«سعدية» تتخفّف من سلطة التابوهت بعد تجاوزها عيون الرقيبَيْن!

محمد المشايخ

تمتاز رواية «سعدية» لكاتبتها الأردنية آسيا خولة عبد الهادي، عن غيرها من الروايات المحلية، باستحضارها الطبقات الاجتماعية الأردنية بكل شرائحها وفئاتها، والتي تتمثل في الطبقة العليا التي تضمّ فئة الأغنياء، والطبقة الوسطى التي تضمّ متوسّطي الدخل، والطبقة الدنيا التي تضمّ فئة الفقراء، ويتخلل هذا الاستحضار الطبقي، سرد روائي، واستعراض لوجهات النظر التي تمتلكها كل طبقة عن الأخرى، عدا عن الحوار، والمونولوجات الداخلية، التي تنتصر فيها الرواية لعالم الفقراء، مبرزة ما يتعرضون له من ظلم، وما يُمارس عليهم من فساد إداري ومالي.

وفي هذه الرواية، كتابة نسوية بامتياز، المرأة تكتب عن المرأة، في غناها وفي فقرها، في عزوبيتها وفي زواجها، المرأة عندما تكون ربة بيت وسيّدته، أو خادمة في بيوت الآخرين. وأمام هذه المفارقة البلاغية بامتياز، لم تفصل الروائية بين المرأة والرجل، إذ ثمة تكامل، وحبّ يُطوّق أعناق الجميع، باستثناء الرجال الذين رأت الروائية في تصرفاتهم خروجاً عن سياق الأدب والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية.

ثمة ذاكرة قوية تمتعت بها المبدعة، مكّنتها من الإمساك بجميع خيوط الرواية رغم كثرتها، والسير معها خيطاً خيطاً، حدثاً حدثاً، وشخصية شخصية، رغم كثرة الخيوط والأحداث والشخصيات، والوصول بها إلى النهاية المنشودة، عند تحويل الخادمة إلى سيّدة.

في الدراما يُمنع الروائي من التدخل في أحداث روايته، ولكن آسيا عبد الهادي، كانت تجعل بطلة الرواية «سعدية»، تُفضفض لزوجها «أحمد» بكل ما يجري، لم يكن الزوج يختزن المعلومات، بقدر ما كان يشارك في إبراز ردّ فعل الروائية على لسانه إزاء أحداث الرواية.

وفي موقف آخر تتدخل الروائية لتنهي عمل بطلتها «سعدية» لدى سيّدتها «أمّ فادي»، ذلك العمل الذي استغرق حوالى مئة صفحة من الرواية بأن غيّرت رقم هاتفها، كما تدخلت الروائية مرة ثانية وأوقفت السرد فجأة لتعلم القارئ بأنّ «سعدية» انتقلت مالكةً لمنزل «أمّ زياد» الذي دخلته عاملة قبل سنوات، واستغرق عملها فيه حوالى مئة صفحة أخرى من الرواية.

البيوت أسرار، و«سعدية» تمتلك كنزاً من الأسرار، غير أن مشكلتها، لا تكمن في ما ترى وتعرف، بل في أنها لا تستطيع التغيير، ومهما بلغت الذروة في الموقع الاجتماعي إلا أنها، وكما تقول عن نفسها مهما طلعتِ أو نزلتِ، فأنت مجرّد خادمة، لو نطقت بكلمة ممّا ترين وتسمعين لبهدلت نفسك . وفي موقع آخر سعدية مجرد عاملة حمامات في مدرسة أو خادمة في منازل الأكابر .

في هذه الرواية الفردية المرتبطة بشخصية بطلتها «سعدية»، يبرز التزام آسيا عبد الهادي بالهموم الوطنية للأمة، عبر القضية الفلسطينية، فمنها تنطلق، وإليها تعود في كل المواقف، تتحدث عن المُعذّبين في المخيم، عن اللجوء، وعن الهجرة القسرية، عن حق العودة، وعن رفض التعويض، عن المقاومة، وعن الكفاءات التي يمتلكها المخيم، كل ذلك يجري، والروائية مدركة للفروق الواسعة بين إبداع الرواية، وبين كتابة التاريخ، ومن هنا كانت كتابتها بعيدة عن التسجيلية والاستعراض، وإن كانت قريبة جداً من المباشرة، ولكن من دون السقوط فيها.

تخلّل الرواية توثيق لبعض السلوكيات الاجتماعية الدينية التي لم يتطرّق إليها أحد قبلها في فن الرواية، من ذلك ما جاء في الرواية: «مدّت أمّ زياد يدها للسلام عليه فوضع يده على صدره ناحية القلب علامة الاعتذار عن السلام».

ورغم ابتعاد آسيا عبد الهادي، عن كل ما يميز الكتابة النسوية عن الذكورية، إلا أنها كانت تقع أحياناً فريسة بعض الألفاظ الخاصة بالمرأة، ومن ذلك قولها: «سعدية الزمن جار عليها وعلى أهلها».

اضطرت الكاتبة في روايتها لاستخدام العامية، وبقدر إتقانها الفصحى، إلا أن بعض المواقف كانت تتطلب منها استخدام ألفاظ غير فصيحة لتلائم الحالة أو الموقف الذي تعالجه، تقول آسيا عن بعض أبناء الحرام: «ناس عايشين سلبطة».

امتازت هذه الرواية بالنّفَس الطويل لمبدعتها، فجاءت وقائعها متتالية، دونما فصول، بل دونما نجوم تبيّن الحدود الفاصلة بين بعض الأحداث المفصلية فيها، ثمة تداعيات ومونولوجات، واسترجاع زمكاني للذكريات، وتسلسل منطقي لتطوّرها، يبدأ من الصفحة الأولى وينتهي في الصفحة الأخيرة 231.

تتطرق الروائية إلى البارسيكولوجي، فالزوجة تعلم أن أمراً سيحدث لزوجها قبل وقوعه قلبها ينذرها بخطر داهم ، وبالفعل يموت الزوج، وتنتهز آسيا عبد الهادي تلك الواقعة، لتشيد بالشجاعة وبالنخوة وبالمواصفات النادرة عند بعض الرجال، فسائق الباص يطير منه في أثناء قيادته، لكي ينقذ سيدة وابنيها من أمام سيارة أخرى كانت مقبلة على وشك دهسهم… يموت هو وتحيا المرأة وابناها.

ولعلّ الروائية كانت تدرك ما يتعرّض له المبدعون الذين توقفوا في الماضي عند الشخصيات السلبية، ومن هنا جعلت كل شخصياتها تتطوّر وإن كان حتف بعضها الموت قبل أن تتحقق أهدافها وآمالها، فالكنترول والخباز والحلاق، وغيرها من شخصيات الرواية، كانت لها مواقف إنسانية شجاعة، وسرعان ما تجاوزت فرديتها لتقدم مآثر جعلتها أهلاً للخلود.

تجاوزت آسيا في روايتها الرقيبَين الداخلي والخارجي، فكتبت على راحتها بجرأة وانطلاق، من دون أن تصطدم بأقانيم الدين والسياسة والجنس، وفي مواقف كثيرة يشعر القارئ انه يطالع لقطات ومشاهد سينمائية، أكثر من مطالعته لمادة مكتوبة، ومن هنا، أؤكد أن معظم روايات آسيا جاهزة للتمثيل فيما إذا أعد لها السيناريو الخاص، هذا عدا عما في روايتها هذه من لوحات تشكيلية بصرية، امتزجت فيها روعة الوصف المادي، مع المشاعر والأحاسيس والعواطف المعنوية.

الرواية ليست مادة للبحث ولا للدراسات، ولكن وبكل فنية وثقة عالية واقتدار ناقشت الروائية فيها مشاكل الجامعات وانخفاض مستوى التعليم وتحوّله في بعض المواقع إلى تجارة، حرمان بعض المتقدمين في الثانوية العامة من مقاعدهم وفوز آخرين من ذوي المعدلات المتدنية بها، وتوقفت عند النهب الذي يجري في سوق الأسهم، ودور الواسطة في حرمان أصحاب الحقوق من حقوقهم ومنح تلك الحقوق لآخرين، هذا عن أكل مال الحرام، ونهب ثروات الفقراء الأبرياء.

ثمة روائية تبدع، وذاكرة لا تنسى أدق التفاصيل، ثمة مواقف صغيرة، وأخرى كبيرة، تسردها الروائية بحميمية تتلاءم معها دفئها، وبِحُكْم القضاء والقدر، تعيد الإنسان الكبير إلى حجمه الاجتماعي عند انتهاء المبرّرات التي أوصلته لتلك المرحلة.

آسيا عبد الهادي، الروائية المبدعة الملتزمة بهموم أمتها، وبأرق جماهيرها، تضيف إلى المكتبة العربية رواية جديدة بعنوان «سعدية»، وذلك بعد رواياتها: «الحب والخبز»، «سنوات الموت»، «الشتاء المرير»، «غرب المحيط»، و«بكاء المشانق».

في رواية «سعدية» مقارنة بين الأوضاع المعيشية الصعبة لقطاعات واسعة ممن يعيشون في المخيمات حيث الفقر والمرض، وبين من يعيشون في المناطق الراقية، ولا يُغنيهم مالهم عن حماية أبنائهم وبناتهم من ارتكاب المعاصي وممارسة الأذى بأنفسهم وبالآخرين.

المرأة «الخادمة» في هذه الرواية، هي العين التي تنظر لبيئتها ولكل البيئات، تشارك الآخرين أفراحهم وأتراحهم، وتشاهد اقرب الناس إليها وهم يموتون مرضاً وحزناً وكمداً، وتتعرض هي نفسها للمصائب والويلات ومحاولات الاعتداء الجسدي والمعنوي عليها بصفتها «الخادمة»، غير أنها ضمن تطوّرات شخصيات الرواية، تُصبح سيدة مجتمع تعود لمدرستها لتسجيل أبنائها بها بعد أن كانت تعمل على تنظيف حمّاماتها.

هذه رواية غنية بالتفاصيل الاجتماعية، والوخزات السياسية التي تخصّ الأفراد نساء ورجالاً، مثلما تخصّ قطاعات واسعة ومؤسسات جماعية. رواية فيها إطناب، ولكنه ضروري، لما يبعثه من تشويق وجاذبية ودافعية للقراءة، ولأنه يكشف النقاب عما يجهله الناس عن أنفسهم وعن الآخرين، في المؤسسات الخاصة والعامة، في التربية والتعليم وفي القطاعات كافة، وأجمل ما في أسلوب الروائية آسيا عبد الهادي، هو التأثير، الذي لا يشد قراءها للمطالعة فحسب، بل لا بدّ من ذرف الدموع عند المآسي البشرية التي تستعرضها، وأخطرها في الرواية تلك المتعلقة بموضوعات الاتجار بالبشر، وبالحبوب المخدّرة، والأعراض.

ناقد أردنيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى