بوتين من جديد.. يجب الإصغاء إليه!

سماهر الخطيب

شكّل يوم الثامن عشر من آذار، على الصعيد العالمي، يوماً تاريخياً وأظهر بأنّ القدر لا بدّ أن يُعطي كلمته ليسطّرها تاريخ البشرية الحافل بالنزاعات والصراعات، ومَن يمتلك القوة لديه الفرصة السانحة للتأثير في التاريخ، وبالنتائج للبرهنة على عظمته أو محدوديته.

لقد أثار دخول الرئيس السوري بشار الأسد إلى خطوط النار في الغوطة الشرقية صباحاً، وفوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية مساءً، الكثير من الصدمات ودفع الكثير نحو تضارب الخطط وإطلاق التوقعات، حول العظمة التي يتمتّع بها كلا الرئيسين في بلادهما.

وما سبق هذا اليوم من تصعيد ضدّ الروسي في المحافل الدولية وضدّ السوري يعكس التخبّط الذي يعيشه العالم اليوم بعد نصر الغوطة الشرقية التي أرادوها خاصرة رخوة تهدّد أمن دمشق، وبعد فوز بوتين لفترة رئاسية جديدة، فشكل هاجساً طالما تخوّف الغرب والأميركي من حدوثه وهو رجل القول والفعل.

والرئيس بوتين يحظى بدعم غير محدود في المجتمع الروسي، لا بل والعالمي. وهذا يعني أنه يستطيع بثقة متابعة مساره السياسي. وهو أعلن منذ توليه السلطة في عام 2000، عن استعداد روسيا للتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة في جميع المجالات، لكن بشريطة أن يكون هذا التعاون مفيداً وعادلاً لكلا الطرفين.

بَيْد أن الرفض الأميركي لأفكار التكامل مع روسيا توارثه الرؤساء الأميركيون الواحد تلو الآخر، وأرادوا الولايات المتحدة دولة متميّزة واستثنائية لا بديل عنها، بسياسات انتهازية ونرجسية.

وفي العودة إلى بوتين صاحب المعادلة الصعبة في لعبة التوازنات الدولية، الذي ما أن تسلّم دفة القيادة حتى بدأ العدّ التنازلي للعودة وتحديث روسيا لمواكبة القرن الجديد.

بحلول عام 2000 تنبّأ معظم مراكز الدراسات والصحف العالمية كمجلة الشؤون الخارجية الأميركية ولوموند والأيكونوميست وغيرها، بأن روسيا ستتمكّن من إزالة الضرر والتعافي للعودة إلى الساحة الدولية من جديد كلاعب قوي نال جرعات العلاج الشافي، كوريثة دولية «للاتحاد السوفياتي».

كما أكد بوتين في خطابه السنوي أمام الجمعية الفيدرالية الروسية عام 2005، بعد استعادة النمو والاعتراف بروسيا، «أن الحقيقة الواضحة هي أن تفكّك الاتحاد السوفياتي كان الكارثة السياسية الطبيعية الأعظم في القرن العشرين». وقد شكّل هذا التصريح إعلاناً واضحاً عن النية لاستعادة كبرياء الاتحاد الروسي المفقودة.

ففي عام 2007 وصفه فريق مجلة التايمز «رجل العام 2007». وها هو وبعد مرور عشر سنوات يصفه المحللون والخبراء الاستراتيجيون بل والرؤساء حتى «رجل العام 2017». ونذكر هنا ما قاله هنري كيسنجر عن بوتين، بأنه «شديد الوعي وفائق الذكاء» لا يتقبّل عدم المبالاة بروسيا والتهجّم عليها.

وما فعله طوال تلك السنوات هو فرض الوجود الروسي على الساحة الدولية، ليس كما أراده الأميركيون تحصيل حاصل ونائب فاعل، إنما فرض عين لا يمكن تجاوزه ولا يُستثنى فاعله ومفعوله.

وقد واصلت العلاقات الروسية الأميركية تدهورها، وبدلاً من التقدّم في توسيع المعاهدات النووية والبالستية.. كان إهمال هذه الأمور. وجاء إعلان بوتين الأخير عن تطوير أنظمة أسلحة استراتيجية رداً على انسحاب الولايات المتحدة من جانب واحد من معاهدة الدفاع الصاروخي المضاد.

وفي محاولة الأميركيين التقليل من أهمية العقيدة العسكرية الروسية التي «ستعتمد بدرجة أقل على الأسلحة النووية مقابل تطوير أسلحة غير استراتيجية»، معتبرينها مجرد «أقوال لا تعكس الأفعال». جاء إعلان بوتين أنّه «تمّ بنجاح إنهاء تجارب مجمّعات صاروخية عابرة للقارات فوق صوتية لا مثيل لها في العالم» تأكيداً على أن «الأفعال تعكس الأقوال».

وفيما يستعر التوهج الاستراتيجي الأميركي يرافقه لهيب التأهب الروسي لمواجهته، تحدّث الرئيس فلاديمير بوتين عن استعداد قواته المسلحة لكل شيء في مناسبات عديدة. إلا أنّ الرد في الأيام القليلة الماضية كان صارماً ومحدداً فإنّ «أيّ استخدام للأسلحة النووية ضد روسيا أو حلفائها ستراه كضربة تجاهها سيكون الردّ سريعاً».

كما ظهر ذلك جلياً عندما تكلم بوتين في ميونيخ في شباط 2007 في المؤتمر السنوي للسياسات الأمنية، حيث هاجم السياسة الأميركية بحدّة وكأنه يتكلم اليوم: «إننا نشاهد اليوم استعمالاً للقوة المفرطة غير المضبطة القوة العسكرية في العلاقات الدولية. قوة تُغرق العالم في جحيم من النزاعات الدائمة. نشاهد ازدراء أعظم للمبادئ الأساسية للقانون الدولي والمعايير القانونية المستقلة أصبحت في الحقيقة أقرب إلى نظام قانون دولة واحدة، وبالتأكيد وبالمقام الأول الولايات المتحدة التي تخطّت حدود وطنها في جميع الاتجاهات».

هذا الخطاب وفق برنت سكو كروفت، الجنرال الأميركي المتقاعد، كما ورد في «أميركا والعالم» انتهى بنداء لم يُولَ ما يستحقه من انتباه خاصة عندما وجّه بوتين دعوة للتعاون قائلاً: «الآن هو وقت التعاون. يجب أن نتعاون على الأسلحة النووية ويجب أن نتعاون على عدم انتشارها».

إلا أنّ تصريحات بوتين في الأيام السابقة بأنّ «روسيا لا تهدد أحداً ولا تخطط لاستخدام قدراتها العسكرية المتنامية للاعتداء على أحد»، جاءت في السياق نفسه إنما بلهجة شديدة تحثّ الغربيين على «التفاوض والإصغاء إلى التحذيرات الروسية».

وحتى الاقتصاد الروسي شهد نمواً مضطرداً وحتى أثناء اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 وضع بوتين روسيا على أقدام ثابتة.

كما عمل بوتين بجدّ على عزل آسيا الوسطى من أجل إبقاء الغرب قدر المستطاع خارج هذه المنطقة، حيث تقدمت العلاقات مع الصين وإيران باستمرار إلى أبعد مدى ممكن توّجت هذه العلاقات في ما بعد بمجموعة «بريكس» ومنظمة «شنغهاي» للتعاون ومشروع «طريق الحرير الجديد».

وأحرزت روسيا مكاسب تكتيكية واستراتيجية هامة إن كان على المدى القصير أو ذات المدى الطويل، كما دخلت الشركات الروسية إلى قطاعات اقتصادية هامة في الغرب مثل «لوك للنفط» التي تملّكت «فيني أويل» في الولايات المتحدة بجميع أصولها.

لم يسترجع الاتحاد الروسي تحت إدارة بوتين فخره واعتزازه فحسب، بل زرع الأمل والثقة بالمستقبل وجعل روسيا، كما وعد أحد أعضاء الدول السبع الكبار بوقت أقصر مما توقّعه الآخرون لتغدو رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه رغم العقوبات الاقتصادية التي يفرضها الغرب مع أميركا بين الحين والآخر.

فهل ستصدق تحذيرات زبيغنيو بريجنسكي في كتابه «رؤية استراتيجية» عن ميل ميزان القوى من الغرب باتجاه الشرق؟!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى