تأسيس الاستقلال

هاني الحلبي

قيمة الكائن الحي أنه يتلمّس ذاته ووجوده، فيشكّل له طيفاً من المعاني العميقة التي تسم حياته وتضفي عليها قيمة لا تكون لها من دونها.

الكائن الحي، أيّ كائن، مفطور على آلية دفاع عن نطاقه ضدّ خطر يستشعره من حالة طبيعية أو كائن آخر دفاعاً عن بقائه، بل عن وجوده الحيوي، كذلك الأمر في مرتبة الإنسان.

الإنسان المواطن تتوفر له حقوق، في حالته المواطنية، لا تتوفر لغيره في مرتبة بشرية أقلّ. المواطن إمكانية فاعلة ومنتجة ومقرّر. الإنسان غير المواطن هو مجرد كائن في حالة بقاء وعيش. والعيش هو حالة مشتركة لكلّ كائن حي. أن تعيش يعني أن تستمرّ فقط تقوم بمتطلبات هذا البقاء من تنفس وشرب وأكل. أن تحيا يعني أن تكون مقرراً مستقلاً واعياً هادفاً مستنيراً مقتدراً بحقوقك وبفعل واجباتك!

في السادس عشر من تشرين الثاني العام 1932 أسس أنطون سعاده الحزب السوري القومي الاجتماعي فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها ومصيرها، فكرة هوية الأمة وماهيتها، وحركة تحقيق نهضتها التي ترفض قبر التاريخ مكاناً لها تحت الشمس.

وحيث تملك الأمة السورية عقلاً إنسانياً ممتازاً، يلزم أنها قادرة على أن تحدد هويتها هي وتدرك وجودها بذاته وتحقق مصالحها باستقلال تامّ وتحمي شخصيتها القانونية الاجتماعية النفسية السياسية بتكاملها في وطن منيع بوحدتها القومية الاجتماعية وامتدادها الطبيعي الجغرافي الاستراتيجي.

ارتكاز الفكر السياسي على مبدأ العقل القومي، الذي تحقق عبر التاريخ بعطاءات نادرة لأمتنا، لم تحفل بها أمة أخرى، يفعّل الثقة الكاملة بقدرته على تعيين معناه ومواهبه وفعاليته من دون أن يستمدّ هذا المعنى ولا هذه المواهب ولا هذه الفعالية من أي هيئة سياسية خارجة عنه أو من منظمة دولية او من جامعة مسكونية دينية أو من أي ماهية قومية أخرى.

لا يلزم الفكر بعد تحقق النهضة في أمتنا أن يجول ولا أن يصول في موسوعات القوانين الدولية التي جرّبتها أمم أخرى ولا أن يقرأ تجاربها الدستورية ولا السياسية ولا الاستراتيجية ليدوّن دستورنا ويحدّد خططنا ولا أن يقتبس دساتير دول أو جمهوريات ولّى عليها الزمن وأقلعت عنها شعوبها ليبقينا في دولة مخلّعة عن ركب التطور الحقوقي والتقدّم الإنساني.

كان واضحاً جداً تعيين مبدأ الإرادة القومية عند مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي منذ تدوين المبادئ الأساسية والمبادئ الإصلاحية والدستور العام 1932، بقوله نحن أصحاب الإرادة الأولى على أرضنا، وأنّ هذه الإرادة غنية جداً بذخائر تاريخنا القومي والسياسي ومواهب أمتها لاستمداد دفق النهضة منه، ولا حاجة بها لأيّ مصدر آخر…

هذه الريادة في تعيين قاعدة الاستقلال الوطني للأمة قبل قيام أيّ كيان سياسي من الكيانات الراهنة، كانت معاكسة لحركة التاريخ القومي وشكلت تراكماً يعيق انتشار النور والوهج بين حبوس الأمة بفعل كثرة الجدران «الدولتية» العازلة بينها، التي تعامدت حتى كادت أن تغلق النور والهواء والسماء في دورة التفاعل المحيي القوى الإنسانية الخلاقة في الأمة.

ومع تعدّد ماهية كلّ كيان، ومصدرية بنيته الحقوقية والتشريعية، بين النمط الفرنكوفوني وبين النمط الانكلوسكسوني، وكلاهما تمّ فرضهما فرضاً في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور في كلّ كيان من كياناتنا، ما أوجد تفاوتاً حقوقياً وتشريعياً بين أنظمة الحقوق في كلّ كيان على حدة عن غيره من الكيانات.

تغافلت بقصد الحكومات المتلاحقة، في كلّ كيان من كياناتنا، عن الفروق الفادحة في تشريعاتنا، فضلاً عن تجاهلها أولية المصدرية التاريخية لتاريخ الأمة وغناه التشريعي والفكري والفلسفي والفقهي، المتنامي والشديد الغنى منذ أكثر خمسة آلاف عام من الدفق والتسجيل، مثلاً أمكن لبيروت وحمص أن تقدّما أهم ثلاثة فلاسفة حقوقيين إبان الإمبرطورية الرومانية، أولبيانوس وباولوس ودورتاوس، وتصيغ أول قانون للشعوب شكل نواة القانون الإنساني الذي تمّ إقراره مطالع هذا القرن كقانون أساس ومصدر تشريع يعلو فوق أي قانون وطني.

فقدان الثقة بقيمة أمتنا وبغنى تاريخها يجعل بعض المختصين من حملة الشهادات من جامعات محلية أو خارجية لم يتقنوا مفاتيح ما تخصّصوا فيه بعدم دراسة تاريخ علومهم ليعرفوا ماذا أسّست سورية للعالم، فكانت وطناً بحق لكلّ إنسان نبيل. فقدان الثقة هذا أهمّ أسباب التشتت الذاتي واستلاب الاستقلال القومي.

النهضة القومية حدّدت أنه لا يمكن لأيّ نهضة أن تبني وتشيد دولة قومية ونظاماً جديراً بالحياة إن لم تستمدّ روحها من تاريخها السياسي والثقافي والقومي ومواهب أمتها.

بهذا الروح رأى أنطون سعاده أنّ أية حرية إن لم نصنعها نحن ونصنعها لنا، ولم نتمرّس بها في بلادنا وتصبح نظام حياتنا، فهي عار علينا لأنها كالوجه المستعار يبقى لبوساً موقتاً وقناعاً غير أصلي أينه من جلد الوجه الطبيعي، بقوله المحكم «إن لم تكونوا أحراراً من أمة حرة فحريات الأمم عار عليكم».

في ذكرى الاستقلال اللبناني يجدر باللبنانيين أن يثبتوا في بداية عهد جديد للحكم اللبناني أنهم استعبروا من تجارب تاريخهم المليء بالشقاق، والتنازع الفئوي، وتقديم المصالح الخصوصية على المصالح العمومية والوطنية، فتردّى لبنان حتى تحكّم به فراغ رئاسي أكثر من سنتين ونصف السنة وتهافت حكومي مستطيل بلا إنتاج يستحق الاعتبار، وتردّت الأخلاق الوطنية حتى كادت تختفي، لولا ما تجسّده أطياف المقاومة من قيم ومآثر في صعد عدة، آخرها الترفع عن التسابق على التوزير تيسيراً للتشكيل، إذا صدقت نيات بعض القوى وصحّت عزائم التوافق بلا تمديد وتجديد، فلا يكون استهداف المقاومين هو ديدن بعض مكوّناتها ليتمتعوا بفضائل «ستينهم» بعد طول لغو بضرورة تحديث قانون الانتخاب.

.. يجدر بالعاقلين أن يتعقّلوا، فاستحقاق التاريخ لا يحتمل التغفّل تكراراً!

باحث وناشر موقع حرمون haramoon.org/ar

وموقع السوقalssouk.net

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى