العبودية والعرب تاريخٌ طويلٌ من الذلّ

د. رائد المصري

بهدوء… وبتمعُّن للتبصُّر في الحال العربية ووعيها الجَمعي من دون أن نُسقِط عنها عبودية نظامها الرسميّ وتبعيته التاريخية للغرب الاستعماري وهذا مسلَّم به منذ أكثر من قرن من الزمان، فما يهُمّنا في هذه التوطئة هي الحالة الشعبية والجماهيرية العربية التي استكانت وهَمَدت وتخدَّرت منذ أربعة عقود، رغم الممارسات المُشينة من الغرب الاستعماري و»إسرائيل» وارتكاباتها لكلِّ المُوبقات والانتهاكات بحقِّ الإنسان العربي في أرضه وعرضه وكرامته، التي خصَّه الدين الإسلامي الحنيف بها وجعله في حالة استحضار واستنفار دائمين للوقوف في وجه الظالمين والطُّغاة والسلاطين على مرِّ التاريخ… لكن يبدو أنَّ الكَبْت الديني والاجتماعي الذي مُورس على الإنسان العربي منذ مئات السنين جعل منه مطيةً ودمية فاقدة أيِّ شعور بالانتماء الوطني أو الديني أو القومي، وإلاَّ فما معناه اليوم أنْ يقف الشعب العربي متفرِّجاً مستكيناً ومسلِّماً رغم كلِّ الحوافز والتأثيرات المحيطة به؟ ولماذا هذه الاستكانة والخنوع لشعوب حرَّضها الدين على رفع الظلم وأعطاها بُعدُها القومي الطابعَ الشخصيَّ التحرُّريَّ المستقلَّ…؟؟؟؟ إنّها العبوديّة بكافة عناوينها ومضامينها….

إنّها حركة وثقافة الإنتاج التي طَبعَت الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، بدءاً من صحراء نجد والحجاز، ونمط البداوة في التعامل مع الآخر الذي تحكُمه الأنانية الشخصية والولاءات السياسية العمياء بالموروث الديني والعائلي، والمطبوعة بنظام الرَّيْع الإنتاجي الذي تجعل من هذه المجموعات السكانية رعايا لا مواطنين وأتباعاً لا حقوق لهم ولا وزن اجتماعي لهم وبلا تأثير في الحياة العامة….

وفي بلاد الشام مُلتقى الحضارات والتلاقي والتبادُل التجاريّ والتصنيعيّ، القائم على المصلحة الربحية الخالصة، والنمط الزراعي السائد في سورية والعراق بالتحديد، ما يجعل ثقافة العيش فيهما أقرب إلى القبول بالمسلَّمات التاريخية عن طريق الاستبداد السلطوي، لأنَّ طبيعة النظام الإنتاجي الزراعي وفيضانات الأنهار وتوزيع المياه والأرض والخيرات، كانت دائماً تتطلَّب سطواً وسيطرة وبطشاً من الحاكم المستبدِّ لحُسن سير الإنتاج ومسيرة عيش الرَّعية من دون تخطيط أو ابتكار لرسم مسار التحرُّر والاستقلالية في الذات الإنسانية…

والمسيرة التاريخية واضحة في بلاد النيل ومصر وفراعنتها من خلال الاستبداد والكَبْت والظلم، ومن حيث الإنتاج الاقتصادي الزراعي والاستعباد والاسترقاق التاريخي الذي خضعت له شعوبُها في أرض الكنانة، في مسيرة مجبولة بكيِّ الوعي الديني ليُزادَ عليها طمسُ الوعي القوميّ الحضاري، الذي أرساه القائد التاريخيّ جمال عبدالناصر، كما أرساه من قبل الزعيم والمفكِّر أنطون سعاده، واللَّذان صوَّبا على نقطة الخلَل التاريخية في الصراع المتمثِّل بوجود الكيان الصهيوني الذي يستمدُّ سطوته من حال التفرقة والتجزئة والتبعية والتخلُّف لمحيطه العربي كشرطٍ لازم من شروط بقائه واستمراره في مسيرته وبقائه ككيان مشوَّه بالأصل…

وفي استعراضٍ أوْجُه الشَّبَه في أنماط الإنتاج الاقتصادية بين بلاد العرب وبلاد جنوب شرق آسيا، من حيث التماثل ونظام العيش والكبْت التاريخي والاستبداد المؤسَّس على ضبط الوعي المجتمعي الزراعي، فهي نفسها لكن من دون التأثير الديني والموروث الاجتماعي القبلي والبدوي، بل على العكس فإنَّ الإسلام كان متقدّماً وثورياً أكثر من المنظومات الدينية الحاكمة في بلاد آسيا وبحر المحيط الهادئ. ومع ذلك لم تهدأ الحركة السياسية والدبلوماسية الأميركية من اللُّهاث والركض لأجل إقامة التسوية مع كوريا الشمالية المحاصرة منذ عشرات السنوات، أما في المقلب الآخر وفي منطقة الشرق الأوسط فإنَّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يريد الانسحاب من الاتّفاق النَّووي الإيراني ويريد مُحارَبة إيران بِالإنسان العَربي وبأمواله.. فأين الخلل هل هو في العبودية الدينية أم التاريخية أم في عبودية الإنتاج والوعْي العربي في بلاد الشرق؟؟؟؟

بعد العدوان الخُماسي الغربي الاستعماري على سورية عقَدنا الأمل على الشعوب العربيّة، بأنْ تنطلق التظاهرات المُندِّدة بهذا العدوان ضدَّ سيادة بلد عربي، أقلَّه في بعض عواصم بلاد الضادّ، من أجل توجيه رسائل لأميركا، هذا العدو التاريخي للعرب ولفلسطين، ولكن خيبة الأمل كانت كبيرة ومتوقعة. فالشارع العربيّ بوعيه الجَمْعي الْتزَم الصَّمت المُطْبق ولم يكن بحجم مُستوى الحدث، وعليه اليوم فإنَّ الأنظمة ومعها الشعوب العربيّة هي في نفس وقلب التبعيَّة المُطلقة للسيّد الغربي الاستعماري وربيبه الصهيوني، ولذلك كان الأفضل والأجدى للجامعة العربية التي تعامَت عن التطرُّق للعدوان الاستعماري على سورية بأن تؤيد هذا العدوان وتُعلن عن تصفية القضية المركزية للعرب في فلسطين لنبني على الشيء مقتضاه، ولتكتمل عناصر ومُخرَجات العبودية والذلّ في هذا الشرق المحمَّل بكلِّ هذه المآسي والويلات….

الولايات المتحدة الأميركية بسياساتها الاستعمارية وخلال الأعوام القليلة الماضية عَمِلت على ابتزاز كلِّ البلاد العربية وخاصة دُول الخليج: ماليّاً وأمنيّاً وسياسياً وعَسكرياً، وذلك على مَدى سنوات في الأزمة السورية، وسنوات أخرى مثلها في ليبيا، وسَنوات في اليمن، ولم تشبَع بعدُ من المال العربي، ولم ترتوِ بعد من الدَّم العَربيِّ… أوليست هذه هي العلاقة ما بين العبودية والعرب والذلِّ منذ التاريخ القديم وإلى اليوم؟؟

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى