المزيد عن الأب الرفيق حنا أسطفان

شكراً للرفيق جوزف مسلّم الناشط في مدينة «كالغري» في كندا الذي وجّه لنا الرسالة التالية:

«قرأت لكم على موقع الحزب الالكتروني رسالة من الرفيق الأب حنا أسطفان إلى حضرة الأمين المرحوم عبد الله قبرصي. في حوزتي رسالة كتبها الرفيق الأب حنا أسطفان يعزي فيها الأمين عبد الله قبرصي بوفاة والده، فأحببت ان ارسلها لكم لعلها غير موجودة في ملفاتكم الحزبية، ولما فيها من معانٍ رائعة.

الرفيق الأب حنا أسطفان من الذين ابدعو في الدفاع عن بلادهم ضد الدعايات اليهودية في الولايات المتحدةـ، ولي معرفة به خاصةً عندما كنت ساكناً في مدينة تورنتو في الشرق الكندي».

«أخي وأميني، ورفيق روحي عبد الله،

ما عرفت والدك، يا عبد الله. ما عرفت، قبل ان تنعيه إليّ، انه كان لا يزال حياً. ما علمت انه كان ممن لم يأسنوا كما المياه في مستنقع، بل تحرك وانساب في الارض انسيابا، فأمرعت وأخصبت. ما انبئتُ انه انزلق كما ينزلق نيزك عن كف كوكب، وشق قلب الفضاء قبل ان يسير إلى قرار. وانه لم يسقط سقوط ورقة عن شجرة، ليتخضّر اليباس على اضلاعها وهي ملقاة على الحضيض في ظل الغصن الذي حطها.

تقول انه كان رجلاً عادياً. لعلّك عنيت انه لم يكن عظيماً في مفاهيم الناس للعظمة. لعلك قصدت انه لم يصب نفسه في قصيدة، كل قافية فيها غانية ترقص على عزيف ما في قلبه من حب وشهوة، وتدور على تطلّع إلى غد مجهول او تلفت إلى ماضٍ بهيّ، او تتلوى وقد فتتها الجمال، او تترنح وقد تمشى الحقد في مفاصلها. او لعلك ذهبت إلى انه لم يستحدث آلة، تستعبد الكائن الحي في مصنع او تغنى صاحبها عن يد العامل وتحرم المتضورين جوعاً رغيفهم اليومي، او توقر سمع معالجها بهدير عجلاتها وعجيج محركاتها، او تبتر منه اصبعاً، وتقطع كفاً وتستأصل ذراعاً، وتجتث قدماً.

او لعلّك رميت إلى انه لم يصنع أداة من ادوات التدمير. قنابل، وصواريخ، ومدرّعات، ودبابات، ومدافع، ورشاشات، ومقلات طاقات نووية، وباصقات سموم ونافثات غازات يكره بها الحاكمون من هم في عصمتهم على الخضوع لهم والصدوع بما به يأمرون، وعنه ينهون. او تهجم به أمة، أبطرها السلطان وأسكرها الطمع، على أمة ذليلة مستضعفة، كل ذنبها ان أرضها تستبطن نفطاً او ماساً او معدناً، وكل جريرتها ان رقعتها وصلة بين قارتين، او قناة بين بحرين، او مطّل على مواقع من ينافسها من الدول، ويصاولها من الامم، ويناهضها من الشعوب.

او لعلّك اردت ان تقول انه لم يكن زعيماً يفسخ في ما يظّن انه يضم، ويباعد في ما يخمن انه يقارب بين الجماعات والطبقات، ويوغر فئة على فئة في ما يحسب انه يؤلف بينهما ويلائم صديعهما.

او لعلّك عنيت انه لم يكن رجل دين. يبدو للعين انيقاً يقطر الله نفسه فيها، فيقبل الاتقياء الورعون على اطفاء عطشهم إلى اله بالعبّ منها، في ما هو في الحقيقة قدر يطبخ فيها الشيطان خشخاشاً اذا كرعوا من نسغه استرخت مفاصل الله فيهم، فاغفى وقد صرعه النعاس.

والدك، يا عبد الله، كان انساناً. جاء إلى الارض انساناً وزايلها انساناً. أحبّ نفسه، ولفرط ما أحبها، أحبه الناس جميعاً، وأحبهم جميعاً.

العقل وهو ما نتميز به عن سوانا دفع بوالدك إلى فرز الانسان فيه عن الحيوان، وحداه على الارتقاء بانسانه إلى حيث لا يطاله الحيوان، إلى حيث لا يقتات الحيوان به ويتغذى، إلى حيث لا يزدرده ويسترد به قدرته على الافتراس والالتهام.

والعقل يتطارحه الانسان والحيوان معاً، في المرّ. ويا ويل الارض حين يحتمله الحيوان وحده ويستقل بقيادته عن الانسان. عند ذاك، حجارتها تصفّف مذابح، وأماليدها تبرى أنياباً، وورودها تقلّم أظافر، وجذوعها تنصب مشانق، وهواؤها يشحن ناراً وكبريتاً، وسماؤها تستمطر ابادة وفناء.

ما هي الصهيونية؟… هي العقل اليهودي بحيوان فيه، رأسه رأس ثعلب، وأذناه أذنا خلد، وقوائمه قوائم ذئب. فالصهيوني في التحديد، رياء وختل، وتنسم اخبار وتنبّه، وغدر وانقضاض.

وما هي الخطيئة؟… هي العقل ولولاه لا تأدية حساب عليها يدثُر به الحيوان فينا، فنؤخذ بمنظره، ومنظره منظر غابة مشتعلة تزحف، ثم تطفى، ثم تعلو ثم تلّفنا، ثم تطوقنا، فنجهر، فتنطفىء عيوننا، فنقترف المعصية، وفي حسابنا اننا لا نأثم، ذلك ان الاثم وقد ضربنا بالعمى يفقد معناه، بسبب اننا نقيسه بما يولده فينا من لذّة، لا بما يتركه في غيرنا من التعاج. والكذب انتصار لما قلنا، وتستير لما فعلنا. والقتل بطولة. والخداع فطنة. والخيانة وضع مصلحتنا فوق الامة والحق، والخير، ومحاسن الاخلاق.

والدك فضيلته انه كبح الحيوان، ضمّره، اناخه، ربطه إلى وتد، وخلّاه كما لو انه مات ودفنه.

هكذا فعل الناصري من قبل.

حسبه من دنياه انه كان انساناً. وحسبه، في دنياه، انه كان عبّارتك إلى الحياة وكنت جسره إلى الخلود.

وبهذا لك، ولنا، فيه العزاء.

لك أبداً حنا أسطفان».

وجواب الأمين عبد الله قبرصي على رسالة الرفيق حنا أسطفان، نقلاً عن العدد 25 من مجلة «الندوة» التي كان يصدرها الأمين قبرصي في فترة اقامته في فنزويلا، وقد كنا اشرنا إليها اكثر من مرّة 1 .

«أبتِ وأخي،

بين يدي رسالتك تاريخ 23 ديسمبر وهي في موضوع وفاة والدي. انها ليست قطعة رثاء، لابي بالذات، انها رثاء لانسان مطلق انسان يموت على عرق جبينه، يموت بعد ان عمّر وبنى وغرس، فلا يسقط سقوط ورقة عن شجرة بل ينزلق نيزكاً عن كف كوكب.

لله درّك، كيف قدرت بما في خيالك من قدرة على الاسحضار، وفي قلمك مهارة على انتقاء الحرف، وان تجعل من أبي قيمة كبيرة في الحياة فكأنك تعنبني عن غير قصد انني قلت عن أبي انه كان انساناً عادياً.

أنا معك في ان الكثيرين من بني البشر، من الذين رفعت لهم النصب والتماثيل، ما كانوا في الحياة بنائين. عبقريتهم في الابداع والاختراع انقلبت إلى التخريب والتدمير. حتى في ميدان الشعر والصناعة والكهنوت. وانني معك في ان أبي، على انه كان انساناً عادياً، كان بناءً، صافي الطوية، ما اوقع اذى بمخلوق، ولا تسبب بإيقاع مدماك من عمارة، ولا كسر غصن عن شجرة. ما اتاه الله من قدرة وحيوية، سلخه في الانصباب على عمله البسيط، يضع فيه كل قلبه وكل وجدانه، يفيد الناس ويستفيد منهم، مادا لهم يد المعونة حيث استطاع إلى ذلك سبيلا.

لا اريد ان ارد انسانية والدي إلى عقله البصير الناضج. لا تلمني اذا لم اصل معك في تقدير والدي إلى الحد الذي وصلت. ولكن النتيجة واحدة، فسواء انقاد والدي إلى عقله، او إلى غرائزه الصافية النبيلة، فهو قد فرز فعلاً الانسان فيه عن الحيوان. ويا ليتنا نصفى من تمرسنا اليومي بالحياة، فنفرز الانسان فينا عن الحيوان، ولو بالسجية وحدها، دون العودة إلى امعان النظر وتحكيم العقل والتبّصر بالامور مقدمات ونتائج. في كلا الحالين، بالغريزة الصافية او بالعقل الناضج، حققنا نفسنا عملياً بما يرضي العقل ويرضي الضمير ويرضي الله..

ان الصهيونية كما وصفتها عن العقل يجره اليهودي بحيوان فيه، رأسه رأس ثعلب، واذناه اذنا خلد، وقوائمه قوائم ذئب. فالصهيوني في التحديد، رياء وختل ونتنسم اخبار ونتنبّه، وغدر وانقضاض».

« ولنعد إلى والدي… لقد كان سبب وجودي، وحسبي عرفاناً للجميل، ان اعترف اني لولاه لبقيت عدما لا وجوداً، ولكنه كأكثر الاباء الذين يهجرون تراب الوطن، نسي ان له ابناً هناك، فتركني احترق كالشمعة، أذوب، اتوجّد وأتضوّر، دون ان يفرغ من قلبه نقطة حنان على الحرائق التي كانت تأكل كبدي…».

«إن إنسانية أبي كانت ناقصة. كان على ابي لا ان يحب الناس ويحبوه فقط، بل كان عليه ان يكون مقدّراً للمسؤولية والواجب تجاه من انجب وان بعيداً عنه.

انني ارفع اليك بهذا الجواب على صفحات «الندوة» لا من اجل والدي، ولا من اجلك ولا من أجلي. على القراء ان يقرؤوا الفكر الجيد العميق في رسالتك، وان يقرؤوا أمثولة وعبرة في رسالتي، ان على الوالدين المغتربين ان يتعهدوا اولادهم على ارض الوطن، بكل ما في الابوة من معاني الحنان والرعاية، لان الابناء على أرض الوطن خير من الابناء في المغترب، اولئك تحفظهم لاوطاننا، وهؤلاء يذوبون في المهجر…».

«وأخيراً دعني أقل لك رأيي في الموت، انني وكل انسان حي مثلي في اعماقه وحقيقته ضد الموت مع الحياة. ان اللذين ماتوا حسبهم انهم كانوا احياء. على الاحياء من بعدهم ان يحفظوهم ذكريات، ولكن لكي نستحق الحياة، علينا ان لا يستوقفنا الموت عن الفرح، لكي تظل لنا القدرة على العطاء… الحياة عطاء. والموت انتهاء العطاء.»

«أبتِ العزيز، دمت في الاحياء رجلاً كبيراً يعلّم بالقلم واللسان محبة الحياة واحترامها. لك شكري ومحبتي وتقديري العميق. وليكن عامك عام نعمة وبركات ولقاء معنا.

أخوك عبد الله قبرصي».

من جهة ثانية وللمزيد من الاضاءة على الرفيق الأب حنا نورد ادناه نص الكلمة التي كان وجهها الأب الرفيق حنا أسطفان إلى جريدة «البناء» عام 1992 بعد ان كان ورده نعي صديقه الأمين توفيق الأشقر 2 .

« القومي توفيق الأشقر، الأمين توفيق الأشقر، المغترب الأمين توفيق الأشقر ردّ وديعته لأمّته بعد أن تفانى في خدمة أمته، واعتصم بتعاليم مؤسس حزبه، دون أن ينحرف بشعرة عن الخط الذي رسمه الزعيم بدمائه الزكية.

برّ توفيق بقسمه الحزبي. لم يحنث به. وأعلن على كلّ من عرفه من بعيد وقريب أنه قوميّ، كان تجسيداً لأخلاق الزعيم في ترفّعه عن العصبيات العشائرية، والإقليمية، والمذهبية، والفئوية.

فيا رفيق دربي، يا توفيق! لم تكن شهيداً بمفهوم العامّة للشهادة. أعني أنك لم تضمّخ الأرض بدمائك كما ضمّخ الزعيم رمال الأوزاعيّ بدمائه… ولكنك كنت شهيداً للشهيد الأكبر. التحقت به، فسلّم عليه وعلى شهدائنا. حيّهم. فهم أبرار مثلك، ومثلك وقفوا حياتهم على نشر الرسالة وتعميمها.

أعزي فيك قومّيي المكسيك الذين لم يحيدوا عن الجادّة. أعزي فيك أمّ البنين، والبنين، والأحفاد وكلّ صديق شاء حسن طالعه أن يتعرّف إليك.

أنت باقٍ يا توفيق، في من بقي أميناً للرسالة كما تسلّمناها من الزعيم، ظلّ وفيّاً للحزب في الهيكلّية التي أحدثها المعلّم للحزب.

لك الخلود في الأمة الخالدة بمثلك… رفيق دربك: حنا أسطفان».

هوامش:

1 مجلة «الندوة»: للاطّلاع على النبذة المعدّة عنها، الدخول إلى قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

2 توفيق الأشقر: من بلدة «بينو» في عكار. من أنشط رفقائنا في المكسيك. اني لا أذكر، بعد العام 1969، وكنت أتولى مسؤولية رئيس مكتب عبر الحدود، إلا والأمين توفيق متولياً لمسؤولية ناموس مديرية المكسيك المستقلة، أو ناموساً لمنفذيتها، فيما الأمين الياس بشعلاني يتولى المسؤولية الأولى. رزق الأمين توفيق بولدين توفيا، أحدهما بالداء العضال والآخر بداء القلب وبابنتين إحداهما اقترنت من الرفيق سليم عاقلة. من أعماله أنه أسس مطعماً ثم مصنعاً للبلاستيك كما عمل في مجال مقاولات البناء. أسس الأمين توفيق حضوراً ممتازاً في الجالية، عرف بصدقه واستقامته وبإيمانه الفذ بالحزب.

توفي الأمين توفيق في شهر آب العام 1992 عن عمر يناهز الثمانين وقد نشرت الصحف خبر نعي الحزب له في 26 آب 1992.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى