انتفاضة الحجارة في ذكراها التاسعة والعشرين 1

رامز مصطفى

الشعب الفلسطيني كسائر الشعوب التواقة للحرية والاعتناق من نير محتليها، يُدرك بحسّه الوطني العالي أنّ مسؤولياته تُحتم عليه في كلّ مرحلة من مراحل نضاله وكفاحه أن يتحرك في مواجهة ومقاومة سياسات وانتهاكات الاحتلال الصهيوني، وهذا ما ترجمه في الميدان خلال كل الثورات والانتفاضات التي خاضها مؤكداً حقه التاريخي على أرضه فلسطين، كاشفاً الوجه القبيح للكيان «الإسرائيلي» الغاصب. وهذه هي حال الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت في الثامن من كانون الأول عام 1987، والتي استمرت حتى مطلع العام 1992.

مقدمة

الذكرى التاسعة والعشرون لانتفاضة الحجارة حلت في الثامن من كانون الأول عام 1987، واستدعت منا تلك الانتفاضة التوقف أمامها، لأنها شكلت بنتائجها إحدى أبرز المحطات التي خاض من خلالها الشعب الفلسطيني أشرس معاركه النضالية والكفاحية. وإنْ كانت الأطول بين كلّ الانتفاضات الفلسطينية، ولكن لأنّ على نتائجها ترتب الكثير وعلى مختلف الصعد من تحوّلات، كانت «أوسلو» عام 1993 كأخطر تلك التحوّلات التي لا زالت ترخي بثقلها على القضية الفلسطينية وتتهدّدها في عناوينها الوطنية. وبالتالي فإنّ خارطة التوازنات في الساحة الفلسطينية قد طرأ عليها أيضاً تحوّل إستراتيجي بعد دخول حركتي حماس والجهاد الإسلامي كفصائل ذات بعد إسلامي على المشهد السياسي الفلسطيني، الذي بقي ولعقود مقتصراً على بعده الوطني منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في العام 1965.

أسباب اندلاع الانتفاضة

بعد أن غادرت منظمة التحرير الفلسطينية بمختلف فصائلها لبنان في العام 1982، نتيجة الحرب العدوانية التي شنّها الكيان «الإسرائيلي»، وتشتّت تلك الفصائل وتوزعها على الكثير من الدول العربية القريبة والبعيدة، اعتقد «الإسرائيليون» أنهم وبتوجيههم ضربة عسكرية مؤلمة وموجعة، وتشتت جلّ قوات الثورة الفلسطينية إلى المنافي البعيدة عن فلسطين، اعتقد هذا الكيان أنّ القائمة لم تعد تقوم لتلك الفصائل، وبأنه لم يعد لهم حول أو قوة. متناسياً هذا العدو أنّ لتلك الثورة وفصائلها امتدادات عميقة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديداً في الضفة الغربية بما فيها القدس، وقطاع غزة. حيث ازدادت وتيرة قمعه وسياساته الإجرامية بحق شعبنا هناك، من اعتقالات واغتيالات ومصادرة الأراضي وهدم المنازل، فقد بلغت نسبة الأراضي المصادرة في الضفة والقطاع 53 بذريعة أنها أراضي إما تابعة للدولة أو أراضي الغائبين، ناهينا عن فرض الضرائب، والتضييق على الطلبة الدارسين في الخارج، والعمل بشتى الطرق على طمس الهوية الوطنية وتهميش الشخصية الفلسطينية، وتشديده الحصار على العمل السياسي، وضرب الاقتصاد الفلسطيني وإلحاقه باقتصاده، وفرض إدارات مدنية مرتبطة به مباشرة إلى جانب الحكام العسكريين. ما زاد من الأعباء على كاهل الفلسطينيين، مع تزايد أعداد العاطلين عن العمل، لترتفع نسبة البطالة بشكل غير مسبوق، وفي تعبير عن الحال الفلسطينية، كتب وزير الخارجية السابق أبا إيبان عام 1986، أيّ قبل سنة من الانتفاضة «إنّ الفلسطينيين يعيشون محرومين من حق التصويت أو من حق اختيار من يمثلهم. ليس لديهم أيّ سلطة على الحكومة التي تتحكم في أوضاعهم المعيشية. إنهم يتعرّضون لضغوط وعقوبات ما كان لهم أن يتعرّضوا لها لو كانوا يهودا، إنّ هذه الحالة لن تستمرّ دون أن يؤدّي ذلك إلى انفجار».

وقابل تلك السياسات الصهيونية التعسفية على الجانب الآخر تراجع الاهتمام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية، لتشكل مقرّرات قمة فاس الثانية أواخر العام 1982، وقمة عمّان عام 1987، وتراجع دور الاتحاد السوفياتي آنذاك على الساحة الدولية أمام الدور الأميركي وحلفائه الأوروبيين، مما أثر مباشرة على المؤسسات الدولية ودورها ولا سيما الأمم المتحدة مجلس الأمن والجمعية العامة ، مما أعطى الكيان الصهيوني مساحة أمان وحماية إضافية في منع مساءلته القانونية والأخلاقية عن جرائمة التي يرتكبها بحق الفلسطينيين وقضيتهم الوطنية.

لتأتي مجموعة من الحوادث التي شهدتها الأراضي الفلسطينية عوامل تكاملت مع ما سبق. وهذه الحوادث جاءت إما على شكل تحركات ومظاهرات جماهيرية عام 1987 وحده 454 حالة تصادم ومواجهات مع الاحتلال. أو على شكل اشتباكات وعمليات مسلحة ازدادت وتيرتها بشكل ملحوظ عام 1987 وحده 834 عملية عسكرية و عام 1985 وحده استشهد 35 وجرح 233 ، وشكلت عملية الطائرات الشراعية التي نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة في 25 تشرين الثاني عام 1987 إضافة نوعية وحافزاً لدى جموع الشعب الفلسطيني في اتخاذه القرار بالتحرك من أجل مواجهة الاحتلال الغاصب وإجراءاته وسياساته القمعية والتعسفية، اعتماداً على نفسه وقدراته، وهو ينتظر الشرارة التي تؤدّي لتفجر تلك المواجهة، فجاءت مجزرة دهس مجموعة من العمال الفلسطينيين من مخيم جباليا في 8 كانون الأول 1987، عند مدخل قطاع غزة قرب حاجز بيت حانون من قبل شاحنة عسكرية صهيونية مما أدّى إلى استشهاد أربعة منهم وجرح تسعة آخرين، فكانت تلك الحادثة المروّعة الشرارة التي أطلقت العنان للانتفاضة الفلسطينية المباشرة ضدّ الاحتلال. لتندلع أعمال الانتفاضة على وقع تشييع شهداء المجزرة في مخيم جباليا، حيث بدأت الصدامات والمواجهات مع قوات الاحتلال وأجهزته الأمنية. تلك المواجهات سرعان ما انتقلت نار هشيمها لتعمّ أراضي الضفة الغربية وباقي المناطق، ليبدأ مشوار الانتفاضة الطويل، مؤرّخاً فيها الشعب الفلسطيني لانتفاضته الباسلة اعتباراً من يوم الثامن من كانون الأول لعام 1987.

أهداف الانتفاضة

ومع تطور الانتفاضة وتنوّع أساليب عملها، وتنظيم صفوفها عبر انخراط كلّ مكونات الشعب الفلسطيني السياسي والجماهيري والنخبوي، شُكلت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، التي أخذت على عاتقها وضع برامج التحركات بمختلف العناوين، والإعلان عن أهداف الانتفاضة القريبة والبعيدة.

الأهداف القريبة المرحلية

وتمحورت عند مجموعة من المطالب وهي:

ـ إخلاء سبيل الأسرى والمعتقلين من السجون والمعتقلات الإسرائيلية.

ـ وقف الاعتقال الإداري وسياسة القبضة الحديدية، وإلغاء العمل بقوانين الطوارئ التي تُشرع عمليات الإبعاد والترحيل للنشطاء الفلسطينيين.

ـ السماح بلمّ شمل العائلات الفلسطينية من الداخل والخارج.

ـ وقف فرض الضرائب الباهظة على المواطنين والتجار الفلسطينيين.

ـ وقف حلّ هيئات الحكم المحلي المنتخبة من مجالس بلدية وقروية ولجان مخيمات في الأرض الفلسطينية المحتلة، وإتاحة المجال أمام تنظيم انتخابات محلية ديمقراطية للمؤسسات في البلاد.

ـ سحب جيش الاحتلال من المدن والمخيمات والقرى وحظر أعمال الاستفزاز التي يقوم بها.

ـ تحريم انتهاك وتدنيس المقدسات الدينية وإخلاء الإرهابي شارون من البلدة القديمة بالقدس.

ـ إطلاق سراح كافة معتقلي الانتفاضة فوراً، وإغلاق معتقلات الفارعة والظاهرية، وأنصار 2 و 3.

ـ وقف مداهمة وإغلاق المؤسسات التعليمية والنقابية، والامتناع عن التدخل بشؤونها.

الأهداف البعيدة الاستراتيجية

رغم توافق القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة على مرحلة هذه الأهداف وبشكل متدرّج، إلا أنها أبقت على حالة التجاذب والخلاف بين الفصائل الفلسطينية الوطنية والإسلامية. وجاءت تلك الأهداف على النحو التالي:

ـ إقامة دولة فلسطينية مستقلة في أرض فلسطين وعاصمتها القدس الشريف على حدود العام 1967، وتمكين شعب فلسطين من تقرير مصيره والحصول على الحرية والاستقلال. فجاءت هذه الانتفاضة لمطالبة الاحتلال الصهيوني بالانسحاب من فلسطين.

ـ تفكيك المستعمرات اليهودية في أرض فلسطين المحتلة عام 1967.

ـ تمكين اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم في ديارهم الأصلية دون قيد أو شرط.

ـ تقوية الاقتصاد الفلسطيني تمهيدا للانسلاخ عن الاقتصاد الإسرائيلي القوي الذي يبتلع الاقتصاد الفلسطيني بكافة أجنحته الزراعية والصناعية والتجارية والسياحية والخدمية.

وهذا ما جاء في البيان رقم 2 الصادر عن القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة في 10 كانون الثاني عام 1988 عن أهداف وشعارات الانتفاضة: «إن القيادة الموحدة إذ تؤكد على مواصلة النضال وبكافة أشكاله لرفع رايات منظمة التحرير الفلسطينية حتى تحقيق أهداف شعبنا السامية في العودة وتقرير المصير وبناء دولتنا الفلسطينية المستقلة بقيادة المنظمة لتدعو كافة جماهير شعبنا البواسل إلى النضال من أجل إنجاز شعارات الانتفاضة الأساسية والمباشرة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى