هاشم قاسم في «الظاهرة الرحبانية»… تاريخ موسيقي حافل لا يُبارى

اعتدال صادق شومان

يبدو أن رغم السيل الكثير الذي قيل وكتب عن تجربة الأخوين رحباني، إلا أنّ غنى هذه الرحلة الفنية المتجليّة، ما زالت تحتمل الأكثر بما ساهمت في انعطافة مهمة في الأغنية اللبنانية وانطلاقتها الى المدى العربي، بتشكيلها الثلاثي الجميل, الرحابنة وفيروز. فالبعض يسمّونها «ظاهرة»، وآخرون يرونها «مدرسة»، فهم في الخلاصة فريق فنيّ متكامل ومن الصعب الفصل بينهم، اجتمعوا على التأليف الموسيقي والشعر والغناء، أسلوباً ونهجاً، ومقوّمات، حيث ما ينفكّ سحرهم يتردّد وليس هناك ما يشير الى فتور هذه الريادة، ولم تزل الكتابة عنها في أوجها.

من هذه الإصدارات، كتاب جديد صدر للصحافي هاشم قاسم يحمل عنوان «الظاهرة الرحبانية، مسيرة ونهضة» عن دار مكتبة بيسان مؤرّخاً السيرة الرحبانية، مفاصلها، وعناصر مكوّناتها، وقّعه الخميس الماضي في معرض بيروت الدولي للكتاب، في إهداء إلى «دعد».

الكتاب محاولة استقراء جديدة للتجربة الرحبانية، كما يقول هاشم في مقدّمة الكتاب، لمراحل تطوّر الظاهرة الرحبانية، منذ بدايات تكوّنها وفي سعيها عبر نصّ إبداعيّ متدفق من بيئة الأدب والثقافة، بدءاً من الانطلاقة الأولى في انطلياس، الى حيث «توقّفت» مع وفاة عاصي الرحباني سنة 1986.

مع وفاة عاصي تتوقف فصول الكتاب و«معالجته»، ويتوقف عن كل ما تلاه، أو سبقه، من انفراط العقد الفيروزي، مع انتهاء ثنائية الاسم، رغم أن نصفه الآخر منصور الرحباني عاد ووقّع اسمه منفرداً على أعمال مسرحية عدة، وكذلك فيروز في تعاونها مع زياد بعدد من الألبومات الغنائية.

طبعاً هناك أمور لم يتطرّق إليها الكاتب قاسم، فحال الثنائي الرحباني ليس كما بعد عاصي، وقد ولى «زمن الوصل في الأندلسي».

فبين دفّتَيْ الكتاب البالغ 384 صفحة معلومات زاخرة، أناشيد وأغانٍ، موشحات، واسكتشات وأعمال مسرحية غنائية وأفلام سينمائية وحفلات تلفزيونية ومهرجانات في لبنان وخارجه، وسيل من الذي قاله الرحابنة أنفسهم في مسارات مختلفة، من غير أن ينسى أفراد ملحق «الكبار» في الظاهرة الرحبانية شعراء وفنانين.

وشريط من شهادات أعلام الموسيقى والإعلام يحلّلون «الظاهرة» المغايرة في لغتها الجديدة في عالم الموسيقى، ونحوها إلى جذور الموسيقى الشرقية، الى جانب «النهل» من فنون الموسيقى الغربية، أو كما يحدّدها الرحابنة بالقول «إنهما قد أعادا تقديم التراث الموسيقي بمصاحبة الأوركسترا الحديثة بأسلوب عصري، وتوزيع جديد»، تزامناً مع محاولات الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي «شكّل مدماكاً كبيراً في التوزيع الآلتي الحديث الاقتباس».

ويقارب قاسم بين الحالة الرحابنة في مرحلة تتطوّرها وبنائها وتقاربها مع سيّد درويش في إعادته للنص الموسيقي «إلى الناس عبر لغة المجتمع الذي عاش فيه». وهكذا الرحابنة استلهموا مفردات وصوراً مصدرها لغة الناس في القرية، فغنّت فيروز تلك القرية بلهجة لبنانية صرفة استقامت فيها لغة رحبانية خاصة رافقتهم بجلّ أعمالهم، على الأخص المسرحية منها.

وعلى نقيض العامية تزوّد الرحابنة بلغة عربية فصيحة من أدباء وشعراء المهجر وشعراء عرب، وفي كلتا الحالتين العامية والفصحى، قدّم الرحابنة بصوت فيروز كل ما هو استثنائي ومميّز. ومن القصائد التي ألقت ذلك السحر في قلوبنا «يا عاقد الحاجبينِ» و»أرق الحسن» من نظم بشارة الخوري، كما أغنية «المحبة» و»وسكن الليل» من أعمال جبران خليل جبران.. إلى آخر اللائحة التي عرضها الكتاب تفصيلياً، من غير أن يغرقوا في «لبنانيتهم» كما يقول البعض، خاصة في قمة التحفز بمرحلة الأربعينيات حتى الستينيات من القرن المنصرم.

ليس مثل الرحابنة مَن خاطب أزهى وأعمق ما في الوجدان الوطني والتاريخي، بكل رائع وأصيل، فاحتضنت أغنية فيروز الرحبانية البعد الوطني والقومي. وبهذا البعد كانت «سائيليني يا شآم» و»شآم يا ذا السيف» و»قرأتُ مجدَكِ في قلبي». ومَن غير الرحابنة وفيروز قرع أجراس العودة إلى فلسطين فغنّوا «راجعون» وأبدعوا.

يُعَدُّ الكتاب في مجمله استعراضاً للسيرة «الرحبانية» التي حفظناها عن ظهر القلب، خاصة أنها ليست إلا من أمس قريب، لم يتقادم عليه الزمن، حتى أن جلّ مَن عايش التجربة الرحبانية عن قُرب من فنانين وإعلاميين، شعراء وأدباء ممن كتبوا عن التجربة الرحبانية، ما زالوا أحياء يُرزَقون أمثال هنري زغيب الذي روى في كتابه «طريق النحل»، الحكاية الرحابنة كلَّها كما سردها منصورالرحباني عن مسيرته وشقيقه عاصي بتفاصليها الدقيقة من زمن الشاويش في انطلياس حتى «أمس انتهينا» وكذلك فعل الناقد محمود زيباوي ذوداً عن الرحابنة. وهو أحد الأكثر اطلاعاً على المسيرة الرحبانية عن قرب، وقد كتب منذ «البدايات المجهولة للرحابنة وفيروز»، وما زال يكتب و محمد منصور، صاحب الإصدار الرائع «الخارطة الشعرية الكاملة للأغنية الرحبانية».

كل هذه الأسماء وغيرها تحضر إلى البال، ونحن نستعرض كتاب الصحافي هاشم قاسم لنجدَ فعلاً أنه استعان بمجملهم، عدا أسماء آخرين على غرار فارس يواكيم وصميم الشريف ونبيل أبو مراد وغيرهم، كمصدر موثوق لكتابه «الظاهرة الرحبانية مسيرة ونهضة»، مما يجعله كتاباً بمثابت إضافةً إلى توثيقه مهمة تغني المكتبة الموسيقية العربية، أنجزها هاشم قاسم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى