لبنان يرافِع عن القدس…!

هتاف دهام

بدا لبنان في اليومين الماضيين فلسطيني الهوى من أعلى الهرم حتى أسفله، وبغالبية أطيافه السياسية والحزبية والدينية. شكّلت القدس عنوان جمعٍ ولمِّ شملٍ، بعدما كانت الملفات الفلسطينية في السابق عوامل انقسام.

اجتمع اللبنانيون على الصلاة لزهرة المدائن. استحضروا صوت فيروز وكلمات الأخوين رحباني. يا قدسُ يا قدسُ يا قدسُ يا مدينة الصلاة أصلّي. «فمن يتجرّأ على القدس يتجرّأ على المسجد الأقصى وعلى كنيسة القيامة وبالتالي على لبنان»، كما قال رئيس المجلس النيابي نبيه بري في افتتاحه جلسة استثنائية مخصصة للتضامن مع القدس، أمس، رفضاً لقرار الرئيس دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية الى القدس.

أتت هذه الجلسة بعد سلسلة مواقف لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون المستنكر للقرار الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» ونقل سفارة بلاده إليها. فهذه المواقف تركت انطباعات إيجابية محليّة وإقليمية، وربما دفعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى اعتبار مشاركة الرئيس عون في القمة الإسلامية الطارئة يوم الأربعاء المقبل للحفاظ على قدسيّة القدس، سيساهم في تعزيز قضية القدس التي تتمثل فيها الأديان السماوية كافة.

يقرأ الرئيس عون بالقرار الأميركي تهديداً لاستقرار المنطقة، فمن يرد السلام فعليه أن يجدَ حلولاً لمشاكل المنطقة، لا تقوم على القوة، بل على العدالة التي ترفع الظلم وتعطي الحقوق لأصحابها. ومَن يرِد السلام، فعليه أن يطفئ النار في مصادر اشتعالها، فالنار لا تنطفئ بنفسها طالما هناك حطب يوقد لها».

في كانون الثاني الماضي تساءل الرئيس عون أمام وفد دبلوماسي لماذا لا تأخذ المؤسسات الدولية قراراً يلزم «إسرائيل» بإعادة الأرض المتّفق عليها للفلسطينيين والاعتراف بهويتهم؟ ولماذا لا يزال «الإسرائيليون» يسلبون أرض الفلسطينيين حتى اليوم؟ ولماذا يهدمون منازلهم ويحرقون بساتينهم، ويستملكون أرضهم ليبنوا المستوطنات؟ ليخلص إلى التأكيد أنّ «إسرائيل» اليوم تستغلّ انشغال العالم بأزمات المنطقة وفشل جهود السلام، من أجل التمادي في سلب حقوق الفلسطينيين والاستمرار في التعدّي على سيادة جيرانها، وفرض أمر واقع لن يمكن العودة عنه في المستقبل.

خلال الجلسة العامة بالامس، أطلّ أمين سر تكتل التغيير والإصلاح النائب إبراهيم كنعان بخطاب «متّزن»، متبنّياً خطاب رئيس الجمهورية، ومحاكياً الموقف الرسمي، بتأكيده أنّ «مدينة السلام لا تطالب بقرارات دولية جديدة بل تريد من العالم الالتزام بما أقرّه سابقاً وتنفيذ ما تعهّد به من قبل، مفنّداً الوقائع والأحداث منذ 29 تشرين الثاني 1974 إلى اليوم مروراً بالقرارات 181، 2234، 2253، 303، 242، 194»، مشدّداً على أنّ قرار ترامب هو قرار معاكس لكلّ ما سبق ولاتجاه السلام.

الخطاب العوني الذي سار على خط الرئيس العماد، قابله خطاب قواتي لافت عبّر عنه النائب جورج عدوان الذي بدا مسكوناً بالعبارات العاطفية التي وصلت إلى حدّ «الثورية» في بعض الأحيان، وتقدّمت على مواقف كنعان. قد تكون «القدس فرصة أراد القواتيون استغلالها بعد الخيبة السياسية الأخيرة منذ أزمة الرئيس الحريري من منطلق أنّ العالم كله والإنسانية جمعاء معنيان باستحقاق القدس. لكن في الوقت نفسه تسجّل مرة جديدة للنائب القواتي الشوفي أنه يُخرج معراب من صورتها النمطية، على غرار تأكيده أمس أنّ «القرار الأميركي جاء ليُشكّل استفزازاً وإهانة لمشاعر الفلسطينيين والمسيحيين والمسلمين، وجاء ليفجّر لغماً سياسياً ودينياً وتاريخياً سيطال المنطقة برمّتها، داعياً مجلس النواب لاتخاذ موقف يُعبّر عن عدم قانونية هذا القرار بالمفهوم القانوني ورفضه وإدانته وتأكيد تعارضه مع الأمم المتحدة ومطالبة الإدارة الأميركية الرجوع الفعلي عنه ورفض لبنان له وتعميم الموقف بمحافلنا الدولية كافة، لا سيما أنّ قرار الاعتراف بسيادة دولة محتلة لا يغيّر في واقع الاحتلال ويتعارض مع القرارات الدولية، ويقتضي التعاطي معه كأنه غير موجود». بيد أنّ النائب ستريدا جعجع اعتمدت توجيه ضربة على الحافر وضربة على المسمار، عندما دعت إلى تجنّب اللجوء إلى ما أسمته العنف الذي يشكّل تبريراً أو غطاء لتمرير القرار الخطيئة وطالبت بالوقت نفسه بانتفاضة إنسانية مسيحية إسلامية عابرة للحدود والقارات وقادرة على إيقاف مفاعيل هذا القرار.

لقد حاكى الرئيس نجيب ميقاتي من جهته في الكلمة التي ألقاها الواقع كما هو، مؤكداً أنّ «القرار الأميركي يشكل فعلَ تحدٍّ كبير، لأننا غضضنا النظر عن القضية المركزية فلسطين وتلهّينا بخلافات وحروب بين بعضنا البعض استنزفت طاقاتنا وجعلتنا كيانات متناحرة، فيما الآخرون ماضون في مخططاتهم لاستكمال إنهاء القضية الفلسطينية، فالقرار الأميركي يؤشر بوضوح إلى نية إلغاء القضية الفلسطينية بشطب أبرز عناصر قوتها وديمومتها ويمثل انسحاباً واضحاً من أي دور لعملية السلام». وإذا كانت القدس بالنسبة لـ ميقاتي القلب النابض للقضية الفلسطينية وعنوانها الأول وبعدها المقدس، فإنّ القضية الفلسطينية هي صمام أمان الأمة وبوصلتها الصحيحة.

يمكن القول إنّ جلسة يوم أمس، مثّلت منصة لبنانية أخذت طابعاً وطنياً تكاملياً، اختفت فيها الأضداد الداخلية، لتتماهى في موقف واحد. لقد قدّم حزب الله في كلمة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد مشهداً متكاملاً بشقين: الشق الأول توصيفي عندما اعتبر «الإعلان الأميركي بأنه تهديدٌ وقح لعواصم العرب والمسلمين، وللمقدسات، وإهانة لئيمة لكلّ النضالات والتضحيات الفلسطينية والعربية والإسلامية، ولكل الشعوب الحرة وللدول التي تحترم المواثيق والقوانين الدولية، فضلاً عن أنه استهانة حتى بالذين وثقوا بالإدارة الأميركية وبدورها الرعائي المزعوم لتحقيق تسوية سلمية في فلسطين».

أما الشق الثاني فيتعلق بالموقف والخطوات المطلوب اتخاذها، عندما دعا رعد الجميع شعوباً وقوى وحكومات الى تبني برنامج المواجهة الذي عرض لبعض مفرداته الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، واثقاً من مفاعيله وتأثيره البالغ في مواجهة الإعلان العدواني، قائلاً «الشعب الفلسطيني ينتظر من أشقائه والأحرار، الدعمَ المتواصل على الصعد كلها وبكل الإمكانات المساندة لانتفاضته الجديدة والواعدة ولحقِّهِ المشروع في الدفاع عن وطنه وسيادته وكرامته».

في موازاة ذلك، اعتلى النائب غازي العريضي المنبر ليطالب باسم اللقاء الديمقراطي بمقاومة ميدانية على أرض فلسطين، مشيراً إلى «أنّ الأميركي استفاد من الضعف العربي واستبدال العرب العدو الإسرائيلي بعدو آخر، واستفادت إسرائيل من الحروب بين الدول العربية لتفرض مشروعها للقدس، ما سيؤدّي إلى إنهاء مشروع الدولتين في فلسطين والقضاء على السلام»، ومؤكداً «انّ هذا القرار سيعمّم الفوضى وسيؤدّي إلى مزيد من التطرف والإرهاب وسيؤدي الى حرب دينية تريدها إسرائيل، لكن لا أحد بإمكانه أن ينأى بنفسه عن هذه الحرب حتى أولئك المؤيدين لها».

وعلى خط بيت الوسط، فقد أعطى الرئيس الحريري البعد المسيحي في تيار المستقبل للتحدّث عن القدس، وأوعز للنائب عاطف مجدلاني إلقاء كلمة الكتلة التي أشارت الى أنّ «القرار الأميركي جاء نتيجة الاختلال الحاصل في الوضع العربي ما يستوجب أن نُنهي الصراعات العربية والطائفية والمذهبية، والتضامن لصناعة موقف عربي قويّ يضغط على المؤسسات الدولية والتعاون مع جميع شعوب العالم والقادة الروحيين للتصدّي له».

تقدّم لبنان أمس، على الدول العربية ودول العالم. فالمجلس النيابي اللبناني هو أول مجلس ينعقد فور الإعلان الأميركي. رافع البرلمان أمس، دفاعاً عن فلسطين. وأصدر توصية تلاها الرئيس بري تعتبر أنّ القرار الأميركي مدانٌ ومستنكرٌ ويقود إلى الحروب ويشكل غطاء للعدو «الإسرائيلي» ويعزّز التوطين وتذويب الشعب الفلسطيني. وطالب المجلس من الحكومة إبلاغ هذه التوصية للإدارة الأميركية ومجلس الأمن والأمم المتحدة وتأكيدها ضرورة اعتبارها وثيقة من وثائقها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى