«نصر عرسال» يؤسّس لمشهد سياسي لبناني جديد

د. وفيق إبراهيم

ليست المرّة الأولى التي يحقق فيها حزب الله نصراً استراتيجياً.. ألم ينجح منذ 1982 وحتى 2006 بكسر العدوانية «الإسرائيلية» التاريخية على لبنان بعد قتال متواصل دام ثلاثة عقود، وسط غياب لبناني رسمي ترك «جبل عامل» فريسة للكيان الغاصب؟

السياسات الأميركية السعودية حصراً، منعت من تحويل هذه الانتصارات استقراراً داخلياً، لأنّها أرادت خنق حزب الله في عرينه اللبناني ومنعه من أداء دور إقليمي. فحرّضت أحزاباً داخلية موالية لها على إثارة التناقضات المذهبية والطائفية، ما سمح لقوى الإرهاب في الإقليم من دخول لبنان من الباب المذهبي العريض، بانية مراكز وبؤراً وخلايا برعاية القوى الداخلية السعوديّة الهوى. فكانت جرود عرسال ومدينة صيدا موقعاً متميّزاً يستطيع أداء الوظائف الأميركية الإسرائيلية السعودية المطلوبة، وملخّصها «القضاء على دور حزب الله» بنصب كمائن مذهبية له في جرود عرسال بواسطة «داعش» و«النصرة» من جهة، وعبر حركة الشيخ الأسير في صيدا بوّابة الجنوب من جهة ثانية.

لكنّ ضغط الحزب على الدولة والخلل في موازنات القوى بينه وبين أحزاب المستقبل والقوّات ومراكز متنوّعة أخرى، دفعت في اتجاه القضاء السريع على حركة «الأسير» المنزوي حالياً في السجون بعد معركة فاشلة مع الجيش اللبناني.

لقد أدّى «ربط النزاع» بين حزب الله وأحزاب الاتجاهات السعودية التركية المتسربلة بالغطاء الأميركي إلى حماية «الإرهاب» في لبنان بالغطاء المذهبي والطائفي العلني متمدّداً من الشمال والبقاع ومخيمات النازحين السوريين والفلسطينيين إلى جرود عرسال.

وكما أفشل حزب الله مشروع الأسير في صيدا، أجهض أيضاً بالتعاون مع الجيش السوري احتلال الإرهاب للقلمون السوري المجاور لأعالي عرسال، فتقلّص إرهاب «النصرة» و«داعش» إلى مساحاتٍ ضيّقة تربط بين أعالي القلمون وجرود عرسال ورأس بعلبك والقاع بوظيفة لبنانية شبه حصرية لا تتمتّع بتأثير عسكريّ كبير على سورية إلا في ما ندر.

لقد بدا واضحاً أنّ هناك قراراً أميركياً سعودياً بمنع القضاء على الإرهاب في الجرود، وذلك بوسائل عدّة: تعطيل القرارات الرسمية على مستوى الدولة المشتّتة بين قوى سياسية متناقضة، ما عطّل إمكانية تحريك الجيش اللبناني لمعالجة هذا الخلل، خصوصاً أنّ رئيس الجمهورية السابق كان معادياً لحزب الله ومرتبطاً بخصومه السعوديين والأميركيين، وحليفاً لأحزاب المستقبل والكتائب و«القوّات».

لذلك تبنّى الحزب سياسة دقيقة تتحاشى الاصطدامات المذهبيّة، مركّزاً على دوره الإقليمي ومناعته الداخلية متحيِّناً انعراجات تسمح بتحويل «ربط النزاع الداخلي» إلى حسم للإرهاب المتنامي في الداخل اللبناني بغطاء دائم من القوى اللبنانية السعودية.

ومع التحام عناصر داخلية وخارجية في زمان واحد، رأى الحزب أنّ تحرير عرسال من الاحتلال الإرهابي ضرورة لتحقيق الاستقرار في لبنان. أول هذه العناصر نجاح تحالف حزب الله والتيّار الوطني الحر والقوى الوطنيّة بتأييد العماد ميشال عون في رئاسة الجمهورية، فتبدّلت السياسة الرئاسية التي كانت دائماً معادية لحزب الله. وتتابعت الانتصارات على الإرهاب في سورية والعراق بشكل أذهل المتابعين الذين اعترفوا بسقوط الإرهاب كآليّة يستثمر الغرب فيها لتدمير المنطقة.

ضمن هذه المناخات، ووسط استمرار الضغط الأميركي السعودي لتعطيل دور الجيش اللبناني، تمكّن الحزب من شنّ هجوم ناجح اكتسح مواقع «النصرة» في الجرود بالتعاون مع الجيش اللبناني الذي اشترك في الحدود التي أمره بها الرئيس ميشال عون، المهتمّ بشكل أساسي بإزالة كلّ ما يعيق الاستقرار في لبنان. فميشال عون الرئيس لا يبالي كثيراً بالضغوط الإقليمية والدولية إذا تعارضت مع مصالح بلاده، وإذا كان التيار الوطني منكبّاً على تصحيح الأوضاع السياسية لقواعده الاجتماعية والانتخابية، فالرئيس مهتمّ بإعادة لبنان إلى الخريطة السياسية الإقليمية كبلد مستقلّ يتفاعل مع محيطه.

هناك إذن الانتصارات السوريّة والعراقية والروسيّة والإيرانية، ودور حزب الله في الإقليم وانتهاء وظائف الإرهاب في عرسال وانفجار العلاقة بين مشغّليه والمستثمرين فيه، ونجاح ميشال عون في الانتخابات الرئاسية… عوامل ساعدت الحزب على حسم سريع لمعركة عرسال.

والسؤال اليوم هو التالي: هل يؤدّي النصر في عرسال إلى «ربط نزاع جديد» على المستوى اللبناني تتمكّن فيه القوى اللبنانية السعودية الأميركية من العودة إلى التأزيم الداخلي، أم أنّ هناك فرصة لتحقيق استقرار داخلي؟

موازنات القوى العسكرية هي لصالح تأمين استقرار نسبي كبير يعيد الازدهار الاقتصادي للبلاد، مع التأكيد على حقيقة لا نقاش فيها، وهي أنّ الدور الإقليمي لحزب الله مرتبط بحركتين استمرار الإرهاب المهدّد للمنطقة بأسرها، والعدو «الإسرائيلي» الطامح أبداً إلى تدمير لبنان وحزب الله، لذلك فإنّ دور الحزب مستمر في جنوب لبنان وبعض مناطق الإقليم.

فهل توافق أحزاب المستقبل والقوّات وتحالفاتهما على هذا الأمر؟

هناك ضغوط أميركية لاستمرار هذه القوى في لعبة تحشيد مذهبية في لبنان وسورية والعراق واليمن، تتقاطع مع شحنات من عقوبات أميركية وأوروبية دائمة تستهدف روسيا وإيران وكوريا الشمالية. وبذلك تبقى الأوضاع السياسية والاقتصادية متدهورة في هذه البلدان، مع عداءات مذهبيّة تحول دون صدور قرارات سياسية وطنيّة، فما يجري في العراق اليوم بعد تحرير الموصل مشابه للبنان، وبدليل أنّ نائب رئيس الجمهورية العراقية أسامة النجيفي يعلن عن سعيه لتشكيل «حزب سني»، يطالب بإدارة المناطق السنّية في العراق. وهناك إعادة تجميع للمعارضات السورية على أسس مذهبية حادّة برعاية أميركية تركية سعودية، أما في لبنان، فتجري محاولات لتجميع قوى سنّية تتحالف مع اتّجاهات مسيحية ودرزيّة في وجه حزب الله العابر للطوائف على مستوى المشروع.

فكيف يمكن توقّع استقرار لبنان مع طرح مشاريع لوضع اليونيفيل على حدود لبنان مع سورية كما يريد حزب المستقبل السعوديّ الهوى؟

تجنح القوى السياسية في لبنان إلى تأييد المنتصرين لأنّها ضعيفة، فتسعى إلى تمثيل مذاهبها بحصص في مؤسسات الدولة. لذلك قد تتجمّع القوى المسيحية تحت رعاية التيّار الوطني الحرّ الذي يُمسك بالدولة تدريجياً متعاوناً مع حزب الله. إلى جانب تغيير جذريّ في سياسات الوزير جنبلاط، سببها النصائح الروسية وتغيّرات الإقليم، بالإضافة إلى أنّ «القوى السنّية» في المجتمع والدولة بدأت تنتقد بعض الاتجاهات في حزب المستقبل، التي تمثّل السياسات الأميركية والسعودية والبنك الدولي.

وقد تتشجّع هذه القوى على نسج علاقات وطنية متكافئة مع الأطراف اللبنانية الأخرى على قاعدة التوازن مع الإقليم بأجنحته العربية والإيرانية والتركية، مع اعتبار حزب الله سياجاً متيناً يقي البلاد شرّ الإرهاب وأهداف العدو «الإسرائيلي».

من هنا، يبدو أنّ الكلّ مطالب بالتصدّي لإعادة تجميع الإرهابيين والحركة المتوقّعة للخلايا النائمة، لأنها قد تطيح بأكثر من الاستقرار، وتضع لبنان تحت رحمة الصراعات الإقليمية والدولية وشياطين المذهبية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى