إضاءة قصيدة الهايكو وشعر الومضة… مقاربة نقديّة

أمين الذيب

أردتُ من هذه المُقاربة أن أُضيء على تجربتين متفاوتتين، كمحاولة لإظهار أوجه التقارب والتباعد في ما بين هذين النوعين الأدبيين، تصويباً لالتباس حاصل على الساحة الشعرية، واختلاط المفاهيم والنظرة التي تدمج بينهما، وكأن شعر الومضة هو امتداد لقصيدة الهايكو، ما يعني أن الشعراء الذين يكتبون بوجهة النظر هذه، إنما يقتبسون شكلاً ومضموناً فلا يُضيفون إلى تراثنا الشعري سوى التقليد الخالي من الإبداع النابع من خصائص مجتمعنا وقضايانا الفكرية والثقافية التي تعبّر عن مكنونات وجداننا القومي وشعورنا بذاتنا الوجودية وما تفيض به نفسية المجتمع من مُثُل عليا وقيم تكتنز الحقّ والخير والجمال التي تنطبع بها شخصيتنا الحضارية.

وفي لمحة تاريخية عن نشوء قصيدة الهايكو، نرى أنّه في القرن الخامس عشر، ظهر في اليابان نمط شعريّ جديد أطلقوا عليه اسم «رينغا»، وهو شعر يكتبه عدد من الشعراء شعر جماعي ، حيث يضيف المشتركون بالتناوب في ما بينهم 17 مقطعاً لفظياً، 5 7 5، أو 14 مقطعاً 7 7.

بقي «الرينغا» حتى بدايات القرن السادس عشر جنساً أدبياً رفيع المستوى، وكان الشعراء يقدّمون قصائدهم معتمدين على جمالية القرون الوسطى، إلى أن ظهرت قصيدة «هايكاي» بطابعها الهزلي تزاحم قصيدة «رينغا» وتتجاوزها، إنما بقيت في المزاج الشعبي مندمجة بِاسم «هايكاي ـ رينغا»، وذلك لمحافظتها على الشكل الذي عُرِفت به قصيدة «الرينغا» من حيث عدد المقاطع اللفظية، أمّا في المضمون فقد جنح هذا الشعر الجديد إلى إدخال الحياة اليومية للناس بتقاليدهم وعاداتهم ومُزاحهم وأمزجتهم، وهذا ما تجاهلته قصديدة «الرينغا» لاهتمامها بأبعاد الكون وتفسير ظواهره بلغة فلسفية ـ ميتافيزيكية.

من خلال هذه القراءة الموجزة لتاريخ «الهايكو»، نجد أنّ هذا النمط الشعريّ تبلور وتطوّر في عصر إيدو 1603 ـ 1867 عندما كانت اليابان تعيش حالة عزلة عن العالم الخارجي، لظروف أملتها أوضاع سياسية واختيارات ثقافية. حينئذ كانت رؤية الياباني للعالم مؤطّرة بدورة الحياة الخاصة داخل البلاد، وكان من المتعذّر على شعراء اليابان، من داخل قوقعتهم تلك، النظر إلى العالم من منظور غير ياباني. لذلك جاء الشعر تعبيراً عن حساسية اليابانيين تجاه طبيعة بلادهم المباشرة. وهكذا شكّلت الكلمة الموسمية الدالّة على الفصول مقوّماً أساسياً لقصيدة «الهايكو» الكلاسيكية.

بانتهاء «سياسة العزلة» وانهيار نظام الشوغونة الفيودالي، خاض شعراء عصر تايشو 1912 ـ 1926 تجربة جديدة مع العالم الخارجي من جرّاء انخراط بعضهم في الحرب الصينية ـ اليابانية 1894 ـ 1895 ، ثم في الحرب العالمية الثانية. تزامن هذا التحوّل الجذري، برأي بانيا، مع حاجة الشعراء اليابانيين، ما بعد ثورة ميجي 1868 إلى تحديث الشعر وتدشين بلاغة تلائم الحساسيات الجديدة.

تدرّج الشعر الياباني في مراحل عدّة، وبدأت تظهر معالم التنوّع والتجديد، خصوصاً على أيدي مجموعة من الشعراء الذين عاصروا تجارب خارجية خاصة أوروبية، حيث تأثروا وأثّروا، منهم: باشو ماتسويو 1644 1694 ، بوسون يوسا رسام وشاعر 1716 1783 ، شيكي مساوكا 1867 1902 ، كيوشي تكاهاما 1874 1959 ، إيبيرو نكتسوكا 1887 1946 ، سيكيتي هارا 1889 1951 ، هيساجو سوجيتا 1890 ـ 1946 ، وسوجو تاكونو 1893 1976 .

إن متابعة خصائص الشعر الياباني الغنيّ بإبرازه العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان وسلوكه المجتمعي وعاداته وتقاليده وشخصيته الداخلية، وأبعاده الفكرية والفلسفية ونظرته إلى الكون ضمن إيقاع القصيدة الإيقاعية المُقسّمة إلى ثلاث مقاطع غير متساوية الوزن مثل 5 7 5 في لغة قادرة أن تُعبّر عن وجدان الشعب وهمومه وتطلّعاته مشكّلة رافعة تراثية حضارية تعتمد اللغة بأبعادها الفكرية الجميلة.

وقد أفاد شعراء «الهايكو» من الحداثة التي صبغت العصر الحديث، فتحرّروا من القيود، أي الطبيعة والفصول والحواس، في محاولة جدّية لنقض الصور النمطية التي كانت الطبيعة كل مصادرها، وهكذا أحدثت القطيعة مع الروح الرومنسية مرتكزة على قوة الأبعاد الرمزية أو السريالية أو التجريدية.

أما في شعر الومضة، فنجد أنّ الشعر كأيّ شيء حيّ يتأثر بالأبعاد النفسية والفكرية والحضارية للبيئة التي تشكّل الدورة الحياتية بخصوصياتها العاطفية والوجدانية والروحية.

أحاول هنا أن أقدّم دراسة موضوعية بعيدة عن الاعتداد والمبالغة، مرتكزة على وقائع وحيثيات جليّة وواضحة أثبتتها التجارب لدى عدد من الشعراء المشرقيين، أكان في عمان أو فلسطين أو سورية، خصوصاً الذين شكّلوا مواقع ومنتديات تتسمّى بـ«الهايكو»، فقد بدا لهم بالتجربة أن اللغة العربية غير قادرة بإيقاعها على إنتاج قصيدة «الهايكو» بقدر ما يمكن اقتباسها، والاقتباس غير قادر على الإبداع والإضافة. وأنّ حيوية اللغة تنبع من حضارة شعوبها، ومن ناحية أدهى أنّ قصيدة «الهايكو» عندما انطلقت خارج مداها اللغوي واحتكت بالثقافات المغايرة وجدت أنّ التطوير حاجة شديدة الإلحاح للتعبير عن قضايا المجتمعات والإنسانية بشكل أوسع، فوجدت ووجد أتباعها من العرب والمشرقيين أن شعر الومضة الممتد تاريخياً إلى العصر السومري، يفترق افتراقاً جوهرياً بالشكل والمضمون عن «الهايكو» التي حسمت إيقاعها، بينما ما زال شعر الومضة متحرّراً من القيود ومن الشكل كونه حركة تجديدية تجاوزية تعتمد الإيجاز في اللغة المُكتنزة بالمعنى الذي يدهش المتلقّي أمام المشهد السينمائي الذي قدّمته قصيدة الومضة.

هذه دعوة مفتوحة للحوار مع الشعراء لنضيء على مفاهيم شعرية أدبية نابعة من روحية مجتمعنا وحضارتنا.

شاعر وناقد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى