متعة القراءة ولذّة المفاجأة وفرح الحبّ في حكايات محمد أبو علي القصيرة… «ضوع الياسمين»

د. مهى جرجور

وتصير القراءة متعة في «ضوع الياسمين»، قراءة نهمة تطالب بالمزيد من رقيق الشعر والحكايات والخواطر والحواريـات التي ابتدعهـا خيـال مبدع غنيّ في الصور، يُتقن التغلغل إلى الأعماق، فيحوّل العاديّ إلى غير عاديّ، ويجعل عناصر الطبيعة في تناغم تامّ تحاكي الإنسان وتمجّد الحبّ، وتجعلـه عنوان الاعتـراف بالآخـر، وسنّـة كـلّ تعامـل معـه.

وينطلق المبدع محمد أبو علي في ياسمينته الثانية / حكاياته القصيرة من بدايات مؤرّقة، فيها ضلال وشيخوخة وعجز، فيها تعب من هرم ومن وجد، أو شراسة، أو نكران، أو أقنعة وسدود، أو فعل ندامة، أو سقم، أو ضياع في قاع … وفي متونها رغبة في حوار، في ريّ ظمأ، في تلاقٍ، ورغبة في صوغ حياة جديدة في قالب جديد، رغبة في خلق كون دلاليّ مختلف، يتشكّل من تناغم شديد بين قوّة الإنسان / الشاعر، والقوّة المغيّرة/ الحبّ، فتتأسّس بذلك متعة القراءة، وتمتدّ مع ملاحقة القارئ لمجموعة من الصوَر المستمدّة من عوالم الطبيعة ورمزيتها، والسّرد والحوار، وغيرها من عناصر لغوية وبصرية تطوّعها شعرية محمد أبو علي المبدع لتقديم خطوات الخروج من عوالم المرض والعجز والجفاف الذي يغرق فيه الإنسان العربي المعاصر، الممثل بالياسمينة، إلى عوالم النور والفرح والشباب، وكل ما يمكن أن تحمله كلمة «الضوع» من معانٍ، ترتقي بالنّفس الإنسانية، وتجعلها تتفلّت من ثقل المادة، من عقدها، من عفنها، من عبوديتها، لتنساب بحرّية في الفضاء محمّلة بقدرة عجائبية، تحوّل الواقع الماديّ إلى واقع نورانيّ خصب، بلا حدود أو روادع.

وتستمرّ متعة القراءة في قراءة لغة لا تشبه اللغة القاموسية، تكتسب دلالاتها من سياق بعيد من السياقات التقليدية، خالقة سياقها الخاصّ المعنون بالاتحاد والتكامل والصلاة في حضرة الإلهيّ، ونبذ التعجرف بهدف صوغ علاقة نوعية بين الذات والآخر، سواء أكان فرداً أم جماعة، وبين الذات وخالقها. وبذلك يُسقط المبدع أسباب الاغتراب وفقدان التواصل والشعور بالنفي على عتبة التواصل المحكوم بالحبّ، مكثّفاً بذلك التجربة الإنسانية في إطارٍ مكانيّ حاضنٍ، يتمثّل بالطبيعة المحاكية للإنسان وحالاته الشعورية. تالياً، تشكّل حكايات «ضوع الياسمين» مرتعاً لتنويع صوريّ رمزيّ مميّز يتلاحق في ذهن المتلقّي، ويفرض نفسه وبصماته في وجدانه، فينجح بشكل مستمرّ، ومع كلّ قراءة في تعميق فهم المتلقّي حاجاته الأساسية ككائنٍ متميّز عن الكائنات الأخرى، متّحد معها في آن، وينقله من حال نفسيّة إلى أخرى بحركة سردية رشيقة، فتتكوّن لذّة المفاجأة في المتلقّي. وتبهره القفزات السردية السريعة الملتقطة التحوّل من الهرم إلى الشباب، ومن العقم إلى الخصوبة، ومن الخوف إلى السكينة، ومن الرفض إلى القبول، ومن الشكّ إلى اليقين، ومن العتب إلى الرضى، من الكراهية إلى الحبّ، بفعل عنصر مبدّل مغيّر يتجسّد في الامتثال لشريعة الحبّ وما يفترضه من رجاء. فتتحوّل حكايات محمد أبو علي إلى لحظات جمالية تتبلور في صيغة من أكثر الصيغ المغروزة في الوعي الجمعي، والأكثر فعالية منتجة، والأكثر تأثيراً ، يشدّها خيط رفيع، يتمركز في نهايات حكاياته التي يختارها فاصلة بين زمنين، مغيّرة، مزهرة، تجعل الاحتفاء بلقاء الآخر لعبة بلاغية متقنة الحبك، تفلح في شدّ القارئ إلى دائرتها السحرية. وهنا، تؤدّي صوَره السردية المستمدّة من الحقلين المعجميين لعالمين متعارضين: الطين والنور، رهاناً بلاغياً يختزل المسافات بين الانسان، ويكثفها في بوتقة ربانية المصدر، في رؤية مشتركة تنتهجها قصصه تتقاطع خلفياتها مع عقيدة المبدع الداعية إلى الارتقاء الدائم والتحرّر من براثن الطين، سائراً على خطى الصوفيين.

وبهذا، تعبّر حكايات «ضوع الياسمين» عن أنا المبدع محمد أبو علي الحلمية التي يسعى إلى أن يجعلها «أنا كونية» بامتياز. فتصير كتاباته لذّة تترسّخ في وجدان المتلقّي، وتفاعلاً حيّاً بهدف التخطّي المستمرّ نحو الأسمى… وتصير حكاياته حكايات كلّ بشريّ على مرّ العصور.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى