الشاعرة اللبنانية فاطمة منصور صوَر الإقامة بين معنَيَيْن

أحمد الشيخاوي

هذه الفراشة تسبح في الضوء، وما تنفكّ تجترح لذاتها حظوظاً ضمن حدود الكتابة الأنيقة التي تنمّ عن صدق وحرارة التجربة، فهي لا تغري بالقول الشعري فقط، بل تمارس كتابة واعية تروم من خلالها مراوغة الأنساق وخوض مقامرات اللاشكل على نحو يضفي على بوحها شفافية وهشاشة آسرة لجوارح التلقّي، ممهّدة لصعقة المابعد، مُقَوْلبة تبعاً لانسيابية إيقاعية تحاول تدشين صور الانتصار على الذات والغيرية والحياة.

راكمت فاطمة منصور نتاجات ضاجّة بتيمات الرومنسي مغلّفاً بفلسفة تأويل منظومة مفاهيمية والج في جملتها الاستنطاق الهوياتي إذ يمتح من مرحلة قبلية يتحفظّ عليه إلى حدّ أقصى، واقع الحرب الأهلية، بما هو نظير أو محاكاة لثورة خفيضة تلبس حمّاها الذات الإبداعية،وتكرّس لانفلاتات هذيانية تجري على ألسن الحالة الواعية، تجيء على مقاسات معاناة مختزلة تغذّيها كتلك خلفيات.

تعدّ مجموعة «من وحي القيود» باكورة شاعرتنا، وهي بعتبة مزلزلة، لا شك، ومحيلة على أيقونة هواجس ودوالّ تفيد توريطنا بلعبة كلامية تتغيا انفتاحاً كلّياً على معطى الحرّية في أفق النسبية بالطبع.

إنها تفتح جرحاً قديماً بغرض التنفيس، ومنح صياغات جديدة للمكوّن الماضوي، من شأنها أن تقحم الذات والآخر في مسرح استعراضي لتاريخ قد يعاقبنا على أخطائنا بالطبع، بقدر ما يتيح لنا مساحات للتملّي وقطف الحكمة والعبر.

خطابة لا تتواني في استدعاء الرّمز الديني والموروث والخرافي والهامشي والمعطل، تضرم أولى شراراتها، لتوهمنا بما يشبه الخفوت في لبوس العاطفي المناور بسحر المفارقة وتكثيفها باعتماد معجم يسرف في الشوقيات.

وثيرة لا تتصادى مع عدا الصوت الداخلي في قسوته الناعمة و قوته وارتكازه على وقود النواة الأولى متجسّدة في هموم وأوجاع الوطن، تبلورها شاعرتنا على طريقتها دونما تكلّف ولا اجترار، تطوّع به واقعها الشعري، ما بين أنوثة الشمس وشمس الأنوثة مقعّدة لثقافة الأمل والحياة ومنطق الانتصار مثلما أسلفنا، وفحولة الغيم، كعنوان أبرز لهذا المشروع الإبداعي، مناغياً بمكر البياض وأيروتيكية المحذوف، ووقفاً على سيميائيات الخصوبة والنضارة وفوق ما في الحياة من اشتهاء واشتعال ورواء.

بدل أنثى، نجد فاطمة وقد وسمت ثاني إصداراتها بـ«امرأة» من فصيلة الشمس، ربما لكون المفردة الأخير أشمل وأحوى، وأقدر على امتصاص رعب المشهدية التي خلّفها ويخلّفها منطلق ما ثمّ التأسيس والتبئير عليه ذي بدء، من رواسب للفوضى والدموية والخراب والتطاحنات الأهلية بالأساس، وسائر ما ينبني عليها من طقوسيات للجنائزي، هي في حاجة لمعايير شعرية تعاود صناعتها وتحويلها إلى طوباوية يجترّها صمتنا الحكيم، وتوغل في بسط ثقافة الانتصار والاتعاظ والحياة.

«امرأة من فصيلة الشمس» لوحة كلامية منّت بسماكة خطاب الغزليات، وبالغت في الإسكات التدريجي مستهدفة جوانية الذات، لأجل خفض نبرة أو لهجة الثرثرة بالمتون التي اشتغل عليها الديوان الباكورة.

لكن ظلّت النواة هي هي، ولا تمكن سوى دورة التأويل الكاملة، والعود الحلزوني، قراءة وتمحيصاً، من إتاحة حظوظ اسكناه مرجانيتها الممانعة الغائرة جداً.

كونها تضع أصبع المعالجة على خطّ أحمر اسمه وطن.

توجّه سوف يقودنا إلى المؤجل الذي أفشته وفكّت شيفرته الأضمومة الحديثة للشاعرة فاطمة منصور، تحت لافتة «أنثى على غيمة»، لتنرسم تباشير نضج الحكي، واختمار التجريبية وانجذابها إلى نصانية الشبحي أو المحايثة والتوازي، بحيث تهيمن الثنائيات وأطراف التضاد والمتقابلات، حتّى ليغدو الشيء وضديده ألمع بروزاً ضمن توليفة دامغة للتنافرات التركيبة والدلالية، ومعرية لفضاء الاستطيقية ونجاعة التمريرات الرّسالية والبعد الحجاجي.

لنتأمل التدوينات المستقاة الموالية:

خلف نوافذ بحر هادئ الطباع

تبحث أنظاري

عن بقايا مدن

يرمقها المساء

بين حين… وحين

مدن لا يجلدها البرد

ولا يرجمها الفراق

ولا يسكنها الضجر

يثمل البدر من تموّج بحرها

ويبكي على أشجانها المطر.

إنّ الحبيب

عند الموقد الخشبيّ

ينتظر

في مدن يضيئها الدفء

وحنان ذراعيه

يقف العمر كلّه

دافئاً بالكلمات.

قالها

وغمز برمش جفنه

لا تفردي شعرك

سأعود…

لأعدّها

وما زال يعدّ أصابعه.

وأكتب ما يحلو لي من النهايات

أسجنك تارة بين أسطر حكايتي

واترك فراغاً طويلاً في مساحات سطري

وأحرّرك… عارياً تهرب إلى الأحداق.

أرتّب أزرار المساء لبقايا من الرغبات

وابحث في سماء العشق عن قلب ملتاع

فافتح زوايا المرايا ليخرج منها الليل

عسى أن أضيء عتمة باردة.

يسألونني

من هو… هو ذلك الذي

لا يحمل في حقائب أسفاره

سوى قبلاتي

ورائحة عطري

حين يمضي…

له شاغر… أقصى.

اشتاق

اشتاق

ومض النور

من عينيك

يمنحني

وقوداً

كي أعود إلى الحياة.

هي كتابة غياب، صارخة بالصوَر والمعجم والإيقاع، بفعل تترجمه عزلة مضاعفة واغتراب داخل اغتراب، بما يظهر الذات محمولة على روح السموّ والعنفوان والانتصار للإنسانية والحياة.

إذ ليس ثمّة أكثر من خيط رفيع بين جهات المعني الأول الذي هو الوطن، وقرينه إذا شئناً، الحبيب منزوياً ورافلاً في مثاليته وزئبقية محطات اصطياده والظفر به خارج تخوم الرمزية والتدويرات الاستعارية منقوعة في سلسبيل المجاز مسخّرة له المفردة المتقاة بدقّة وحيطة وعناية، ما يشكّل رافعة للقول الشعري، وناسجة لخيوط اللعبة الكلامية خارج الزمان ومصبغة عليها من ذاكرة المكان، دونما تنميق ولا مواربة.

شعرية طاعنة بصوَر الإقامة بين معنَيَيْن، تحاول أن تسرق من طباع الخلّ والوطن، ما يحقّق دهشة التلقّي، ويتخطّاها إلى بعد تنويري، وإرسالية خطابية حجاجية تنزع نحو أفق التأصيل لثقافة حياتية منصهرة في روح الانتصار ومدغدغة بمشهدية الولادات الثانية.

للقيد وحيه، يا أنثى الشمس والغمام، تسكبين الضوء قصيداً في كؤوسنا العطشى لمعسول الأنهار الأخرى، وتلوّحين، أجل تنعتين ولا تسمّين، مفجّرة شلالاً غاضباً من معنى المائيات المغرية بالتمرّد على القيد وكسر الرتابة نحو انعتاق أبدي وحرّية منصفة تفتح الجرح العربي على معنيين مختزلين في معنى قصيدة تحملنا من دون أن نحملها، تناغي المهج بمعادل الانتصار نرضاه راحاً لعقولنا المتعبة، وإلّا فنحن العاطلون عن حياة لا تساوي أحلامنا الذبيحة المشروعة.

وله فاطمة دام، تعشّقها للقصيدة ومصير الانكتاب شعراً ضرورة وجودية ملحّة، يتقاسم نكهة جودها المرسل، على حدّ سواء، الوطن والحبيب كعنصرين فارقين غائبين حاضرين.

شاعر وناقد مغربيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى