هل يشيب شعر الغراب الأميركي؟

د. وفيق إبراهيم

ازدياد الاستفزازات بين قطع بحريّة أميركيّة وأخرى إيرانيّة في بحار «الشرق الأوسط» يعكس محاولات للسيطرة على معابرها الدولية للمزيد من الهيمنة والنفوذ السياسيّين ومصادرة التجارة العالمية.

هناك إذن مناوشات حادّة لم تصل حتى الآن إلى حدود الاشتباك بين البحريّتَين الإيرانيّة والأميركيّة، ومداها يبدأ من شطّ العرب في العراق مروراً بمضيق هرمز الفاصل بين إيران والإمارات وصولاً إلى المحيط الهندي من جهة، وباب المندب في البحر الأحمر من جهةٍ ثانية، إلى أعالي قناة السويس المطلّة على البحر المتوسّط.

تربط هذه المعابر بين الدول الأغنى نفطياً والأكثر استهلاكاً، وتستوعب نحو خمس وعشرين في المئة من التجارة العالمية في اتّجاهَي باب المندب، قناة السويس وهرمز والمحيط الهندي. كما تحتوي على الدول ذات الاحتياطات النفطيّة والغازيّة الأعلى السعودية قطر العراق الكويت دولة الإمارات وإيران . إلّا أنّ حصر الصراع بالأسباب الاقتصادية وجيه، لكنّه غير كافٍ. هناك أسباب سياسيّة عميقة تتعلّق بالدور الإيراني الإقليمي المستجدّ، وهو دور اضطُرّت إليه إيران للدفاع عن نفسها من مخطّط أميركي لا يزال يستهدفها منذ نجاح ثورتها الإسلامية في 1979، بدءاً من حروب صدّام حسين الأميركيّة السعودية عليها، إلى الهجوم الأميركي في ولاية جيمي كارتر.. إلى المقاطعة والحصار والتهديدات «الإسرائيليّة» والسعوديّة، مع محاولات بناء تحالف إسلامي عريض يعاديها ويضمّ بلداناً من آسيا الوسطى وشبه القارّة الهندية وإندونيسيا وجوقة بلدان الخليج والأردن، من دون نسيان الوجود الدائم للأساطيل الأميركية في المنطقة، مع قواعد لها من البحرين وقطر وبلدان أخرى.

هذا ما يبرّر خروج البحريّة الإيرانيّة للدفاع عن ثورتها، فما الذي يفسّر هذا الاستفزاز الأميركي البحري قرب حدود إيران البحريّة، وأحياناً داخلها؟

تعتبر واشنطن نفسها المرجعيّة الأساسيّة الوحيدة في العالم منذ 1990، وتتصرّف سياسياً وعسكرياً على هذا النحو الوقح، فهي تجتاح الدول في أفغانستان والعراق وأميركا الجنوبية، وتعطي الحق لنفسها بتغيير الأنظمة، وتبني مشاريع تدمير لمناطق كبيرة تحت مسمّيات نشر الديمقراطية وتصدير الحضارة ومكافحة الإرهاب وما يسمّى «الربيع العربي».

وتمكّنت واشنطن من تأسيس نحو ألف نقطة في العالم من قواعد عسكريّة ومراكز ثقافيّة وحركة أساطيل يسمّيها خبراء السياسة بنقاط الجيوبوليتيك الأميركي التي تدعم استمرار الإمبراطورية الاقتصاديّة الأميركيّة على سطح المعمورة، وربما في الفضاء الخارجي!

لكنّ العصب الأساسي التاريخي لهذه الإمبراطورية كان دائماً الأساطيل البحريّة التي شكّلت قواعد متحرّكة تبنّت ما أسمته بريطانيا العظمى في زمان عزّها بـ«دبلوماسية الأساطيل»، والمقصود منها أنّ الأسطول المرابط قبالة أيّ بلد هو صديق وعدوّ في آن صديق للحليف، وعدوّ لمن يرفض وجوده.

والطريف أنّ البريطانيّين نقلوا إلى الأميركيّين نصّ معاهدة عقدوها في النصف الأخير من القرن التاسع عشر مع حاكم عمّان، جاء في متنها أنّ المعاهدة تشترط في بندها الأوّل حماية الأسطول الإنكليزي لعمّان تحت رعاية «الملكة دام ظلّها». أمّا مدّة المعاهدة فإلى أن «يشيب شعر الغراب».. وإذا رفض الوالي التوقيع، فإنّ مدفعيّة الأسطول تعالج الأمر بإطلاق مدافعها في الهواء الطلق، بالتزامن مع همس من السفير في أذن الأمير بأنّ هذه المدافع هي تحيّة له إذا وقّع المعاهدة، والأكثر طرافة عندما يعلم الحاكم المسكين أنّ شعر الغراب لا يشيب أبداً.

يتبيّن إذن، أنّ السيطرة الأميركيّة على البحار والمعابر الدوليّة هي جزء استراتيجي من مشروع الهيمنة الأميركيّة على العالم بأسره، ما يتطلّب من واشنطن إقصاء أيّ بلد يشكّل تهديداً لنفوذها في أيّ موقع بحري… وتشكّل إيران معوّقاً لامتدادها في بحر الخليج، حيث قواعدها ومصالحها، والصين التي تزحف لنشر ثقافتها الصناعية في الخليج وروسيا التي تحاول العودة إلى فضائها السوفياتي بشكلٍ تدريجي انطلاقاً من سورية، الصديقة التاريخيّة.

ولحصر الصراع… يتطلّب تفكيكه وإعادة تركيبه، لأنّ مجمل الخلافات الإيرانية الخليجية إنّما هي بفعل أميركي، فالكلّ يعلم أنّ دولة الإمارات تأسّست في سبعينات القرن الماضي بأيدٍ بريطانية، وكانت الإمبراطورية الفارسيّة تسيطر على بحر الخليج منذ آلاف السنين، وقبل وصول الأساطيل الإنكليزية التي احتلّت كامل المنطقة ببرّها وبحرها في القرن 19، وأسّست الدول بشكلٍ تركت فيها «عن قصد» خلافات حدوديّة، وإحداها الخلاف على الجزر الثلاث بين طهران والإمارات، والخلافات الحدوديّة بين بلدان الخليج نفسها… الهادئة حالياً بسبب الوجود القويّ للوفر النفطي. أمّا في المراحل اللاحقة، فإنّها قابلة للانفجار من دون نسيان الخلاف اليمني السعودي على مناطق عسير، والخلاف العراقي الكويتي على الكويت والمداخل البحريّة بين البلدين.

ومع تطوّر الدور الإيراني سياسيّاً، بالتوازي مع التقدّم العسكري ونجاح طهران في التصدّي للحصار الغربي عليها، عزّزت واشنطن دور أساطيلها البحريّة بدءاً من شطّ العرب، حيث تمخر مياهه القطع البحريّة الأميركيّة، وتوجّه التحيّات إلى أصدقائها في الساحل السعودي، وتتحرّش في مضيق هرمز قبالة الإمارات بالبحريّة الإيرانيّة المرابطة في بعض الجزر التابعة لها.

ومن مظاهر الصراع الأميركي الإيراني، ما يجري في اليمن من اجتياح سعودي إماراتي يتسربل بغطاء غربي «إسرائيلي»، ويشارك جوّاً بالطيران الأميركي مع كميّات من الجنود والمستشارين الموجودين مباشرة في عدن، بالإضافة إلى قطع بحريّة «إسرائيليّة» تراقب باب المندب ومعها قطع بريطانيّة وفرنسيّة، من دون نسيان «جوقة» من القواعد العسكريّة الأميركيّة البريطانية الفرنسية «الإسرائيلية» والسعودية التي تنتشر على سواحل جيبوتي وأريتريا المطلّة على باب المندب والبحر الأحمر. وتتحيّن دولة الإمارات لشراء قاعدة لها في أريتريا، يتردّد أنّها اشترتها وبدأت ببنائها.

إنّها إذن حرب المعابر… والسيطرة على اليمن تعني السيطرة على باب المندب، كما أنّ السيطرة على مضيق هرمز تشكّل حصاراً أبديّاً لإيران باعتبار أنّ بحر قزوين مقفل ببلدان ليست صديقة. لكنّ مشكلة روسيا أنّها من دون بحار تركيا وقزوين تضطرّ إلى قطع ثلاثة أرباع العالم حتى تصل إلى البحر المتوسط وقناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز.

وبتركيب المعطيات، يتّضح أنّ الوجود الإيراني في سورية والعراق واليمن، يندرج في إطار صراعات جيوبوليتيكيّة حادّة بين إمبراطوريّة أميركيّة تمنع على الدول حقّ التطوّر من دون إذنها السياسي وحركتها الاقتصاديّة، وبين إيران التي أصبحت تشكّل واجهة المحور المتصدّي للأميركيّين ويضمّ روسيا والصين بحكم المصالح المشتركة.

وإيران اليوم تُمسك بخطّ بحر الخليج في رأسه عند بحر العرب في إيران والعراق، ومخرجه عند مضيق هرمز قبالة الإمارات، ولها نصيب في باب المندب من خلال أصدقائها الحوثيّين مع وجود قويّ في سورية التي ارتبطت معها بمعاهدات بحريّة وأخرى لها علاقة بالموارد الأوليّة.

في المقابل، تنتشر القواعد الأميركيّة في معظم بلدان الخليج المطلّة عليه، كما أنّ أساطيلها تنتقل في كامل المنطقة ولها نقاط قوّة على ساحلي باب المندب الأفريقي والآسيوي. أمّا قناة السويس، فإنّ الدولة المصريّة تحترم حقّ المرور لكلّ الدول في إطار التوازن الدقيق. وبالنظر إلى أهميّة المنطقة الخليجيّة «الشرق أوسطية» في الجيوبوليتيك الأميركي والإيراني، هل يمكن أن تتحوّل المناوشات البحريّة البيضاء بين البلدين إلى اشتباكات قد تصل إلى حدود حرب كاملة؟

«إسرائيل» ودول الخليج تحضّ الولايات المتحدة الأميركيّة عليها يومياً، لكن لواشنطن حساباتها المستقلّة التي ترتبط بمصالحها الاقتصادية أولاً، على أن تليها مصالح «إسرائيل» مقابل عدم اكتراث للتزخيم العربي لفكرة الحرب.

ولا يبدو حتى الآن أنّ الحسابات الأميركيّة تندفع نحو إعلان حرب قد تكون بداياتها معروفة، لكنّ تطوّراتها قد لا توفّر تدخّلاً روسيّاً حاسماً، وربما تؤسّس لأدوار صينيّة عسكريّة في المنطقة.

لذلك، فمن المتوقّع استمرار المناوشات البيضاء مع تصعيد أميركي في حرب اليمن وسورية بشكلٍ مباشر أو عبر قوى إقليمية، بما يؤكّد أنّ شعر الغراب الأميركي أصبح قابلاً للشيب بعد تشكّل قوى محليّة في «الشرق الأوسط» تتحالف مع قوى دوليّة لديها أيضاً شعر لا يشيب أبداً، وينمو في مختلف الظروف من دون منشّطات ومخصّبات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى