طبيعة المعرفة ومصادرها

إبراهيم شهابي

«العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس بالتساوي إذ يعتقد كلّ فرد أنه أوتي منه الكفاية، حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقنعوا بحظّهم من شيء غيره، ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة لما لديهم منه، وليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحقّ من الباطل، تتساوى بين الناس جميعاً بالفطرة. وكذلك يشهد بأن اختلاف أرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من الآخرين، إنما ينشأ من أنّنا نوجّه أفكارنا في طرائق مختلفة».

رينيه ديكارت: «مقال في المنهج».

معنى المعرفة: عرف الشيء أي أدركه بالحواس أو بغيرها، وللمعرفة معنيان رئيسان، الأوّل عام والثاني خاص.

المعنى العام: المعرفة هي الفعل العقلي الذي يتم به حصول الشيء في الذهن وقد يكون مصحوباً بانفعال ما أو لا يكون كذلك.

المعنى الخاص: المعرفة هي الفعل العقلي الذي يتم بوساطته النفاد إلى جوهر الموضوع المعروف لتفهّم حقيقته بحيث تكون هذه المعرفة خالية ذاتياً من كلّ غموض والتباس ومحيطه موضوعياً بكل ما هو موجود للشيء في الواقع.

يتّفق التعريفان على أنّ المعرفة علاقة دائمة بين ذاتٍ تعرف وموضوع يعرف، ولكنهما يوضحان الفرق بين «عَرف» بشكل عام، و«عَلم» بالمعنى الثاني للمعرفة، وهذا ما يكشف بين الفارق النسبي بين المعرفة والعلم سواء بالمعنى أم في الاستعمال فالمعرفة أوسع من العلم وهو أحد فروعها، والعلم أدقّ من المعرفة وأكثر تخصّصاً منها. لذلك، يربط الفيلسوف الفرنسي لالاند المعرفة بالتصوّر والعلم بالفهم، مثال ذلك: إنّ معرفة الكسوف تختلف عن العلم به كظاهرة طبيعية لها قانونها الذي يفسّرها ويتوقع حدوثها. ثمّ يمكن فهمها ومعرفه لماذا هي كذلك؟

غير أنّنا قد نستعمل المعنيين في اللغة الاعتيادية بشكل مترادف أحياناً. فقد أقول: أنا أعرف كيف يحدث الكسوف. أو أقول: أنا أعلم كيف يحدث الكسوف. فأكون قد استخدمت فعل أعرف بمعنى أعلم، ولكن لا يمكن استخدام فعل «علم» بمعنى «عرف» دائماً. والقاعدة العامة في ذلك هي أنّ كلّ علم معرفة، وليس كل معرفة علماً.

عناصر المعرفة: يتضمّن البحث في المعرفة الإشارة إلى عنصرين اثنين وعلاقة قائمة بينهما:

العنصر الأول: وجود ذات عارفة أي العقل الذي يمتلكه الإنسان وبه يعرف.

العنصر الثاني: وجود الموضوع أو الشيء المعروف وهي ما يتضمّنه العالم الخارجي من موجودات حسّية ومجرّدة.

العلاقة بين العنصرين السابقين: إذ يرتكز البحث الفلسفي في المعرفة على طبيعة هذه العلاقة وعلى أولوية أحد هذين العنصرين فيها على الآخر وشكل التأثير المتبادل بينهما.

الموقف الفلسفي من المعرفة: سلك الفلاسفة في مواقفهم من إمكان المعرفة ثلاث اتجاهات: الاتجاه الشكّي الذي يتمايز من جانبه في نوعين شكّ مطلق، وشكّ منهجي . الاتجاه الوثوقي، والاتجاه النقديّ.

مصادر المعرفة، وهي ثلاثة مصادر: العقل، التجربة، والحدس.

العقل هو الأداة الرئيسة للمعرفة عند أنصار الاتجاهات والمذاهب العقلية الذين يرون أنّ في العقل مبادئ وحقائق كلّية تدرك بوساطتها ماهيات الأشياء وحقائقها، وأنّ هذه المبادئ والحقائق نماذج عامّة ومجرّدة تقابل الأشياء والموجودات التي تقع خارج الذهن. وتقوم المعرفة الحقيقة عندما يتطابق ما في الذهن من مقولات مع ما في الواقع من أشياء، أو كما يقال بلغة الفلسفة: مطابقة ما في الأذهان لِما في الأعيان.

يعدّ أفلاطون وديكارت من أهمّ أنصار هذا الاتجاه. فقد ذهب أفلاطون إلى أنّ المعرفة الحقيقية لا تستمدّ من الحواس، إنما من المُثل والأفكار المفارِقة للعالم الحسّي والموجودة في عالم مثالي، وأنّ العقل يصل إلى الحقائق عبر إدراك هذه المُثل إدراكاً عقلياً. ومن ثمّ تنظيم الأشياء الحسّية في العالم المادّي بناءً عليها.

أما ديكارت، فقد أكّد أن الحقائق موجودة في العقل بشكل فطريّ، وأنها تنمو وتتطوّر مع نموّ الإنسان وتطوّر تفكيره. لذلك، فإنّ الإنسان عندما يكتشف حقائق الأشياء، فإنه لا يتعلّم شيئاً جديداً، بل يكتشف الحقائق الموجودة في عقله، تلك التي لم يكن قد تنبّه لها من ذي قبل.

ويذهب أنصار الاتجاهات الوضعية والتجريبية إلى أنّ المعارف ليست فطرية، بل يكتسبها الإنسان عن طريق التجربة التي تقوم على الاتصال الحسّي المباشر مع الأشياء الموجودة في العالم التجريبي. وتبدأ تجربة الإنسان بالاتصال بالعالم الحسّي منذ ولادته، ثمّ تتطوّر مع تطوّر تفكيره ونموّ ملكاته العقلية وزيادة معارفه، فتستطيع أن تنتقل به من المحسوس إلى المعقول ومن العيني إلى المجرّد.

ويعدّ الفيلسوف جون لوك أحد مؤسّسي التجريبية. فقد أنكر وجود أيّ معرفة فطرية سابقة في العقل، وذهب إلى أنّ مصدر المعرفة يعود إلى الإحساس، ومن ثم الاستبطان. والاستبطان من جانبه يعود إلى الإحساس أيضاً، لذلك فإنّ جميع الأفكار الأوّلية تنشأ عن الحواس وتتوزّع هذه الأفكار على أربعة أنواع هي:

ـ أفكار صادرة عن حاسّة واحدة مثل اللون والصوت.

ـ أفكار صادرة عن حاسّتين أو أكثر مثل الامتداد والكمية والحركة.

ـ أفكار صادرة عن الاستبطان مثل الإدراك والتفكير والانفعال.

ـ أفكار صادرة عن الإحساس والاستبطان معاً مثل الوجود والحرّية.

أما المعرفة الحدسية، فهي التي يحصل عليها الإنسان مباشرة من دون عناء أو وساطة، أو من دون أن يستنتجها من معرفة سابقة. والحدس أحد مصادر المعرفة لدى الإنسان وله ثلاث أنواع:

ـ حدس تجريبيّ وينقسم إلى قسمين: حدس حسّي وهو أوّل درجات معرفة الإنسان بالعالم الحسّي وبه يستطيع معرفة الأصوات والأشياء والروائح وكلّ ما يتّصل بحواسه الخمس. وحدس نفسيّ، وهو معرفة الإنسان بانفعالاته ومشاعره وعواطفه التي تدور داخل نفسه معرفة مباشرة كشعور الإنسان بالفرح أو الحزن أو القلق.

ـ حدس عقلي: وبه يعرف الإنسان المقولات العقلية الأوّلية كقوانين الفكر. مثل قانون الهوية وقانون السببية، والمبادئ الرياضية مثل النقطة والمستقيم والعدد.

ـ حدس مبدع: وهو أعلى درجات الحدس، يعتمد عليه الفلاسفة في مذاهبهم وأفكارهم الفلسفية، كما يضع العلماء نظرياتهم العلمية استناداً إليه، ويعتمد عليه الفنانون والشعراء في أعمالهم الفنّية.

كاتب فلسطينيّ سوريّ ـ الأردن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى