ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…

تُخصّصُ هذه الصفحة صبيحة كل يوم سبت، لتحتضنَ محطات لامعات من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة من مسار الحزب، فأضافوا عبرها إلى تراث حزبهم وتاريخه التماعات نضالية هي خطوات راسخات على طريق النصر العظيم.

وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا تفصيل واحد، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.

كتابة تاريخنا مهمة بحجم الأمة.

إعداد: لبيب ناصيف

المصرفيّ الأديب المناضل… الرفيق يوسف سلامة

كلّما اطلعت على كتاب من اصدار «دار نلسن» او تسلّمت بطاقة من الصديق الاستاذ سليمان بختي، المسؤول عن مكتب «دار نلسن» في بيروت، أستعيد في ذاكرتي ذلك الرجل الأشقر، الطويل، الحاد النظرات، المبتسم بهدوء، المتوقد ذهناً وفكراً وصفاء وذكاء، ابن اخت النائب منير ابو فاضل، قريب العملاق المصرفي يوسف بيدس، الراحل في 25/11/2000، الباقي عبر الكثير مما كتبَ ونشرَ، مُغنياً المكتبة القومية الاجتماعية، والعامة، بكتب ستظل حيّة، ومقروءة.

عن الرفيق يوسف سلامة، نقول، كما قالت الرفيقة زهرة حمود في مقدمة الحوار الذي أجرته معه، ونشرته مجلة «البناء» بتاريخ 7/6/1997:

«وقف في صف الكتابة مارداً، استراح من اعباء المسؤوليات اليومية والتفاصيل في أحضان التأليف… دخل ملكوت الكلمة، واتقن التعامل مع اللغة، فلبّـته حارة دافئة وتجاوبت مع تدفق أحاسيسه المرهفة، فجاء نتاجه جميلاً وشامخاً كقامته العالية.

«يوسف سلامة ينحت من صخر الكلام، منذ كتابه الاول «حدثني ي. س. قال» وحتى «شرفنا لنخطف انفاسك» باسلوب رشيق، وموضوعات قصص متنوعة، استلت بأكثرها من واقع عاشه في حزبه او غربته، او تقلبه في المسؤوليات الادارية في عالم المال والاقتصاد.

«كتاباته قد تشكل مرجعاً لمراحل من تاريخ لبنان خصوصاً بالنسبة إلى انهيار أضخم مؤسسة مالية هزت الاقتصاد اللبناني… نقصد «بنك انترا».

من هذا الحوار الطويل الذي امتد على الصفحات 34-37 اخترنا المقاطع التالية:

ـ كنت سورياً قومياً اجتماعياً منذ أربعينات هذا القرن، كما يظهر في بعض كتاباتك، فهل تحدثنا عن تجربتك في تلك المرحلة؟

ـ أولاً كنت سورياً قومياً اجتماعياً ولا أزال… ولكن سنوات العمر وكثرة التنقل في بلاد الغربة والانشغال بالمسؤوليات الحياتية جعل البعض يظن أني تخليت عن انتمائي، وهذا أمر مستبعد.. لقد انتميت في أوائل الأربعينات وكنت طالباً في الجامعة الأميركية، وهذا ما اتاح لي أن أتعرف إلى معظم رفقاء الرعيل الاول، كما اتاح الفرصة امامي للتعرف إلى الزعيم شخصياً وحضور ندواته الفكرية.

وخلال فترة إقامتي في فلسطين دأبت على إرسال تقارير شبه دورية للزعيم أخبره فيها عن الاوضاع التي كانت سائدة هناك، خصوصاً وأني كنت أشغل موقعاً هاماً في الهيئة العربية العليا مع الحاج أمين الحسيني، وكان الدكتور يوسف صايغ يشغل منصباً في بيت مال الهيئة، ويكتب التقارير أيضاً للزعيم، وقد كان سعاده يستند في مقالاته وخطبه حول المسألة الفلسطينية على المعلومات التي كنّا نزوّده بها نحن وسوانا من الرفقاء العاملين في فلسطين.

وعندما انتقلت إلى الولايات المتحدة الأميركية في فترة لاحقة كنت والرفيق هشام شرابي نكتب المقالات ونرسلها لجريدة الجيل الجديد الصادرة في دمشق، كما أصبحتُ في ما بعد مراسل الجريدة من «الأمم المتحدة»، ولم يكن وقتها لأي صحيفة عربية مراسل في الأمم المتحدة سوى للأهرام المصرية ولجريدة الجيل الجديد…

ويضيف: «إبان الثورة القومية الاجتماعية الأولى تمّ توقيفي وسجنت في سجن الرمل في بيروت، ومن محطات عملي الحزبي أيضاً التعاون مع المرحوم الرفيق سعيد تقي الدين على تأسيس نادي خريجي الجامعة الأميركية، كما تعاونت مع الرفيق الشهيد غسان جديد في نشاط حزبي كان يقوم به، وحتى هذه الايام أنا على علاقة جيدة بقيادة الحزب وبالقوميين الاجتماعيين في الوطن والمغتربات.

ـ رغم ابتعادك عن الوطن لفترة طويلة، وانشغالك في عالم الاعمال والاقتصاد لا تزال تتحدث بحرارة الأمس القريب… هذا يذكرني ببعض أبناء رعيلك الذين قفزوا لأسباب غامضة خارج السرب، وراحوا ينعتون سعاده بالـ «المتسلط» !! .

ـ لا لا… هذا الكلام مرفوض. أنطون سعاده لم يكن يوماً متسلطاً، كان مؤسساً منفتحاً، هو لا يشبه قياديي الأحزاب الذين نعرفهم اليوم ولا الذي قبله، الزعيم مؤسس مختلف عن سواه بكل ما تعنيه كلمة اختلاف، وتأسيسه للحزب كان مغايراً لكل الحركات الحزبية، هو لم يقرر ان يستدعي بعض أصدقائه ومعارفه ليؤلف معهم جمعية أو تجمعاً بشرياً. لقد بدأ الرجل بطرح السؤال الفلسفي الكبير، «من نحن» وجاء سؤاله هذا مغايراً لفلسفة الوجوديين الذين يطرحون سؤال من انا أو من انت؟. وكان بعض الذين انتموا إلى الحزب في ذلك الوقت قد تأثروا بالوجودية وفلاسفتها أمثال كير كيغارد وباردييف وسارتر وسواهم، وهذا النوع من الفكر يقود إلى مجتمع رأسمالي فردي، والى نوع من الديمقراطية القائمة على حقوق الفرد أو حقوق الانسان، ولكن التطور الآخر، وهو الأهم برأيي، هو تطور المجتمع، تطور الإجابة على السؤال الاهم» من نحن؟ ما هي هويتنا، خصوصاً واننا كنا شعباً بلا هوية، سعاده طرح هذه الإشكالية الفلسفية الاجتماعية واجاب عليها: نحن سوريون، وسورية أمة تامة، طبعاً جاءه الجواب بعد دراسات معمّقة في الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا،.. من هذا المنطلق القاعدة سعى سعاده إلى تأسيس حزب، وفي الحزب شدّد على العقيدة الفكرية، وفي هذا النوع من التفكير لا مكان إلّا لمن يعي ويفهم حقيقة هويته وحقيقة فكره، وأنطون سعاده الفيلسوف كان يدرك جيداً أنه لا وجود لحقائق أزلية ولا لحقائق مطلقة غير قابلة للتغيير، وكان يتقبّل أي نقاش فلسفي علمي، ولكن شؤون الحزب وأمور العقيدة كانت حقائق ثابتة في فهم أعضاء الحزب إلى ان يتغير المجموع،.. أي ربما حدث تغيير بعد مدة زمنية بالأوضاع وانعكس هذا التغيير على الأفكار والقناعات، عندها تتغير الامور وسعاده كفيلسوف وعالم اجتماع يعترف بهذه المتغيرات، ألم يقل: ربما أصبح العالم كله أمة تامة، من يدري؟ هذه الأسس والقواعد الاجتماعية حدّت من طموحات أصحاب النزعة الفردية، لكن بعض الأعضاء في تلك المرحلة اغرتهم النجومية بعد ان قدّمهم الحزب كقادة، وأثر في أنفسهم حبّ البروز، بينما كان الزعيم في المغترب، فانطلقوا من ذاتهم وإليها، وقد أثرت تصرفاتهم الخاطئة بمسيرة الحركة القومية الاجتماعية،.. وكادت تعمل على تهديم أسس وضعها سعاده لبناء الحزب وبناء النهضة القومية الاجتماعية، المختلفة عن نهضة الفرد او حركته. لم يكن الزعيم يمانع إطلاقاً في اطلاع القوميين على الفلسفات وأنواعها، من ماديّة إلى وجودية وسواها، ولكنه كان يشدد على ضرورة الانضباط داخل صفوف الحركة القومية الاجتماعية، وإلا فإن عدم الانضباط كان سيؤثر.. وأثر على مسيرة الحركة.

«كان من حق أي قومي اجتماعي ان يكتب ما يشاء ويقرأ ما يشاء، كنت مع هشام شرابي ولبيب زويا نكتب ونتعاطى بالأمور الفكرية والفلسفية، ولم نسمع منه ملاحظة واحدة، أو إشارة تمنع علينا التعاطي بهذه الامور،.. من أين جاء من جاء بهذه الفكرة، وكيف يمكن للإنسان أن يتحدث عن تسلط رجل كان يعيش بين الناس يشاركهم همومهم من أصغرها إلى اكبرها، يصغي إلى الجميع، ويتعامل معهم بقلب منفتح وصدر رحب،.. تجدينه حيناً مع المقاومين وحيناً مع الفلاحين وأحياناً مع المثقفين، وبعد خطاب العودة الذي ألقاه في «الغبيري» تبعته القوى الأمنية لتعتقله، وكانت زوجته قد أحضرت معها طعاماً لأنها كانت تعرف أنهما سيقصدان منزلهما في الجبل، ليعيشا فيه.

«اعرف أنطون سعاده جيداً، ولا أذكر انه اثناني عن القراءة والكتابة في أي موضوع اختاره، كان يجالسنا ويترك لنا حرية الاختيار. هل هناك من دخل عليه مرة ووجد على بابه حاجباً أو بواباً؟؟ كان يستقبل الجميع ببساطة وكأنه واحد منا، وليس زعيماً أو مؤسساً. لقد أقسمنا اليمين، وأقسم هو اليمين أيضاً، فأي تسلط هذا الذي يتحدثون عنه؟

معظم الذين تركوا الحزب أو طردوا من صفوفه أيام سعاده كانت قضاياهم شخصية وأحياناً أخلاقية، لم تكن قضايا حزبية او تنظيمية.. لقد انفتحوا على الحرية الجنسية، على المرأة، ومن الطبيعي أن تغريهم هذه القضايا وهم في فورة الشباب، وتشدهم باتجاه غير اتجاه الإيمان الحزبي. أنطون سعاده لم يكن معادياً للجنس أو للحب، ولكن بعضهم فهم هذه العلاقات الإنسانية تسيباً حيناً، واستسلاماً لمشاعر فردية حيناً أخر… وهذا شأنهم لكنه لا يعني أن سعاده كان ديكتاتوراً، إذا حاسب الشاذ أخلاقياً، أو المستسلم لمشاعره الفردية، وينسى حقيقة وجوده في حزب يصارع للتأسيس.

ـ ذكرت أنك حضرتَ ندوات فكرية كان يقدمها سعاده؟

ـ… نعم حضرت جزءاً كبيراً من المحاضرات التي كان يلقيها لتوضيح مبادئ الحزب.

ـ تعني ما عُـرف فيما بعد بالمحاضرات العشر، وقيل أيضاً انها سميت كذلك تيمناً بوصايا المسيح العشر!

ـ ما هذا التأويل، كان الزعيم يتحدث في المحاضرة ويفتح باب الحوار الذي يؤدي أحياناً للتوسع في موضوع ما، فيتحدد وقت للحلقة التالية او المحاضرة… ولم يكن هناك خطة أو تصميم لجعل المحاضرات عشر، الموضوع برمته تمّ بمحض الصدفة، وأسميت بهذا الاسم يوم جُـمعت لأن عددها عشر محاضرات، وأي تأويل لهذا الأمر يبقى كلاماً لا طائل وراءه، والذين يوزعون التهم هم إما عبثيون انحرفوا عن الفكر، وإما ضعفاء يبحثون عن مبرر لضعفهم… بعضهم اتهمه بالنازية !! . ولكن هم بمن تأثروا. ماذا فعلوا؟ ماذا غيروا؟ أحياناً أجد احدهم «يفقعنا كل شهر أربع خمس مقالات» لا منهجية فيها ولا قيمة لها. وهذا ينجرّ على اكثر المثقفين والمسؤولين عندنا من أهل السلطة. كل واحد منهم وضع في داخله بالوناً وبدأ ينفخه وينتفخ معه، ويصدق نفسه، ويستمر بالنفخ حتى يطير، وغداً إذا طاروا جميعاً سيحلّقون فوق الموضوع، أي موضوع وهم طائرون فوقه، إنهم يفتقدون أحياناً إلى التركيز والحساسية الأدبية لما هو مهم وما هو أهم… هؤلاء شكّلوا ازمة للحزب وكان سعاده موجوداً فطردهم او صوّب مواقفهم، ولكن بعد استشهاده جاءتنا حركات متشددة أدت بالحزب إلى التقوقع والانقسام.

لقد شدّد سعاده على اجتماعية الحزب، ليفهم الجميع ان غايته بناء المجتمع والانسان من خلال المجتمع ولعله قصد إلى إيقاف هذه الحالات الفردية المريضة، الأفراد مهمون ولكن أهميتهم تكمن في فهم وعي اجتماعيتهم «.

وفاته

في 25/11/2000 وافى الأجل الرفيق الأديب يوسف سلامة، وقد نعاه حزبه بالبيان التالي:

«ينعي الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى الامة، الأديب الرفيق الدكتور يوسف سلامة، الذي توفى في السويد عن عمر يناهز الخامسة والسبعين عاماً، وللرفيق يوسف سلامة مجموعة من الكتب والمقالات منها «حدثني ي. س قال…» و «شرفنا لنخطف أنفاسك»، ورواية «وداعاً رياح التفاؤل»، وقد أصدر مؤخراً عن دار نلسن مجموعة الاعمال الكاملة.

انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي منتصف الاربعينات عندما كان طالباً في الجامعة الأميركية، وكان في استقبال سعاده في مطار بئر حسن عام 1947 واعتقل بعد حادثة الجميزة الشهيرة لمدة أربعة أشهر ثم تابع دراسته في جامعة شيكاغو، وجورج تاون، حيث حاز على شهادة الدكتوراه في علم الاقتصاد. أسس وأدار مصرف أنترا في الولايات المتحدة الأميركية، وقد استقرّ بين بيروت وأسوج، حيث وافته المنية هناك في 25/11/2000 بعد صراع بطولي مع المرض. متزوج من السيدة «غولي» وله منها ابنتان «.

ـ لندخل إلى عالمك، هذا العالم الذي كان يصخب حياة وتنقلاً من مسؤولية إلى اخرى، فجأة دخلت عالم الكتابة بعد ان تقاعدت وكأنك ترتاح في رحاب الكلمة، فهل الكتابة راحة؟

ـ كل ما هو متعب يعطي شعوراً بالراحة، مثلاً ممارسة الرياضة تتعب الجسد، ولكن بعدها يرتاح الانسان، الكتابة راحة ايضاً ولكنها كراحة المرأة بعد لحظة الانجاب، هي مخاض عسير بالنسبة لي، فأنا أعيد صياغة الفكرة عشرات المرات، وأبحث عن اللفظة المناسبة، البعض يعتقد ان الكتابة عملية سهلة عندي… ثقافتي غربية، وغربية انكلو سكسونية، ومنها تعلّمت ان الكلمة يجب ان تحمل معنى محدداً ويجب ان يصل هذا المعنى إلى المستمع والقارىء، واذا كان الكلام بلا معنى فإنه لا يتعدى كونه صوتأ يشبه صوت بوق السيارة… لذا فأني اكتب الجملة، واذا حملت معنى جيداً اتركها وإلا فإنها تتعرض للشطب، الكلمات في اللغة العربية تجر بعضها كما يجر «القمل الصيبان»، الكلمة تجر الكلمة، والذي يكتب لا يعرف احياناً المعنى الدقيق للكلمات، وعندما يربطها بكلمة اخرى لا يفهم معنى الربط، ترن الاحرف في اذن الكاتب لما في اللغة العربية من موسيقى، فيعتقد انه ابدع وانه بليغ.. اخلص إلى القول: الكتابة تعبير عن امر نريد ايصاله، وعلى هذا التعبير ان يكون بسيطاً سلسلاً، يمكن ان يصل الكتابة المعاصرة عندنا موضة انقرضت في الغرب، وانتهت المحاضرات ودوائر الفلسفة، التعليم اليوم عبارة عن «سمينار» او حلقة دراسية يشارك فيها الاستاذ والطلاب، يتعلم منهم، ويتعلمون منه بعملية تواصل جميلة..

ـ لغتك سلسة، وعاميتك تقارب الفصحى، كيف استطعت ان تحافظ على لغتك ومخزونك اللغوي، بالرغم من سنوات اغترابك وابتعادك عن استعمال لغتك العربية حتى ولو بالحديث اليومي؟

ـ اخبرتك اني كنت مراسل جريدة «الجيل الجديد»، كما اني كنت اقرأ وأكتب بشكل متواصل، اضيف إلى ذلك اني درّست اللغة العربية بالانكليزية للاجانب. اللغة التي اكتب بها سميت قديماً لغة الحكاية، في العربية ثلاث مستويات لغوية: العامية المرتبطة بالاماكن الخاصة بها، اللغة الفصحى وهي، لغة التراث.. واللغة المحكية وهي مزيج من العامية والفصحى. وقد سادت المحكية في عصور عربية معينة، فإذا اطلعت على مخطوطة «الف ليلة وليلة» تجدين هذه اللغة، التي طمست إما بتفصيحها او باضطهاد من استعملها، واستمرت العامية تصارع الفصحى في كل كيان عربي.

وإذا تأملنا الاستعمالات اللغوية بنظرة علمية، للاحظنا ان لكل فرد منا لغته الخاصة به، سائق التاكسي، النجار، الحداد، ابن الست سنوات، المتعلم، المثقف.. إلخ، وهذه اللغات مختلفة، نجمعها في لغة واحدة هي الكتابة، وسينتفي حكماً وجود رواية او قصة اذا لم تكتب بكل تلك المستويات من الاستعمال الغوي. اي ان نترك لكل شخص حرية التحدث بلغته الخاصة… وهذا ما نجده في اعمال روائيين كبار امثال «الطبيب الصالح» و«نجيب محفوظ»، وبالرغم من الانتقادات السلبية التي تلحق بهذا النوع من الكتابات… فإن هذه اللغة تصل إلى القارىء اكثر من التعقيد واسقاط حوارات على اشخاص لا يتقنون استعمالها.

لقد جابهني هذا الموضوع، فاعتمدت الكتابة المبسطة، واسلوب الحوار مع آخر افترضته أمامي».

كان الرفيق يوسف يرتبط بصداقات قوية مع رفقاء، من بينهم الأمين الشاعر غسان مطر الذي رثاه بالقصيدة التالية:

مضى صاحبي

كان طفلاً جميلاً

في يده المفرداتُ

فيقطفها زهرة زهرةً

ويُنسقُها لتصير ربيعاً

ويرمي بها

في حقول الكلامْ

مضى ضاحكاً…

كلما اتعبته المسافةُ

غنَّى لها

واستعاد مواويلَه

وحكايا فتوحاته

والهدايا التي

كان يحظى بها كل عامْ

مضى هادئاً

فرّ من قبضة الجسد المرّ

وانساب بوحاً رقيقاً

واقفل شباكه مثل ساحرة

تتفيأ اسرارها تحت جنح

الظلامْ

لم يكن حوله غير غربته

عندما كبر الشوق

في روحه

سال حتى ارتوى

وأضاء الحنين

يديه فلفّهما تحت خديه

وانحدرت دمعةٌ

وتنادت رفوفُ الحمامْ

مضى صاحبي

وانا مثله أتحيّن

موتاً انيقاً

كأن أتسلَق قمة شوقي

ويشتعلَ العرشُ تحتي

ويشتعلَ الله فوقي

وتلسعني زهرة

في دمي… فأنام…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى