أوطان حروبها كذبة… مشاع لعابري السرير!

طلال مرتضى

في المدى المجدي للرؤية، كلّ شيء يشي بأن هذا الهدوء المتخم بالرهبة تختفي تحت عباءته عاصفة هوجاء رهيبة. من بعيد، يرصد الرائي كلّ التفصيلات بوضوح ومن غير مواربة. من مكانه حيث يقف يمكنه فكّ أكواد الحكاية من ألِفِ قيامتها إلى نون سكونها.

كلّ شيء تماماً تحت السيطرة الكلّية، الإحداثيات صحيحة مئة في المئة. بالمعنى الأعمّ اللعبة مكشوفة، أما الخسارات فيحدّدها الشخوص الفاعلون على تضاريس المكان، نعم. هي بدعة الحكاية تقوم من دون النظر إلى الخسارة أيّاً يكون طعمها وحجمها المعلوم، هذه محصّلة يدركها كلّ من يمتهنون لعبة البيضة والحجر.

لكن السؤال الهامشيّ لم يعبر من هنا عبثاً أو متخفّفاً من إثم ما يدور في المكان بعيداً عن احتساب علامة الوقت والتي تعني للجميع في مجاميع النقد، الوقوف عند حدّ الزمن في الكتابة. هنا الحكاية مختلفة بكلّ دالّها ومدلولها البعيد والقريب، البعيد حيث يقف الرائي كطرف ثالث، شاهد عيان مطالب بقول الحقيقة، الحقيقة الكاملة لا سواها من دون زيادة أو بهتان، أما القريب فهما طرفا المعادلة في لعبة الحرب، وبمجمل النهايات والإشارات التي نفتعلها لخلق ضوضاء بعد هدوء العاصفة، ممن نطلق على أحدهم لقب رابح والتالي لقب خاسر. نعم. هو قانون اللعبة، خاسر ورابح، القانون الذي يفكّ أسر الأسئلة من دون حرج منذ مطالعها. هل كان الخاسر والرابح يريان ما كنت أراه قبل أن نحدّد أياً منهما الرابح وأيهما الخاسر؟

لست أدري، يقولون في ما قرأنا ورضعنا من أمهات الكتب من حبر، إن العين الثالثة هي الثاقبة ونظرتها لا تخيب. ومن منطلق تالٍ، للبعض وجهة نظر مغايرة من حيث المقولات المدوّنة كبوابات أو عتبات عالية لخلق حوارات بأصوات عالية يفتعلها محلّلو السياسة، على سبيل المقال ليس إلا، أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم، بالتأكيد هذه مقولة يمنّي الفارغون من داخلهم بها أنفسهم، أو يحتسبون بها نصراً معنوياً يقي ماء وجوههم لحظ الاندحار. ربما الأقرب إلى الواقع مقولة القائل، من يكرّ أولاً يحصد كل جوائز النصر. من خارج نصّ الحكاية، لي كلمة مغايرة في هذا الفصل، ربما أتخذها وجهة نظر تخصّني أيضاً ولا ألزم بها أحد، في الحرب. انتصار طرف ما على آخر، بدعة وكذبة سحيقة، في الحرب كلا الفريقين خاسر.

انتظار اشتعال شرارة الحرب هو من أصعب حالات الكتابة ومعاينتها سريرياً، يصير الكاتب العارف والمتمرّس الواقف أوّل سطر الكلام ـ وكي لا أبتعد بالتشبيه ـ مثل مراسل قناة «الجزيرة إبان سقوط بغداد، كان يتلقّف الحدث بروحه كلّما رصد دبابة أميركية تعبر أحد جسور المدينة أو يعاين عن كثب كيف ترمي طائرة الشبح قنابلها الفراغية من دون وازع، ومن دون أن يدشّ برأسه مثل العادة ترديدة: «على جسر المسيب سيبوني». حينذاك كنت أمايز بقسطاس الرائي من زاوية رؤيتي الضيقة، بين مراسل القناة أعلاه في بغداد وزميله الذي يبثّ رسائله من أمام حديقة البيت الأسود في واشنطن لحظة يومئ للمصوّر المرافق أن يدير عين العدسة من وراء القضبان الحديدية لترصد لمن تحترق قلوبهم على المدينة السمراء بغداد التي ألهبوا قلبها هي الأخرى بالنار فوق الحمراء، نحو سيدة العالم الأولى وهي تلاعب كلبها، وهنا أخلص ببيان السؤال؟ وهل يستوي أحدهما مع الآخر؟

مثلما أسلفت أولاً عن حالة الوضوح التامة في الميدان، لكن المتبدل الوحيد هذه المرة أنّ قواعد اللعبة تغيّرت، نعم. تغيرت وبشكل كلّي عما كان سابقاً، فالمواجهة الفعلية ليست هنا، بل في مكان تالٍ وغير معلوم. ضغطة زرّ واحدة قادرة على تغيير كل شيء، وكما قلت، وأجدني مصيباً بقولي، أن لا رابح ولا منتصر في أيّ حرب، ومن هذا الباب صارت كل الأطراف تعي أنها لم تعد قادرة على أيّ خسارة، لهذا دأب تجار الحرائق على تفعيل العقول الذكية أو البديلة. نعم. ضغطت زرّ واحدة ويزول كل شيء… كل شيء… صمت… دخان أبيض… رائحة تلهب بحريقها الأنوف.

بالمناسبة. المواجهة وقصص الانتصار بدعة وكذبة اختلقها الكبار كي يعبروا فوق أرواح الضعفاء أمثالي، من دون أن ترتجّ عروش قلوبهم قيد شعرة. قانونهم المعهود هي الحرب. وكفى. كنت مخطئاً تماماً بأن الحروب تقوم بفعل أهوج من أحد طرفيها، تواً وعيت واستفقت من غيبوبة هبلي وجهلي، بأن أيّ حرب قامت أو ستقوم أو… أو… مشغّلها هو طرف ثالث.

أجل، لا تستغربوا… طرف ثالث.

يعني من «الحمرنة» ـ وتلك المفردة نهلتها من الأحمر تحديداً كي لا تذهب مدارك الظنّ نحو النهيق في مَواطن تالية من الحكاية ـ بعد ثمانٍ عجاف ألّا نعي أنّ حرب البلاد وراء هوجها طرف ثالث. لعلّ البعض يتذمّر وهو يضع نظارة القراءة على أرنبة أنفه، يتوقف كأقل الأوزان في الحكايات، التوقف هنا غاية وليس سبباً، وهو ما نطلق عليه نحن دعاة السلمية المتحضرين بـ«وقفات الاحتجاج»، تلك الوقفات هي وقفات الحقّ الذي يراد بها باطل والضحك على الذقون المحلوقة من الحنق والجوع.

عين الكاميرا مثبتة وجهاً لوجه، عيناً بعين في فوهة النار، المصوّر أدرك بفطرته العادية أنه لم يعد خارج إطار المعركة، وعدم الانحياز بعد أن تضغط أصبع مجهولة زرّ النار كذبة، صنعها ركاب السياسة بعد أن أتتهم الأوامر من تجار الجنون، ليرشوا في عيون الثكلى ملح الأمل.

لم يكن ملحاً. الكلّ منشغلون في حساب الخسارات، بصراحة كانت ليلة لا يحمد ولا يحسد عليها أحد أياً كان من يكون.

العيون متعبة بفاعلية النظر إلى مفاز الضوء المتهدل من عين الكاميرا. بالمخيال الفني للكتابة تتراءى لي هالات دائرية تتّسع محاورها وتضيع من مكان إلى تالٍ كلما كان التركيز إلى منتصف الهدف وأسفله، وحدها النقطة صفر هي الحقيقة الواقعة، وباقي ما تبقى ليس أكثر من دوائر هلامية رسمت بعناية عارف على ورقة الدريئة. الكل مهتمّون فقط بالنقطة صفر، لا أدري لما لم نقتنع بأن النقطة صفر هي ما يسمّونه خبراء الحرب العتاة، «إشغال جوّ»، يعني بالمطلق المقروء تبديد وجهة نظر الخصم.

مما لا شك فيه بعد معاينتي، أن الليلة التي دكّت فيها النقطة صفر دكاً عنيفاً، أعنف ألف مرّة مما رمي على رؤوس أهل بغداد وغيرها من المدن النساء التي انتهكت ظلماً، كانت

«ليلة حمراء» بكل ما تحمله التسمية من مغزى ومعنى. كيف لم تصدقوا ما حصل، بعيداً عن سلطتي ككاتب.

تماماً كما قلت لكم في المطالع عن وضوح وجلاء كل شيء عن الطرف الثالث، عدم الانحياز، الوقفات الاحتجاجية، والدوائر في عين الكاميرا، وكذلك النقطة صفر.

في غمرة انشغال الجميع بمراقبة النقطة صفر، وبعدما عُبرت الدائرة الثالثة للسراب تأكدت تماماً بأن ما رأيته لم يكن حلم الدوائر كانت بحرة مشغولة بعناية فائقة بيد فنان عارف زرعها في سقف غرفة النوم العريضة، بدت متماوجة من بعيد تحت الظل الباهت للإضاءة الخفيفة التي تنبعث من ذوبان قلمين من الشمع يرتهجان بالتسول نحو فلوات الانطفاء قبل بلوغ رأس النشوة، بل ومن دون احتساب تفاصيل الوقت كما ذكرت.

بقي المكان بعمومه يغرق تحت سطوة عطر شاهق الحواس، أصابعه الحانية مثل أصابع «زمّار الحيّ» لا تموت بموته. الخسارة يمكن معاينتها عن كثب من دون ارتباك لأنّ كل شيء خاضع لسلطة العد والمعدود.

الطاولة التي كانت تعيش في عزلة المكان أمس فضحها نور الشمس الذي دلف عبر النافذة من غير استئذان، قدحين بائسين لم يكسر من شموخ وقفتهما عصف الليلة الفائتة، وحدها زجاجة «الويسكي» تلهث عطشها والفراغ معاً.

حول أسفل الهدف ومنتصفه ـ محور السرير ـ قميص نوم نبيذيّ متهدّل مثل قرص أفعى ناعمة الملمس متكوّرة قبل وصول الأرب، يشي رسمه بأنه أزيح من حول جسد ناعم مثلما يزيح الرؤساء أعلام أوطانهم عن نُصب تذكاريّ ـ تدخّل مايكل أنجلو بوضع لمساته الأخيرة قبل أن يبثّه الحياة ـ لإحدى آلهات عشقهم.

وحدها تفاصيل «الدانتيل» لم تكن كما العادة، للمرة الأولى وجدت من يروي حنقي على ذلك القماش الغالي، لم أستسغه يوماً على الرغم من ترديدي اسمه في جلّ قصائدي استنكاراً لأسره ظلماً وطغياناً لمنابع حليب روحي، كما ولاة أمورنا الذي يأسرون مناهل نفط خبزنا، عندما وجدت كل خيوط مكره مقطعة.

في البلاد التي صارت رصد الحرب، في كلّ ليلة باردة يفتعل أهلها ككناية للدفء ليلة حمراء على وزن معركة، لا غواية أو هوج اشتهاء، فقط تعاهدوا على أنهم سيكسرون أنف الحرب ويمرغونه بحبر لذّتهم شاء من شاء وأبى من أبى. وحدها الدوائر تدور فوق رؤوس من تركوا قمصان النبيذ ورهج «دانتيل» حبيباتهم عرضة لعابري السرير.

كاتب سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى