الشاعر محمد ناصر الدين لـ«البناء»: الشعر يبدأ منّي وإليّ يعود…وأتجنّب الغزل المباشر والعواطف المستهلكة

حاورته رنا صادق

«القصيدة هي المسدّس الذي يطلق رصاصه في وجه الموت». بهذه العبارة الفلسفية الصريحة يختزل الشاعر الدكتور محمد ناصر الدين العلاقة المباشرة والثابتة بين القصيدة والموت، بين الشعر والموت، بين الوجود والموت. فالكلمات هي العصيّة على الموت.

بقدر بساطته وتواضعه، بقدر ما يلفتك حضوره، وثباته النفسي والاجتماعي. غامض حيناً وطفلٌ حيناً آخر، يحمّسك هذا الغموض كي تحاول استراق النظر إلى خباياه، ويريحك ذلك الطفل الذي فيه كي تستلقي وإياه تحت فيء الشجرة في ضيعته «سُجد».

منطقة ظلّ الشاعر هي «أناه» وخصوصيته، محكمة الأقفال. والقصيدة ـ بالنسبة إلى الشاعر ـ لها طبقات ورموز باطنية.

يترك مساحات بيضاء في قصيدته، لأنّ الصمت باعتباره جزء أساس من الموسيقى، كالمقطوعة الموسيقية. ما لا يقال في الشعر هو نغم بحدّ ذاته، مكانه مكان الكلمات، وأجمل أحياناً، كالمنهج الصوفيّ الذي يعتبر أنّه «كلّما إتّسعت الرؤية ضاقت العبارة».

ما زال الشاعر محمد ناصر الدين يعيش هناك، في تلك القرية الجنوبية في لبنان، يقلّب صفحات الطفولة فيها، يمرّ عليها بمرّها وحلوها، يطفو على سطح أمواجها، يعيش خباياها، ويتفيّأ بعباءة أشجارها.

ضيعته عانت التهجير في 1985، عانى سكّانها من غربة التراب وحنين الأرض. هذه القرية الجنوبية وصلها الإسفلت منذ حوالى ثماني عشرة سنة فقط.

مع وصول طريق الإسفلت، جاءت إلى القرية الأفكار القومية والشيوعية، كلّ هذه التيّارات دخلت مع جرّافة الإسفلت، حينذاك انتشرت الأفكار السياسية في «ضيعة ضايعة» الجنوبية آنذاك كما يسميها الشاعر.

سُجد التي تقع في أعالي جبل الريحان الجنوبي، قريةٌ تكسوها الثلوج، من كلّ حدب وميل، سكّانها كتلك الكائنات التي تنام في الشتاء وتصحو بداية حلول الصيف. كما يأتي على ذاكرة شاعرنا كيف كانت نساء القرية يحضّرن القورما في جرار كلّ أول من نيسان ويحفظنها للشتاء.

تلك القرية المقاومة، لم تنجب مقاومين فقط، بل أنجبت روّاد فكرٍ مقاوم يدعو للحقّ والسلام والمحبّة، وهبت سُجد سكّانها رجالاً ونساءً الصبر، والعزيمة والكرامة، بعد أنّ تعرّضوا للتهجير بعد احتلالها كاملة من قبل جيش العميل أنطوان لحد، ما اضطر سكّانها إلى المغادرة إلى قرية صغيرة في إقليم التفاح.

هناك في القرية التي لملمت جراح التهجير والاغتراب عن القرية الناتج، تفتّح برعم ناصر الدين الشعري، لكن لهيب الحنين والحسرة على سجد وطبيعتها بكل رموزها لم ينطفئ، هكذا بدأت حكايته والشعر بحثاً عن الفردوس المفقود.

«البناء» التقت الشاعر ناصر الدين للالتفات إلى تجربته، والتحدّث إليه عن ديوانه الأخير «شمعتان للمنتظر».

يتنوّع شعره كشعر فريد الأصالة. يمزج العربية والفرنسية بقصيدة واحدة. يعود ذلك إلى شدّة تأثره بالفترة التي عاشها في فرنسا. هذه بصمته الشعرية. بصمة الحساسية.

إحساس لا يعرف مكاناً أو زماناً. يرافق صاحبه أنى حلّ، ويفرض نفسه أينما ارتحل. هذا هو ببساطة الشاعر الدكتور محمد ناصر الدين… الفيزيائي.

يقرأ وهو نائم. تغلب هذه الصورة على مشهدية حياته، ذاك الطفل الذي ولد في المكتبة، حتى صار مفكّراً، مبدعاً وشاعراً.

لم يكن هناك انفعال أوّل بين ناصر الدين والكتابة. لكن ذاك الصبي على مقاعد الدراسة كان يكتب موضوع الإنشاء في اللغة العربية لأربعة وعشرين طالباً في الصف، وكلّ موضوع بطريقة وصوغ مختلفين.

لديه القدرة على عجن الأفكار كالعجينة كيفما أراد، هذه صفته الفريدة. مع موت جدّه، كتب قصيدة انفعالية لحظوية، باللغة الفرنسية حينذاك في عمر ثماني سنوات، كما كتب للمناسبات الوطنية وذكريات وأحداث.

ما زال لديه ذلك الشغف بالقلم والورقة. رحلته في القصيدة تبدأ منه وإليه تعود، كرحلة الصوفيين في الداخل والأنا والوجود. وفي كلّ رحلة يستضيف نفسه، أو حنينه إلى القرية أو الحبيبة.

الرحلة الشعرية هي رحلة داخلية، فالشعر بالنسبة إليه ليس للحصول على مركز اجتماعيّ، بل هو من نفسه ولنفسه. مع العلم أنّ بعض الشعراء تورّطوا باعتباره مدعاة للتواصل والبهرجة.

هو شاعرٌ، أستاذ جامعي في مادة الفيزياء، ويقول عن هذا التمازج بين الفيزياء والشعر لديه، إنّه لم يختر الفيزياء بإرادته، فقد تربّى بين الكتب، على يد والد كان دكتوراً في الأدب العربي، لديه علاقة قوية مع القراءة والكتب، ترعرع وسط الأقلام والأوراق فظهر لديه شغف القراءة والكتابة. هذه النتيجة الطبيعية كي يصبح ملمّاً بالأدب والكتب، لكن والده كان له رأي مغاير، أنّه ليس من الضروري أنّ يمشي الأبناء على خطى الآباء، فشجّعه على سلوك درب الفيزياء.

وعن سؤاله أين يتلاقى الشعر والفيزياء، يجيب: كلاهما يبحث عن الحقيقة والأصول، الفيزياء تبحث عن كيفية الوصول إلى الحقيقة، بينما الشعر يسأل لماذا وصلنا إلى هذا الواقع. الفيزياء تعلّم قوانين الحركة في الوجود، الشعر دائم التجدّد يتابع كيف تخلق الأشياء وتكبر وتتجدّد وتتطوّر وتهرم وتموت.

الشعر، بحسب ناصر الدين، دائم التجدّد، يرى في الأشياء معانيها وأضدادها، كما يرى تغيّر هذه الأشياء. يحدّد الشعر عاملان أساسيان، أولهما أنّ الشعر صراع إنساني، أي أنّ الشاعر يكتب لنفسه، ثانيهما أنّه عاجزٌ أمام الموت، الموت هو السؤال المؤرق للفنانين جميعاً والشعراء، تصطف إلى جانب الشعر الفلسفة والعلوم والأساطير والأديان لكي تجيب عن سؤال: «لماذا نموت؟ ماذا هناك بعد الموت»؟ الشعر النسبة إلى ناصر الدين هو مثل الحبّ كما عرّفه ماركيز، هو شيء يزداد كثافةً كلّما اقتربنا منه.

ثمة روائح نثرية قديمة تجدّدت مع الزمن. ففي تراث الأدب العربي كانت النصوص طويلة لها أغراض سياسية، وعظية وتربوية أمثال أبي حيّان التوحيدي، ابن المقفع والجاحظ وغيرهم… تمتّع النثر بفنّ قائم له أصول عريقة عند العرب.

أمّا بالنسبة إلى الشعر، فيقول ناصر الدين: بدأ الشعر التفعيلي مع صلاح عبد الصبور وغيره، لكن مع تغيّر المدينة وتسارع عجلة الحياة، كان لا بدّ من أنّ تتسارع دقّات قلب القصيدة. فقصيدة النثر قصيدة مكثّفة، تستجيب لسرعة هذا العصر. التاريخ وحده، هو الذي ينصفها.

لكلّ شاعر ميزان في مكانٍ ما، بين النسبيّ والمطلق. فأصغر الأشياء ماديةً يحوّلها الشاعر إلى شيء من الميتافيزيقا كما الأنبياء. الأشياء المادية تتحوّل إلى أشياء مطلقة في الشعر، الفلسفة والدين.

من المفروض على الشاعر أنّ يوازي ما بين يديه، لأنّ لديه القدرة أنّ يرى الأشياء بحساسية أكثر من الآخرين. هذا ما يميّز الشاعر عن غيره.

قصيدة النثر خيار ناصر الدين الفريد. إذ يراها اليوم ـ حسبما يقول أفلاطون ـ «إذا تغيّرت المدينة تغيّرت الموسيقى». ويطبّق ذلك على الفنون الأدبية والكتابية والشعرية.

يفضّل شاعر هذا العصر التحرّر من القيود، وفكّ الحصار عن أبياته، إذ يرى ناصر الدين أنّ هذا الأمر كان محكماً من قبل سلطة، باعتبار الشعر وسيلة ايديولوجية، كأيام المدّ الناصري والقومي، حيث كانت لغة العرب شبيهة بالسلاح، يستخدمونها وقت المعارك.

ويضيف: مع محمد الماغوط، بدأ الشعر يأخذ دوره الحقيقي الذي ولد لأجله ـ شبيه بالحياة ـ ألا وهو الحرّية. لا يكمن سبب أكبر من الحرّية. القيود لم تعد تفرض سلطتها، وذلك مع انفجار الثورة الرقمية وتهافت وسائل الاتصال على الأخبار وإيصال المعلومات.

الشعر هو السفر بين الصوت والمعنى. فالخروج عن القواعد الشعرية لأيّ سبب من الأسباب لا يعني سوء القصيدة، وابتعادها عن الموسيقى لا يعني أنّها بمعانيها لا تفجّر الموسيقى والإحساس عبر انتقاء كلماتها. فيمكن للقصيدة النثرية أنّ تخرج عن المألوف وتعطي معنًى وإحساساً أكبر من تلك التي نسمعها في الخطب بحسب ناصر الدين.

يتجنّب في شعره الغزل المباشر والعواطف المستهلكة. لكنه لا ينكر احتياجات الشعر الدائمة إلى اللمسة الأنثوية ودفء المرأة في هذه الظروف القاسية.

«سوء تفاهم طويل»، المفضل لديه من بين دواوينه. يحكي تجربته أثناء الألم والمرض والموت. تمتلئ قصائد هذا الديوان بفيض من الطفولة والذكريات والأنين. يؤلمه هذا الكتاب، لذلك يفضّله ناصر الدين.

«شمعتان للمنتظر» هو ديوان يحكي عن الأشياء البسيطة الجميلة والبدائية التي تعطي الأمل، وتبتعد عن الدمار. هي بمكان ما بمثابة خلاص الشعوب من الأزمات.

تجذبه المراحل الثلاث التي مرّ بها الانسان، بدايتها مع إيمانه بالأساطير، فالشعوب على اختلافاتها آمنت في حقبة زمنية معينة بالأساطير، ثم الأديان التي تأتي في المرحلة الثانية من عملية تطور الفكر الإنساني وأخيراً الفلسفة. مع العلم أنّ الأنواع من القراءات والكتابات تغوي ناصر الدين.

يشعر ناصر الدين نفسه أنّه يتطوّر مع الشعر، إنما لا يمكن فهم مراحل تطوّر الشعر مع التطوّر الإنسان قبل شرح مفهوم الشعر بحدّ ذاته.

ويتابع ناصر الدين: سُئل مرّة الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس، عن ماهية الفرق بين الشعر والكلام العادي. فقال: «الكلام العادي هو أنّ نقول مشوا وحيدين في ليل مظلم، بينما الشعر فهو أنّ نقول: مشوا مظلمين في ليلٍ وحيد».

قصائد

وفي ما يلي، باقة من قصائد الشاعر الدكتور محمد ناصر الدين، وردت في ديوان «شمعتان للمنتظر».

متحف للفراشات هو الكون

وأقفاص بلا عصافير

تقول أمي،

تزحف على الحكاية دبابيس صغيرة

تثبت الفراشات من وسط هيكلها تماماً

في براويز الزجاج،

قطط جائعة هجمت على الأقفاص،

أمي بارعة في المونتاج.

حين تسكن الضباع الشعر واللغة

مدّي ذراعك قبالة عينيّ

أبصر العروق الزرقاء الصغيرة

تحت الجلد

وأعدّها مثل سمكات الأكواريوم،

لغة مسمارية رقيقة

بلا مسامير

تلك العروق الصغيرة،

ضبع بلا أنياب

يزخرف غابة في الريف.

أشياء مبعثرة

من دون قربى أو نسب:

خوخة

خوختان

شجرة

دمعة

أعمى،

قليل من الشعوذة

قليل من الرقية فوق الكلمات:

الخوخ أعمى والشجرة مبصرة.

الحب دمعة

تفلق الخوخة خدّين.

وبعض القصائد من دواوينه السابقة.

الحجارة قاسية الملامح

لكنها غالباً ما تكون رقيقة القلب،

حين تضع في كفك حجراً صغيراً

يغفو الحجر

مثل عصفور مهيض الجناح.

الوردة رقيقة الملامح

لكنها غالباً ما تكون قاسية القلب

بالكفّ ذاتها حين تضع فوق القبر

زنبقة صغيرة

تأبى الوردة أن تتخذ سبيلاً في الرخام.

نصف حجر

ونصف وردة

هذا القلب.

للشبهة مثلنا تماماً

يدان وأنف

للشبهة قلب

يحصل فيه ما يلي:

يسقط شِعرٌ فوق الورق

يسقط ورق فوق الدمع

يسقط دمع فوق المطر

يسقط مطر فوق الورد

يسقط ورد فوق الشوك

يسقط شوك فوق القلب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى