديكتاتورية النظام، تماماً كما جرى تنفيذه ضدّ الرئيس صدام حسين والعقيد معمّر القذافي، وأنه بإزاحة الرئيس بشار الأسد يمكن إيجاد حل سياسي في سورية.

هذه الشخصية كانت القناع أو الخديعة التي استعملها التهالف الصهيو أميركي العربي التركي، لتمرير مشاريع ذات أبعاد يهودية تتمثّل بتقسيم سورية إلى إمارات إثنيّة وطائفية، وبالتالي نهب ثروات الشعب السوري، واستباحة الأرض السورية أمام مشاريع نقل الغاز القطري إلى أوروبا.

مئات الفضائيات جُنّدت ولا زالت، من أجل أن تضخّ الأكذوبة الكبرى بأنّ هدف التحالف الصهيو أميركي إقامة دولة ديموقراطية في سورية، وبأنّ الرئيس بشار الأسد هو الشيطان الرجيم الذي يُعيق قيام هذه الدولة.

الأكذوبة التي يكرّرونها كالأسطوانة المشروخة من أجل تكريس هذه المقولة في الوعي الجمعي، من أنّ ترك الرئيس الأسد لسدّة الحكم يُنهي الحرب في سورية.

الذي أعدّ للحرب على سورية، كان متأكّداً من أنّ الدولة السورية لن تصمد أكثر من ستة أشهر، وعلى الأكثر سنة، فالعدّة المحضّرة منذ العام 2001، كانت من التنظيم والتسليح والإدارة والدعم ما لا يمكن تصوّر هزيمتها أمام الدولة السورية، وبالتالي فقد بُنيت الحسابات كلها على هذه الفرضية.

صمدت الدولة السورية بكل مفاصلها العسكرية والدبلوماسية والأمنية والسياسية رغم ما أُلحق بها من ضربات موجعة، راهن أصحابها على أنّ الدولة السورية لن تستطيع أن تقف على قدميها بعدها.

صمدت الدولة السورية، وأربكت حسابات الكثيرين، وأحرجتهم، وهم غير قادرين على الاستدارة أو التراجع، فأصبحوا حلفاء مُرغَمين في معركة باتوا يدركون خسارتها. أرادوا أن تكون اللعبة بدون معوّقات، واعتقدوا أنّ إرهابهم المقنّع بداعش قضاءً وقدراً، من دون أن يحترموا الجغرافيا وما يمكن أن تكونه في القرارات الاستراتيجية.

قليلة هي الفترات الزمنية التي يجري فيها الفعل ليُصيب في المدى التاريخي الواعد بالتغيير، وعادةً ما يتمّ ذلك في مسارات غير محسوبة.

عرضوا على سورية أن تخضع لهم ولوكلائهم العرب والأتراك، فأبت، وأعدّوا لها عدّة الدمار الشامل، دمار الإنسان والأرض والدولة والذاكرة والحاضر والمستقبل.

عدّة الفناء الحضاري الشامل منذ خمسة عشر عاماً.

سورية الولّادة، سورية المبدعة، سورية الفينيق، عبرت بحارهم الإرهابية وجذّفت بمجذاف حقيقتها الخالدة أمواج نارهم، فقد أرادوا لها أن تغترب عن الوجود، فإذا بهم يضعونها في معادلة البقاء والزمن المفتوح.

أين وصلت الاستراتيجيات المتقاتلة في سورية؟

لقد شعر وأدرك سيد روسيا المؤتمَن على مصالحها وبقائها، أنه قد خُدع من قِبل التحالف الصهيو أميركي، سواء في العراق أم في ليبيا، إضافةً إلى الإجراءات الوقحة التي قام بها الناتو، إن في جورجيا أم في دول البلطيق، وأخيراً في أوكرانيا، والتي تؤكّد مسار الاستراتيجية الصهيو أميركية الهادفة إلى ترويض روسيا مقدّمة لتأبيد النظام الدولي الأحادي القطبية.

ثمّة ست جهات تحترب على الجغرافيا السورية:

أولاً: محور المقاومة.

ثانياً: روسيا الاتحادية.

ثالثاً: السعودية ودول الخليج. عبر المنظمات الإرهابية

رابعاً: تركيا. عبر المنظمات الإرهابية

خامساً: أوروبا. عبر إرسال الإرهابيين وتسهيل مرورهم إلى سورية

سادساً: التحالف الصهيو أميركي. أيضاً عبر المنظمات الإرهابية

لقد حشدوا كل قواهم على عتبة البيت الروسي، بعد أن زرعوا الألغام في ركيزة هذا البيت الجنوبية الغربية أوكرانيا ، وهيّؤوا الجغرافية والدولة التركية، لتكون المفصل الأساس في خلق الخطر الماحق جنوباً وشمالاً، على الجغرافية السورية وعلى الحضور الروسي في البحر الأسود والقوقاز.

لم تولد الدولة التركية الحديثة إلّا على دماء شعبنا وسَبْيِ أرضنا، إضافة إلى دور أساسي لها، وهو خدمة المشاريع الصهيو أميريكة.

إنّ ما كشفته حادثة الطائرة الروسية هو أبعد من حادث عسكري تعمّدت القيادة التركية فعله لحسابات تركية خاصة. ذلك أنّ تركيا ليست غير قاعدة عسكرية واسعة مهمّتها أطلسية في الدرجة الأولى، وعندما نقول أطلسية، نعني أنها ذات أبعاد تتعدّى حدود الجغرافية التركية.

وحتى نوضّح هذه الفكرة أكثر، لا بدّ من أن نورد بعض ما صدر عن الغرب و»إسرائيل» في الشأن التركي:

يقول الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت 1933 1945 : «إنّ الدفاع عن تركيا هو في الوقت ذاته دفاع عن الولايات المتحدة الأميركية».

د. جرجس حسن «تركيا في الاستراتيجية الأميركية بعد سقوط الشاه» – ص 33

ويقول الرئيس آيزنهاور: «ما من بقعة في الأرض أكثر أهمية من الشرق الأوسط، إذ إنّ أهمية تركيا تنبع من كونها جغرافياً موقعاً استراتيجياً يحقّق للسياسة الأميركية هدفها المزدوج:

أ- مواجهة الاتحاد السوفييتي.

ب- إقامة حصن أمام انتشاره وكذلك قيام قاعدة ارتكازية قوية للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط، أعني كنوز العالم».

جهاد صالح «الطورانية .. التركية بين الأصولية والفاشية» – بيروت 1987 ص 177

ويقول الكونغرس الأميركي: «بسبب موقعها الجغرافي الاستراتيجي تركيا مع وجود مضيقيّ البوسفور والدردنيل فيها، حيث يتمّ الإشراف على العبور من البحر الأسود وإليه، تشغل تركيا موقعاً فريداً في تقييد حركة المرور على السفن الحربية المعادية في طريقها إلى المتوسط، أثناء الحرب، وبفضل موقعها الجغرافي الهام، فإنّها تسيطر على معظم الطرق الحيوية والبريّة المباشرة بين الاتحاد السوفييتي والشرق الأوسط وأفريقيا، وأخيراً هناك التسهيلات المختلفة التي تصنعها تركيا في خدمة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من أجل دعم المهمّات الأطلسية».

تركيا: «صعوبات وآفاق» دراسات استراتيجية رقم 12 مؤسسة الأبحاث العربية بيروت ص 22

لقد ترجمت الولايات المتحدة ومعها الحلف الأطلسي نظرتهما إلى تركيا ودورها بأن أقامت على الأرض التركية أكثر من مئة قاعدة عسكرية، تشكّل قواعد انطلاق للقفز نحو التحكّم بالمنطقة، حيث يتواجد في هذه القواعد ما يتجاوز الـ 9000 خبير وعسكري، في وقت يعتبر بعض الاستراتيجيين الأميركيين والغربيين أنّ أمن تركيا لا يتجزّأ من أمنهم نديم التبكين تركيا بوابة استراتيجية للإمبريالية العالمية برس طبعة أولى 1987 ص 25 .

ومن أهم هذه القواعد:

انجرليك بالقرب من أضنة.

سينوب على شاطئ البحر الأسود. تُدار من قبل موظفين من وكالة الأمن القومي الأميركي

ديار بكر أيضاً تُدار من قبل وكالة الأمن القومي الأميركي.

بيرينسليك.

جولباش.

الإسكندرونة.

يومورتاليك التي يُخزّن فيها 20 من وقود وإمدادات الأسطول السادس الأميركي.

أزمير فيها القيادة الإقليمية لحلف شمال الأطلسي وقيادة القوات الجوية التكتيكية السادسة للخلفاء .

بلباسي.

نوبار هوفسبيان وفيروز أحمد وآخرون «تركيا بين الصفوة البيروقراطية والحكم العسكري» ص 296

إنّ الهدف من كل ذلك هو «إحاطة الشرق الأوسط بسياج يحمي المصالح الأميركية في الموانئ والقواعد والجزر البحرية» نيويورك تايمز 14/04/1950

د. صالح زهر الدين مخاطر الدور التركي في المنطقة العربية ص 14

وإنّ الخطير في الأمر أنّ الولايات المتحدة الأميركية قد قيّدت تركيا بمعاهدات ذات طابع استرقاقي موقَّّعة بين واشنطن وأنقرة بتاريخ 05/03/1959، جاء فيها: «يحق للولايات المتحدة بـ»الحق الكامل» في أن تسيطر وتغزو الأراضي التركية إذا قام الشعب التركي بوضع حكومة في السلطة السياسية لا تُناسب مصالح الولايات المتحدة الأميركية، أو تخرق المعاهدات والاتفاقيات الموقَّّعة بين الطرفين في الأعوام التالية لهذا الاتفاق».

نديم التبكين المرجع السابق ص 38 و 127

لقد شهد التاريخ التركي الحديث أحداثاً تُثبت تمسّك الولايات المتحدة بهذه الاتفاقية، فعندما حاول جلال بايار رئيس الجمهورية التركية، وعدنان مندريس رئيس الحكومة الخروج على إرادة الولايات المتحدة، أوعزت أميركا إلى وكيلها الدائم في تركيا الجيش فأطاح بالحكم المدني بتاريخ 12/09/1980، حيث أعلن الانقلابيون فوراً، أنّهم يحافظون على الاتفاقية المعقودة مع الولايات المتحدة الأميركية.

لعلّ هذا العرض يكون إطاراً لوضع حدث إسقاط الطائرة الروسية في سياقه الاستراتيجي، الأمر الذي يقع أيضاً في سياقٍ أشمل، هو الحرب الكونية على سوريا.

تركيا المرتبطة بالولايات المتحدة بهذه الروابط، هل يمكن لها أن تُقدم من تلقاء نفسها على إسقاط طائرة روسية، هل تسمح لتركيا أن تتصرّف بشكل يهزّ مصالح الولايات المتحدة؟ بالتأكيد لا. حيث أنّ الولايات المتحدة هي من يُملي على تركيا مواقفها بحيث لا تشكّل هذه المواقف إرباكاً للحرية الأميركية في المنطقة.

إنّ حدث إسقاط الطائرة، لا ينفصل عن مسلسل المواقف السياسية والعملية التي راكمتها الولايات المتحدة في ما يتعلّق بقيادة الحرب الكونية على سوريا. فهو يصبّ في خانة الدفاع المستميت من قِبل الولايات المتحدة عن أحادية النظام الدولي التي تتربّع على عرشه منذ ما يزيد على الربع قرن.

ليس إسقاط الطائرة يقع في خانة الدفاع عن السيادة التركية، ذلك أنّ الطائرة لم تخترق الأجواء التركية، وكان يكفي توجيه إنذار لها بدل إسقاطها، الذي تمّ بقرار سياسي على ما يبدو، بدليل ما صرّح به أردوغان من أنّه لم يكن يعلم بأنّ الطائرة روسية.

من خلال عرضنا للجهات الستّ المتصارعة على الأرض السورية، تظهر تركيا كأكثر الجهات عُرضةًً لأحداث دراماتيكية غير محسوبة من قِبل قيادتها. أما لماذا تركيا؟ فلأنها جعلت من نفسها قناة تتدفق منها أخطار الغرب بقيادة الولايات المتحدة على روسيا، بل جعلت من نفسها بإسقاط الطائرة هدفاً مباشراً لموسكو التي تعتبر نفسها في حرب حياة أو موت مع الإرهابيين الذين تحتضنهم تركيا، وتقدّم لهم كل أسباب الدعم.

لقد انصاعت تركيا لإرادة الولايات المتحدة الأميركية وأسقطت الطائرة الروسية بقرار سياسي من أردوغان شخصياً، وبالتالي فقد أوجدت نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما، وكلا الخيارين يشكّل هزيمة عميقة للمشروع التركي في سورية.

أمّا الخياران فهما:

أولاً: أن تصمت تركيا ولا تُحرّك ساكناً إزاء تدفّق المقاتلات الروسية لتدكّ مواقع الدواعش والقوى المساندة لهم، من تركمان وغيرهم، وبالتالي فهي أمام انتصار سريع ومدوٍّ للدولة السورية التي ستظلّل مدافع دباباتها السياج الحدودي مع تركيا، مع ما يعنيه ذلك من سقوط الأحلام الطورانية الأردوغانية وخروج سورية منتصرة لنفسها وبنفسها وللعالم العربي وللإنسانية. هذا بالإضافة إلى ما يعني تحرير شمال سورية من تداعيات دراماتيكية على الإرهابيين في بقيّة الجغرافية السورية.

ثانياً: معاودة تصدّي الطائرات التركية بالإيعاز الأميركي للطيران الروسي، وهنا سوف تنقلب اللعبة، وتتبدّل الأدوار، وتتوسّع دائرة الحرب، حيث ستُسقط الطائراتُ الروسية الطائراتِ التركية وستضرب في أماكن عديدة دفاعاً عن عَتَبَة البيت الروسي بكل شراسة الدبّ الجريح.

والسؤال الذي يطرح نفسه إزاء هذين الخيارين: أيّهما سيكون محقّقاً؟ والجواب هو ما يقرّره الأميركي، فإذا كان الأميركي قد قرّر فتح نار الحرب العالمية الثالثة ضدّ القوى الصاعدة، وذلك عبر الأدوات والحروب المتفرّقة، فيعني أنّ الأتراك سيصمدون إلى مواجهة الروس حتى داخل الأرض السورية، أمّا إذا كان إسقاط الطائرة قد حدث كحالة اعتراضية أميركية بقناع تركي، تستهدف منها الولايات المتحدة ما هو دون الحرب الشاملة في المنطقة، فإنّ التركي لن يحرّك ساكناً في مواجهة الطيران الروسي.

نميل للاعتقاد بأنّ التركي سوف يُكمل استفزازاته بالوكالة عن أميركا و»إسرائيل»، ذلك أنّ النصر السوري هو هزيمة كاملة للقوى المحتشدة ضدّ دمشق، وبالتالي ليس عند محور التحالف الصهيو أميركي ما يخسره. سوف تُدافع الولايات المتحدة بكل الأساليب عن المعادلات التي ركّبتها في الشرق الأوسط، وتمنع تداعيات انهيار الدومينو من شمالي أفريقيا حتى المشرق العربي. ولتحقيق ذلك، سوف تحتشد كل القوى الموالية لأميركا، من أوروبية وغير أوروبية، وتحت شعار محاربة داعش، لتنقضّ على الانتصارات التي حقّقها التحالف الروسي الإيراني السوري اللبناني. فـ»شارل ديغول» لم تأتِ إلى المتوسط إلّا لتكون سنَداً للقوى المعادية للدولة السورية، وكذلك الإنكليز وسواهم.

كيف لا تُقْدِم الولايات المتحدة على مثل هذه الحرب المدمّرة، في الوقت الذي تكون فيه هي الآمرة وصاحبة القرار الأعلى، من دون أن تخسر جندياً واحداً أو دولاراً واحداً، وهذا ما يعطيها القدرة على الاستمرار في هذه الحرب المدمّرة، حتى يُقضى على كل مكمن قوة لمصلحة «إسرائيل» تمكيناً لها من الاستمرار في نهب خيرات المنطقة، والهيمنة عليها.

هكذا تنظر الولايات المتحدة إلى الحرب على سورية، فهي بنظرها جزء من لوحة أشمل ليست أوكرانيا إلا لوناً من ألوانها العديدة.

سوف تتواجه القوى الستّ بشكلٍ طاحن، حيث سيكون الأداء الروسي الأكثر فعالية في تغيير الموازين، وربما الخرائط. لأنّ ما فرضه التحالف الصهيو أميركي على محور المقاومة وروسيا، لا يمكن مواجهته إلا بالاندفاع الشامل غير المتوقف والمتراجع، وهذا ما ينبئ عنه شكوك فلاديمير بوتين السياسي والعسكري.

هناك إيران وسورية المقاومة وروسيا، ومن خلفهم جميعاً قوى دولية وازنة في مواجهة التحالف الصهيو أميركي الغربي العربي التركي، حيث يتقرّر مصير السلام العالمي برمّته.

ثمّة مصالح استراتيجية بقيمة الحياة، لدى الروسي والسوري والإيراني في مواجهة مصالح استراتيجية بقيمة بقاء الهيمنة الدولية، وعلى قدر حجم المصالح تكون أحجام الحروب والمواجهات، والتضحيات.

هل يمكن أن تنكفئ روسيا من سورية قبل أن تقضي على الإرهاب، وإن فعلت، فهل سيبقى هناك ما يسمّى بروسيا الاتحادية؟

هل دخل فلاديمير بوتين بطيرانه إلى سورية ليترك التركي يذلّه ويذلّ سلاحه؟

ألم يأخذ بوتين في حسابه إمكانية أن يواجَه في سورية؟

وهل يمكن للأميركي و»الإسرائيلي، السماح بهذه البساطة للروسي وحلفائه بطرد أدواتهم الإرهابية من سورية وإعادتها دولة علمانية موحّدة ديمقراطية؟

هل يحتمل التحالف الصهيو – أميركي هذا الانتصار؟

هل أنّ «إسرائيل» ستقف عند احترام مصالح حلفائها، إذا ما قرّروا إجراء التسوية الدولية مع الروس؟ أم أنّها ستعمد إلى توريط الجميع في حرب ترى أنّها ستكون نتيجتها لمصلحتها؟

هل أنّ المئة قاعدة عسكرية أميركية في تركيا ستبقى هادئة في وقت سيتهاوى الطيران التركي والمواقع العسكرية التركية تحت ضربات الطيران الروسي؟

ماذا يعني كل ذلك، غير حرب عالمية ثالثة بالواسطة، سيخوضها الروسي مباشرةً دفاعاً عن نفسه وشراسة المُدافع عن حياته وبيته، كما سيخوضها السوري بذات الشيء، ومحور المقاومة أيضاً.

أمّا الأميركي، فسيُبقي بنفسه بعيداً عن نارها، وأصابعه هي ما سيُشعل هذه النار، بحطب حلفائه.

الخليجي يسوقه حقده ويسبقه ماله، وهو في كل الحالات خاسر، وأمّا الأوروبي فمغلوب على أمره، مصالحه عندنا وقراره عن أعدائنا.

وأمّا تركيا، فإنّها قد تسرّعت طرق باب الزمن، الزمن الذي هتف له شهداؤنا، زمن عودة الحق إلى أصحابه. وسيُفتح الباب، على عودة الشّبل إلى العرين، وعلى توكيد وحدة الفرات من الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي ماءً وأرضاً وبشراً وسياسة وجيشاً، ودولة.

إنها الحرب التي ستنتهي عند حدّين:

إمّا أن تنطوي تركيا على سكوتها، وشمال سوريا يتحرّر، وعند ذاك يكون انتصار الدولة السورية، وإما ستدخل تركيا بإيعاز أميركي حرباً شاملة ستنتهي على غير ما كانت عليه، حيث هناك لواء سليب سيعود عودة الشبل إلى العرين، وأرمن سيكون لهم موعد مع الحق بعد أن يعتذر منهم التاريخ.

الذي لا يعلم بعد، أنّ البحر الأبيض المتوسط هو أوكسجين الجسم الروسي، وأنّ بحر مرمرة بمضيقيه هو القصبة الهوائية لهذا الجسم، وأنّ البحر الأسود هو رئته، وأنّ في دمشق مفاتيح البيت الروسي، وأنّ الجغرافيا الممتدة من سواحل المتوسط الشرقية وحتى الخليج هي جغرافيا الأمان والحياة للعملاق الروسي، من لم يفهم كل هذا، سوف لا يعرف معنى الأبعاد الاستراتيجية لدعوة الرئيس بوتين حول توحيد الجيشين السوري والعراقي، الدعوة التي لم تأتِ من زاوية الأمنيات بقدر ما هي من صلب الرؤية الاستراتيجية الروسية في سياق المواجهة الكونية مع الإمبريالية الغربية بزعامة التحالف الصهيو أميركي.

من لم يدرك ذلك، لا يمكنه أن يعرف ما يمكن أن يفعله فلاديمير بوتين، ولا يمكن له معرفة أبعاد الاندفاعة العسكرية الروسية.

تركيا التي أبرزنا دورها في بداية البحث، على لسان رؤساء جمهورية في الولايات المتحدة، وعبر مذكّرات صادرة عن الكونغرس الأميركي، تركيا هذه، لا زالت ثابتة في لعب دورها، ولا يمكن أن تكون في غير هذا الدور. من هذه الزاوية ندرك أنّ إسقاط الطائرة الروسية قد جاء في سياق الدور التاريخي المُسند إلى الدولة الطورانية التركية، فليس إسقاط الطائرة كان أول ترجمة لهذا الدور ولن يكون الأخير. تركيا خنجر مغروس في خاصرتنا اليمنى الشمالية، بيد أميركية قابضة على مقبضه.

المواجهة بدأت، والحرب آخذة بالتمدّد، والاستراتيجيات المتصاعدة لا حدود فاصلة بين فتائلها المشتعلة، وفي النتيجة ثمّة خرائط جديدة، ودول جديدة، ومستقبل جديد، وعالم أكثر استقراراً.

بقي.. نحن.. متى ستخرج بغداد ودمشق من الثنائية القاتلة: سورية والعراق، متى ستسقط من بينهما تلك الواو الكافرة، ذلك أنّه على سقوطها أو بقائها يتوقف مصيرنا القومي برمّته حياةً أم موتاً، حريةً أم ذلّاً وتبعية.

متى تسقط هذه الواو الكافرة، التي دعا إلى إسقاطها القيصر بوتين. متى ستسقط والعالم من حولنا يعيش مخاض ولادة نظام جديد له، مخاض يجري على أرضنا ويُرسم بدمنا، مخاض ينبغي أن يلد لنا وحدة هي جواز مرورنا إلى البقاء الكريم.

لا تدَعوا هذه الواو بين سورية والعراق، وكذلك كل شقيقاتها سواء مع لبنان أم الأردن أم فلسطين أم الكويت تفعل فعلها، فتُقيم في ما بيننا كأفعى لا تعرف إلا اللدغ. عبر هذه الواو، جرى ويجري وسيجري، لا سمح الله، نهر الموت اليهودي.

وسط هذه النار المقدّسة، لا يمكننا إلا أن نكون السبّاقين في شقّ طريق سورية الواحدة الموحدة.

فإلى الغد العابر من أنهار النار والدم، إلى سوراقيا الموحدة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى