النقد العلميّ ودوره النهضويّ

أمين الذيب

ما زالت مسألة النقد العلميّ، لإنتاجنا الأدبي، حاجة مُلحّة يقتضيها سياق التطوّر الإنساني. وتقتضيها أيضاً حالة المجتمع الذي يرزح تحت أعتى هجمة استعمارية تكفيرية، تهدف إلى تدمير الحضارة والتاريخ والشخصية المجتمعية، وتسعى إلى تفتيت وحدة المجتمع دينياً ومذهبياً وإثنياً، بهدف الهيمنة على ثرواتنا، وتخوض لذلك أشدّ الحروب فتكاً وقذارة كي تحقّق أهدافها وأطماعها.

الموسيقى والشعر والأدب والفنون، هي روح الأمة والمُعبّر عن روحيتها والدافع إلى تطوّرها وتقدّمها. لذلك وجب أن نؤكد على أهمية أن يلعب النقد الموضوعيّ دوره النهضويّ، من خلال العمل على إطلاق آليّاته التي من شأنها أن تفصل بين النصّ الأدبيّ الأصيل، والنصوص التي لا يمكن أن تقدّم أيّ عمل جوهريّ من شأنه أن يرفع روحية المجتمع لوقوعها في التقليد واجترار الأفكار المطروحة والمتمسّكة بماضويتها، حيث تستكين في السائد السهل، والذي لا يتطلّب أيّ جهد أو مغامرة إبداعية متجدّدة.

قد يكون الاعتقاد باستمرارية الماضي، لكماله، بنظر معظم النقّاد الذين تنوّعت مدارسهم النقدية، هو ما أعاق الثورة الفكرية، كون النقد بكينونته ليس إلا فكراً مُستشرفاً، يرى إلى الواقع جوهره ومعنى الحدث، لا الحدث بحدّ ذاته، وإلا صار مترجماً للواقع وهذا لا ينطبق على الشاعر الثوري، كأن يكتب عن الواقع إنما برؤيا الاستفادة التجاوزية التي تقود إلى المستقبل المُتخيّل.

ومن أهمّ المآخذ على المدارس النقدية، أكانت بنيوية أو واقعية، أنها لم تستطع محاكاة الظواهر الفنية والاجتماعية، فوقعت في مطابقة النصّ مع الواقع، من دون أن تستنبط الاستحالة بين الإبداع المتفجّر من الواقع والواقع نفسه. كما أنها من ناحية استتبابها بالنمطية لم تلحظ ولم تُعنَ بتفجّر الأشكال أو بالدلالة لظاهرة تجدّد الشكل. كذلك من المآخذ المهمّة أن العملية النقدية أغفلت لقناعتها باستتباب القيم، النواحي الروحية في الشعر، فتراخت في الغوص بالمكبوت عند الشاعر وتجلّياته الرمزية خاصة في ملامحه الدينية والنفسية والتي تشكّل حيّزاً هاماً في القصيدة. كما أنها لم تُعنَ إطلاقاً بنسبية الاستقلالية الشعرية عن المعايير المجتمعية السائدة وتغيّراتها الضرورية.

لقد أهمل النقد حركية النصّ، عندما اعتبره حيوية منتهية حين الفروغ من كتابته ولم ينظر إليه قط بأنه مشروع مستقبلي، لعدم قدرة النقد على الانفتاح على القارئ المقبل، الأجيال الجديدة، وكان الشاعر لا يقصد مخاطبته فحرم القارئ المستقبلي الذي ربما سيقرأ النصّ بلغته آنذاك، وربما سيعدّل بحسب ثقافته ومفاهيمه ما يتلقّاه من الشاعر.

وأيضاً نرى أن العملية النقدية السائدة أو الماضوية، نظرت بشكل ممنهج إلى القصيدة على أنها انعكاس لما يحيط بها وليست حيوية وفاعلية لها أبعادها ومضامينها ونسيجها الكلامي كبنية لغوية ـ جمالية فتفقده عناصر اكتماله وسعيه إلى الاستنباط والإبداع. ربما كان للنقد موقف مُسبق من مسألة التجاوز والتجديد، لذلك تغاضى عن دراسة الأشكال الشعرية الثورية وما هي دلالاتها البنوية. فكلّ فكر جديد يحتاج شكلاً جديداً في عملية التوازن المعرفي. فالبنية الشكلية ـ الفنية الجديدة هي نتاج إرهاصات وتصدّعات في الواقع السياسي الثقافي الاجتماعي الاقتصادي، لذلك إنّ فهمنا للواقع الجديد ـ بمعنى دائم التجدّد ـ يحتّم علينا ابتكار الأشكال المتماهية مع الفكر الثوري.

ومن اللافت جدّاً، إذا قارنّا بحثياً بين المفاهيم البحثية العربية خاصة في صدر الإسلام وما كان عليه، نجده مقارنة مع الراهن قد تراجع في الوقت الذي كان ينبغي أن يكون أشدّ جرأة وانفتاحاً، نجده أكثر انكماشاً ومحافظة لم تعد مألوفة أو قابلة للحياة في عصرنا وزماننا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى