استراتيجية الأمن القومي الأميركي: إثارة الرعب وصناعة الحروب 1

رضا حرب

منذ نشأة «الدولة الأمة» هيمن مفهوم «الأمن القومي» على نظرية «العلاقات الدولية» بمستوياتها الأربعة… وهي الفرد والدولة والإقليم والعالم، ومع التعقيدات التي رافقت التطور في نظرية «العلاقات الدولية» بقي مفهوم «الأمن القومي» يرتكز أساسه على القوة كأولوية حتى بلغ ذروته في «الحفاظ على السلام من خلال القوة»، فتعدّدت تعريفات المفهوم من «الأمة تتمتع بالأمن عندما لا تضطر إلى التضحية بمبادئها المشروعة لتجنّب الحرب، وهي قادرة على الحفاظ عليها بالحرب» لـ»وولتر ليبمان»، الى «الأمن هو السعي للتحرّر من التهديدات» لـ»بوزان»، إلى التعريف العام للقوات الأميركية «التمتع بقدرات عسكرية تتفوّق على ايّ دولة أجنبية أو مجموعة من الدول».

في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية بات مسعى الحفاظ على «الأمن القومي» لا يرتكز كأولوية مطلقة على تنمية قدرات عسكرية للردع فقط، بل أيضاً على التفوّق العسكري الذى قاد الى سباق تسلح أدّى الى سقوط الاتحاد السوفياتي ومعه النظام الدولي القائم على القطبين ونشأة نظام دولي جديد هو نظام القطب الواحد تقوده الولايات المتحدة بلا منافس، ومن ورائها حلفائها وشركائها وأتباعها.

لنعد قليلاً إلى التاريخ لنلقي الضوء على تطوّر الرؤية الأميركية لمفهوم «الأمن القومي» والتعاطي مع الشأنين الإقليمي الدولي من خلال عقيدتين أسّستا لدخول الولايات المتحدة الساحة الدولية.

عقيدة جيمس مونرو 1823: لم تكن تلك المرحلة التي توصف بمرحلة «الانعزال» بقدر ما هي مرحلة «عزل» النصف الغربي للكرة الأرضية ليكون شأناً أميركياً. ورغم تعهّد «مونرو» عدم التدخل في الشأن الداخلي لدول أميركا اللاتينية إلا انّ الرؤساء الأميركيين استخدموا عقيدة مونرو للتدخل السافر في الشؤون الداخلية لكلّ الدول مما أدّى إلى حربين كبيرتين. في الحرب الأولى الحرب الأميركية المكسيكية استولت على أراضي مكسيكية تشكل اليوم سبع ولايات تكساس وكاليفورنيا ونيفادا ويوتاه ونيومكسيكو وأريزونا وكولارادو من الولايات المتحدة الأميركية في اتفاقية «غوادلوبي هيدالغو» التي فُرضت بالقوة. وفي الحرب الثانية الحرب الأميركية الاسبانية 1898 من اجل كوبا مقابل الساحل الشرقي للولايات المتحدة إلا أنها انتقلت الى المحيط الهادئ والى ما وراء هاواي وصولاً الى الفيليبين وجزر غارسيا في أول توسع خارج النصف الغربي للكرة الأرضية، كانت كوبا آخر همّها.

عقيدة ثيودور روزفلت 1903: صاحب دبلوماسية العصا الغليظة التي تبنّتها الولايات المتحدة حتى يومنا «تكلم بنعومة واحمل عصا غليظة، ستذهب بعيداً» التي عُرفت أيضاً باستراتيجية «العصا والجزرة». وفي أوّل استعراض للعصا الغليظة أرسل «الأسطول الابيض العظيم» في جولة حول العالم لإبراز القوة البحرية الأميركية في تبنّ واضح لاستراتيجية «دبلوماسية القوارب» التي انتهجتها دول الغرب الاستعمارية. بعد مرور أكثر من قرن من الزمن لا زالت عقيدة روزفلت ترسم المعالم الأساسية لاستراتيجية الأمن القومي.

كان لا بدّ من الإشارة الى عقيدتي مونرو وروزفلت بالتحديد لسبب رئيسي وهو انّ عقيدة الرئيس كانت حتى عام 1947 عندما أمر الرئيس هاري ترومان بتشكيل مجلس الأمن القومي، هي التي تحكم استراتيجية الأمن القومي. لكن على مدى أكثر من قرن من الزمن كانت ولا زالت عقيدة روزفلت حاضرة في الاستراتيجية الأميركية.

قبل الدخول إلى تحليل الوثيقة، لا بدّ من الإشارة الى ثلاث نقاط: الأولى انّ مستشار الأمن القومي هربرت رايموند مكماستر واضع الخطوط العريضة للوثيقة أراد أن يثبت لخصومه انه يتمتع بالقدرات والخبرات التي تؤهّله لأن يكون بموقعه الحالي، وانّ لديه عقلاً استراتيجياً، وليس تكتيكياً فقط كما يزعمون. والنقطة الثانية انّ خلافاته مع جاريد كوشنر صهر الرئيس على خلفية رفض مكماستر تجديد التصريح الأمني الذي يتيح لكوشنر الوصول إلى معلومات عالية السرية، لا تؤثر على انسجامه مع عقيدة الرئيس «أميركا أولاً» لـ»استرجاع عظمة أميركا». والنقطة الثالثة أنّ عقيدة ترامب التي هي مجمل طروحات ترامب خلال الحملة الانتخابية تحمل كمّاً هائلاً من العنصرية والجهل والطمع والكذب السياسي والغطرسة – غطرسة القوة – ترجمها مجلس الأمن القومي الى «استراتجية الأمن القومي – أميركا أولاً» بأسلوب أمني راق.

ولا بدّ من الإشارة أيضاً الى انّ ثلاث فئات تحكم الإدارة الأميركية: فئة رجال الأعمال النهمين ترامب وكوشنر وإيفانكا ترامب كوشنر الذين لا يرون دول الخليج العربية الغنية سوى أبقار للحلب، وفئة الايديولوجيين اليهودي الليكودي جاريد كوشنر وزوجته اليهودية المتعصّبة ايفانكا والانجيلي مايك بنس نائب الرئيس والانجيلية الوقحة نيكي هالي سفيرة الولايات المتحدة الى الأمم المتحدة . وفي هذا السياق، لا بدّ من الإشادة بالمجهود الكبير الذي بذله مكماستر وفريقه لإخفاء ايديولوجية «أميركا أولاً» ورميها في ملعب الواقعية. والفئة الثالثة هي فئة الجنرالات الذين لا يعرفون غير لغة القوة، أحدهم مُلقب بـ«الكلب المسعور».

«استراتيجية الأمن القومي» – أميركا أولاً

في 18 كانون الاول/ ديسمبر 2017، أصدرت إدارة ترامب وثيقة «استراتيجية الأمن القومي» الجديدة التي ستحكم علاقة الولايات المتحدة بباقي دول العالم، حلفاء وشركاء، خصوم ومنافسين وأعداء. فضلاً عن خطاب الرئيس والمقدّمة، اشتملت الوثيقة على أربع ركائز: 1 – حماية الشعب الأميركي وأرض الوطن وطريقة الحياة الأميركية، 2 – تعزيز الازدهار الأميركي، 3 – حفظ السلام من خلال القوة، 4 – تعزيز النفوذ الأميركي. كلّ ركيزة تغطي مجموعة من الجوانب وتستعرض كيفية مواجهة التهديدات والتحديات وكلّ ما يمسّ الأمن القومي للولايات المتحدة ويتحدّى تفوّقها.

تواجه الولايات المتحدة مجموعة من التهديدات والتحديات يتحتم على الولايات المتحدة مواجهتها والتصدّي لها بقوة، مستخدماً مصطلحاً جنونياً «التصادم الرأسي Head-on»، بدلاً من «استراتيجية إشراك الخصوم» التي ادّت الى تراجع النفوذ الأميركي خلال العقدين الماضيين. وجاء في الوثيقة، بينما كانت الولايات المتحدة تشعر بـ«الرضا» نتيجة للنجاحات التي حققتها لا سيما تحقيق الانتصار في الحرب الباردة، وبينما كان الشعور بالتفوّق العسكري «مسلّماً به» كان الخصوم يتقدّمون لمنافستها. ثم يأتي على ذِكر أربع دول هي روسيا والصين المتّهمتان بتحدي «قوة الولايات المتحدة ونفوذها ومصالحها»، وكوريا الشمالية «المارقة» التي تريد قتل ملايين الأميركيين، وطبعاً إيران الحاضر الدائم تدعم «الإرهاب» وتدعو الى دمار أميركا، واللاعبين «لا دولتيين»، الجهاديين بايديولوجيتهم الكريهة دون الإشارة الى أنها ايديولوجيا وهابية معروفة المصدر، وكارتيلات المخدرات الذين يقوّضون النظام الاجتماعي. وبما انّ إيران حاضرة، لا بدّ ان يكون حزب الله حاضر.

وبما انّ «الولايات المتحدة تتمتع بالتفوّق السياسي والاقتصادي والعسكري والتكنولوجي»، يجب الحفاظ على تفوّقها لأنّ المنافسة والخصومة التي تواجه الولايات المتحدة، كما جاء في الوثيقة، «ليست عابرة أو مشاكل آنية، بل تحديات طويلة الأمد». والمبرّر لأهمية الحفاظ على تفوّقها «أميركا الضعيفة تجلب التحديات، وأميركا القوية تردع الحروب وتعزز السلام». ولا ينسى مكماستر ان يذكرنا بانّ «المبادئ المؤسسة للولايات المتحدة جعلتها واحدة من أعظم قوى الخير في التاريخ»، مع انّ تاريخها يؤكد العكس.

الركيزة الأولى

حماية الشعب الأميركي وأرض الوطن وطريقة الحياة الأميركية. لم يأت العنوان كركيزة أولى اعتباطاً، بل لأنها أولوية الأولويات في ايديولوجية «أميركا أولاً». في هذا الجزء من الوثيقة تسعى «استراتيجية الأمن القومي» الى زرع أوهام تثير الرعب والخوف في نفوس الشعب الأميركي، خصوصاً انّ سلسلة المخاطر التي ساقتها الوثيقة لا تتحدّى التفوّق الأميركي والنفوذ والاقتصاد فقط، بل تهدّد أيضاً طريقة الحياة الأميركية والنظام الديمقراطي، لتهيئة الرأي العام الأميركي لتقبل حروب ترامب الايديولوجية، والصحافة الصفراء جاهزة لتسويقها كما سوّقت الحرب الأميركية الاسبانية، فهل نشهد حادثة شبيهة بحادثة «يو اس ماين»؟ ولا ننسى انّ ترامب عنصري بغيض يعتقد انّ القيم الأميركية متفوّقة على قيم المجتمعات الأخرى، خصوصاً الأفريقية أفريقيا حفرة أوساخ وشعوبها حثالة ، وشعوب أميركا اللاتينية عبء وحثالة، والشعوب الإسلامية إرهابية. هذه العقلية تؤسّس لحروب ذات طبيعة ايديولوجية فصّلها صموئيل هنتغتون في كتابه المثير للجدل «صدام الحضارات».

في هذا الجزء حدّدت الوثيقة سلسلة المخاطر وكيفية مواجهتها.

هاجس وصول أسلحة الدمار الشامل بكافة أنواعها النووية والكيماوية والإشعاعية والبيولوجية الى الإرهابيين لا يقلق الإدارة الأميركية كما توحي الوثيقة، بل يقلقها استخدامها ضدّ الولايات المتحدة، ويقلقها أيضاً حجم تجارة المخدرات والاتجار بالبشر. وهذا التهديد يفرض في المقام الاوّل تأمين الحدود والأراضي الأميركية من ايّ اعتداء أيّاً كان نوعه، واتخاذ إجراءات وقائية كتعزيز الدفاع الصاروخي ونظام القدرة على تدمير الصواريخ قبل إطلاقها، ورصد وتدمير أسلحة الدمار الشامل، وتعزيز التدابير الخاصة بمكافحة انتشارها، ومحاسبة ايّ جهة تستخدم أسلحة الدمار الشامل، دول أو منظمات. من يضمن عدم تسييس الاتهام؟ قضية خان شيخون لا زالت ماثلة أمامنا. مصداقية الولايات المتحدة في هذا الجانب تساوي صفراً.

لكن المقلق في الإجراءات الوقائية هي الذهاب إلى الحروب الوقائية المخالفة لميثاق الأمم المتحدة. تنص الوثيقة على ملاحقة التهديدات في مصادرها استخدم أيضاً «المنبع»، يقصد أماكن تواجدهم وإلا ستكون السعودية أول المنابع المستهدفة ، وسيتكفل الجيش الأميركي باتخاذ إجراءات مباشرة ضد المنظمات الارهابية، القاعدة وداعش وفروعهما، بغضّ النظر عن أماكن تواجدهم والقضاء على ملاذاتهم الآمنة، وقطع مصادر القوة ومحاربة ايديولوجيتهم «الشريرة» بفضح أكاذيبهم». كما لا يختلف اثنان على ضرورة محاربة الفكر التكفيري، لا يختلف اثنان على نفاق الولايات المتحدة. على مدى سبع سنوات مارس «جيش الإسلام» الوهّابي الإرهابي محسوب على السعودية ، المتمركز في الغوطة الشرقية، القصف العشوائي على دمشق، مستهدفاً المدنيين، ومارس الغرب الصمت المريب، مع انه لا يقلّ إجراماً ودمويةً عن داعش والنصرة وبوكو حرام، لكن الإرهاب ليس المعيار، بل الأهداف. عندما يتعلق الأمر بمصالح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والأجندة السعودية، يصبح الإرهاب ثورة والمقاومة إرهاب.

مع انّ الهجمات السيبرانية أمر واقع، الا انّ درجة التخويف تفوق الواقع لأنّ الهجمات تأخذ الطابع العشوائي، وفي الحالات المنظمة يكون التخريب لأسباب سياسية. الولايات المتحدة من أوائل الدول التي استخدمت الفضاء السيبراني للتخريب. في تعاون على الشرّ، طوّر خبراء أميركيون واسرائيليون حكوميون جرثومة فيروس أطلقوا عليها كنية «لهب» لجمع المعلومات، ويشمل برنامجاً تدميرياً اسمه «ستاكسنت Stuxnet» هو عبارة عن «برمجيات خبيثة Malware» لتخريب البرنامج النووي الإيراني. قام الخبراء الإيرانيون بردّ الهدية. ما أريد قوله في هذا السياق انّ الولايات المتحدة آخر من يحق له الحديث عن التهديدات السيبرانية.

في الجانب المتعلق بالكوارث الطبيعية او المفتعلة، تعترف إدارة ترامب أنها عاجزة عن منع كلّ المخاطر التي تواجه الشعب الأميركي، وهنا يتوجب تعزيز المرونة الأميركية، التحلي بالصبر، وحتى يكون لاستراتيجية «إثارة الرعب والخوف» المفعول المطلوب لا بدّ من وجود عدو يتحدّى نظام القطب الواحد، هنا يأتي دور روسيا، العدو التقليدي المتهم بمسعى «تقويض شرعية الأنظمة الديمقراطية». هذا الجانب من الركيزة الأولى بالتحديد مثيرة للاهتمام. يبدو أنّ حكومة ترامب تهيّئ الشعب الأميركي لأمر ما.

الخلاصة

هل انتهت ايديولوجية «العصا والجزرة»، وبدأ عصر «العصا»؟ استراتيجية الأمن القومي – أميركا أولاً لاسترجاع «عظمة أميركا» وتثبيت قيادتها المزعومة للعالم تضع الرئيس ترامب أمام اختبار حقيقي وصعب خصوصاً في اختيار الأدوات والزمان والمكان، وتضعه أمام تحديات تفوق القدرات المعنوية والأخلاقية للولايات المتحدة، ولولا كرم عرب الخليج لأضفنا العجز في القدرات المادية.

من الواضح انّ ترامب وإدارته غير قادرين على استيعاب انّ العالم قد تغيّر وانتهى زمن القطب الواحد، وعالم متعدّد الأقطاب قد انطلق من سورية، وخيارات الولايات المتحدة محدودة، أما الرضوخ لمبدأ القوة الرادعة مقابل القوة الرادعة او الذهاب الى المواجهة. يخطئ ترامب إذا ظنّ انّ الوضع في سورية يسمح له بأن تكون المحطة الأولى لحروبه المباشرة على محور المقاومة، يرتكب خطأً استراتيجياً لأنّ الشعوب تغيّرت باستثناء الشعوب القابلة للحلب.

المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى