أنطوان بطرس قيمة فكرية تغيب عن عالم التوثيق والبحث

عبير حمدان

يكفي أن نحترف الكتابة كي نحزن حين يغيب أحد رواد مهنة المتاعب، ولو تقدّم بهؤلاء الرواد العمر إلا أننا نطمع ببقائهم لننهل من معين نتاجهم ونتعلم من خبرتهم الطويلة أصول التعاطي مع الورقة والقلم وكيفية البحث والتوثيق.

حين قام الصحافي أنطوان بطرس غير المنتمي إلى الحزب القومي بتوثيق سيرة أنطون سعاده من التأسيس إلى الشهادة كتب في مقدمته للمجلّدين «لم تكن حياة انطون سعاده سيرة مغامر طموح غدر به حظه العاثر او مصلح قومي أسقطته حساباته الخاطئة بل كانت حياته تجسيداً لمشروع كبير وسعياً واعياً لتحقيق هدفين رئيسيين.. الأول هو بعث الدولة السورية التاريخيّة على أنقاض موزاييك الدويلات المقتطعة… والثاني هو تحقيق نهضة قومية اجتماعية حديثة.»

وقال أيضاً: «لا نزعم أنّ هذا الكتاب يرسم صورة شاملة ووافية لهذا السعي السعادي، بل هو محاولة لوضع مرجع أوّلي متكامل لتطلعات سعاده وأهدافه وفكره وجهاده.»

التقيته في آذار 2011 على هامش توقيع المجلدين ويومها أخبرني أنها ليست تجربته الأولى في مجال توثيق البحث، إذ قدّم سابقاً مؤلفاً متميّزاً حول محاكمة سعاده، وحين سألته عن أوجه الاختلاف بين كتابه السابق والجديد، أجاب: «في كتابي الأول تكلمت عن الشهر الأخير من حياة الزعيم، بينما أتحدّث في هذا الكتاب عن حياته بأكملها منذ تأسيسه الحزب حتى استشهاده، فضلاً عن دراسة حول أفكاره الفلسفية والفكرية والاجتماعية ومختلف القضايا التي عالجها، لذا هو كتاب جامع على الصعيدين الحياتي والفكري ومادة توثيقية حياتية لأجيال لم تولد بعد، ويمكن اعتباره مرجعاً مؤسساً للأيام القادمة ولدراسات فكرية وفلسفية إضافية».

وأكد خلال حوارنا السريع أهمية الوثيقة التي تنجح في اجتذاب جيل كامل بعيد عن الانتماء الحزبي بدليل التظاهرات التي شهدها لبنان والتي نادت بالعلمانية وضمّت شباباً من الأطياف اللبنانية كافة. الفكر العلماني أصبح أملاً بعدما كثُر التخبّط في بحر واسع من المفاهيم حيث تلتمس الأجيال المقبلة نوراً لتلقي فيه مرساتها. القضية واحدة وكذلك الهموم، سواء كان القارئ قومياً أم لم يكن.

يومها ختم بطرس حديثه معي بالقول: «من النادر أن يمنحنا التاريخ شخصاً مثل الزعيم أنطون سعاده. بعيداً عن كوني كاتباً وباحثاً، أرى بعين الإنسان الذي وجد الاستثناء في عقلية هذا الرجل وقد تمرّ مئات إن لم نقل ألوف السنين ليأتي شخص مثله. بقي وفياً لمبادئه حتى الرمق الأخير. لا أنكر إنجازات إيديولوجيات مختلفة، لكني أرى أن العلمانية تمنح روحاً مختلفة لأيّ حركة تحرّرية وفكرية، لذا أتمنى أن نتمكن في لبنان من تغيير المشهد من خلال توحيد مناهج التعليم في الإطار المدني والعمل على بنية تربوية بريئة من المذهبية التي تأسر الإنسان في شكل فئوية تنسحب على المجتمع بأكمله، ومن الصعب عليّ تناول شخصية أخرى بعد سعاده، حالياً على الأقلّ، مهما بلغ حجم إنجازاتها».

لم يحتج الباحث والصحافي إلى بطاقة انتماء كي يدرك أهمية الفكر الذي يحمله مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي ولعلّه أدرك عظمة التاريخ المتجذّر في العقل السوري القومي منذ القِدم.

برحيل الصحافي والباحث أنطوان بطرس تخسر المكتبة العربية قيمة فكرية وإنسانية قد ننتظر وقتاً طويلاً لنجد مَن يعوّض غيابها ولكن تبقى أبحاثه ومؤلفاته ذخراً للعقل والروح.

وقد نعى نقيبا الصحافة والمحررين عوني الكعكي والياس عون، الكاتب والصحافي أنطوان بطرس الذي انتقل إلى رحمته تعالى .

وقال النقيب عون: «بفقدك خسرنا صحافياً لامعاً واكب التطور الإعلامي والصحافي وكاتباً وباحثاً عالج مواضيع أغنت الصحافة اللبنانية والعربية. سنفتقدك كما ستفتقدك الدار، دار الصياد، التي عملت فيها بإخلاص وتفانٍ لعقود من الزمن ونلت ثقة القيّمين عليها أبناء عميدنا الصحافي الخالد في قلوبنا، المعلم سعيد فريحة.

فكان الوطن وحريته هاجسك.. وكانت الأمة وهمومها في عقلك وقلبك وأعمالك وكتاباتك الغنية بالمعاني الوطنية والقومية، رحمك الله، ولن ننساك والتاريخ سيذكرك أنك كنت أول من كتب مقالاً عن الكومبيوتر عام 1964 وأول من عمل في الصحافة اللبنانية المعاصرة وكنت من الرواد الأوائل الذين عمّموا ثورة المعلومات باللغة العربية. عزيزي أنطوان أمثالك نادرون. نَمْ قرير العين».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى