تركيا وكوريا واليمن لا سورية

ناصر قنديل

– توفر عادة الأزمات المفتوحة في البلدان ذات الحساسية العالية بمكانتها في الجغرافيا السياسية الفرصة لأحد خيارين، الأول هو حسم الصراع لصالح معسكر دولي بوجه معسكر آخر، وهذا تظهر مؤشراته سريعاً مع اندلاع الأزمات وتفجرها ويسهم فيه فعل عناصر المفاجأة والجهوزية وعدم تناسب التحضيرات اللازمة لمواجهة على ضفتي الصراع المحلية والخارجية والثاني هو تحوّل هذه الأزمات جرحاً مفتوحاً تختبر فيه موازين القوى وتجري على ساحته المفاوضات والمقايضات، وترتسم عبره التوازنات. وعندما يجري ذلك في لحظة حرجة دولياً تتدحرج الأزمات إلى شفا حرب كبرى ترسم معادلات دولية جديدة.

– الواضح أنّ التوازن الدولي الذي قام على اختبار دائم لقدرة أميركا على الحسم السريع، لم يكن مطروحاً فيه إقدام المعسكر المقابل على تطوير أيّ أزمة محلية والسير بها نحو التفجّر لتحويلها اختباراً معاكساً أو ساحة توازن، والأوضح ثانياً أنّ العجز الأميركي عن حسم الملفات المفتوحة في ساحات ساخنة من أفغانستان إلى العراق وليبيا وصولاً لسورية واليمن وكوريا، لم يوفر في أيّ منها فرصة الحسم، رغم تغيّر التكتيكات وتعاقب الإدارات الأميركية، وبقيت الجروح المفتوحة مفتوحة، لكن الواضح أنه في سورية وحدها، رغم كونها الأهمّ بين شقيقاتها تتوافر شروط تقول برجحان واضح للكفة لصالح المعكسر المناوئ لواشنطن على السير نحو شبه حسم في أغلب الجغرافيا السورية، وعجز المحاولات القائمة باللعب على حافة الهاوية كضربات الصواريخ الأميركية عن خلق مناخ مختلف أو تغيير وجهة التوازنات العسكرية والميدانية.

– بمنطق السياسة الدولية هذا يعني نهاية البعد الاستراتيجي وحتى الوظيفي للحرب السورية، مع الحاجة لساحات بديلة تحقق الهدف نفسه في اختبارات القوة وصناعة التفاوض مع الخصوم، أشدّ فعالية وأقلّ كلفة، وأوسع فرصاً. وهذا ما قد يجعل من اليمن ساحة مناسبة بالمفهوم الإقليمي للتجاذب مع إيران، ويمنح كوريا فرصة التحرك السريع بعد كمون طوال سنوات الحرب في سورية، كساحة تفاوض وتجاذب وتفاهمات مع الصين، لكن روسيا التي تشكل الرابح الأول في سورية، ليست معنية أن تحضر بقوة في الواجهة إلا كوسيط في الأزمتين والحربين في كلّ من اليمن وكوريا، لتظهر تركيا إلى الواجهة كساحة بديلة لساحة الحرب السورية، حيث تنبّه الغرب وفي طليعته واشنطن إلى أنّ كلّ الاستثمار الأطلسي على تركيا يتلاشى، وأنّ عدم إشباع التطلعات الإمبراطورية العثمانية لحكام أنقرة يحوّلهم لاعباً منفرداً يصعب ضبطه، وربما يصير حليفاً للجانب الروسي يفتح له باب السيطرة على البلقان والبحر الأسود وآسيا الوسطى، فتركيا المحاطة بتحالف روسي إيراني تحصل بالتراضي على أدوار واسعة في العمقين الآسيوي والبلقاني لا تحلم بها بالتصادم مع الشريكين الروسي والإيراني.

– منذ الانقلاب تفتحت في تركيا ساحة غامضة ترشحها للحلول مكان سورية، فما قدّمته الحرب في سورية من منصة كردية لا يغيّر الوضع في سورية، لكنه يصلح للتمدّد نحو الداخل التركي، وما وفّرته الحرب في سورية من ظهور الطابع الإخواني للنظام التركي لم يعد مفيداً في تغيير التوازنات السورية، لكنه يفيد في استنهاض العلمانية التركية، ويبدو الاستفتاء الأخير في تركيا لقراءة صورة توازنات هشة على فوارق ضئيلة في الأوزان المتقابلة، لم تعرفه تركيا منذ صعود حزب العدالة والتنمية كمشروع معتمد غربياً، بصورة تطرح الأسئلة عن حلف كردي علماني ظهر في الاستفتاء يشكل نصف الأتراك، يصير هو الحليف للغرب، ورمي الرئيس التركي في الحضن الروسي الإيراني، وها هي أستانة مثال، وفتح الباب في تركيا نحو المجهول، طالما تركيا على حدود روسيا وإيران وليست على حدود أميركا، ألا يعني شيئاً أن يخسر الحزب الحاكم في الاستفتاء دعم المدن الثلاث الكبرى، اسطنبول وأنقرة وأزمير؟

– سيتثاقل ويتباطأ الرئيس التركي في التموضع على خط التسويات المجدية في سورية، ويضيّع فرصته وفرصة روسيا وإيران، وسيكبر الجرح الداخلي التركي ويتفاقم ويلتهب وربما ينفجر، وتصير تركيا ساحة التجاذب قبل أن تصير اللاعب المتنازع عليه بين الكبار.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى