محنة العقل.. بين الوعي والهوية!

نظام مارديني

يصعب الحديث عن صورة المشهد الثقافي في منطقتنا، في إطار الغزو الفكري والطغيان الثقافي الغربي على ثقافات العالم، وتأثيره المطلق في فئات شعبنا. فالإشكالية التي تثيرها صورة الثقافة الغربية في مرآة الوجود لدى ما يُسمّى بشعوب العالم الثالث، تتمثل في إشكالية العلاقة المفهومية والواقعية بين هذه الثقافات «المنكسرة»، والثقافات الأخرى «المنتصرة». هذه الإشكالية المفهومية، أفرزت على صعيد واقع المنطقة منذ السيطرة العثمانية، عدداً من الاتجاهات الفكرية المتناقضة، مع اختلاف في الطريقة ودرجة التعامل التي تتراوح في تباعدها بين الرفض والقبول، أو المواجهة والحوار الحضاري.

هكذا يأتي المشهد الثقافي إلينا اليوم «ملتبساً» بمعنى أنه محكوم في بنيته، بما ينتجه الآخر من فكر ومن ريادة، ما يجعل حالة الالتباس لدى مثقفينا، تأخذ منحى السير في اتجاه إنتاج الآخر. الأمر الذي تسبّب بعدد من الإشكاليات التناقضية، التي ساهمت بدورها في إضعاف حركة الثقافة القومية والاجتماعية، ومحاصرتها.

هذه المواجهة المزدوجة، جعلت أبناء المنطقة يتعرّفون للمرّة الأولى إلى واقعهم من الداخل في صورته الخارجية، وبذلك يواجهون واقعهم كما هو، ويواجهون أسئلته الحضارية الكبرى التي يطرحها عليهم في خياراته: الهوية.

إن أشد ما صنعته غربة المجتمع عن نفسه، أنها صنعت ما يشبه القطيعة بين العقل والحياة، وساهمت في أفظع محاولة لمحو بدايات التفكير العلمي في الحياة المجتمعية، ومنذ دخل المجتمع في دوائر القرون «الساقطة» وهو يتخبّط في ظلام الجمود. وحين يعود واحد أو أكثر من أبناء هذا المجتمع ـ الأمة، إلى السياق الصحيح في البحث العلمي وسط ركام هائل من الخطابية الخرافية، ليجعل من كل ارتعاشة صادقة الاستنارة، أمينة الهدف، تعبيراً عن العصيان والخروج على مشيئة التخلّف، حين يعود هذا الواحد، وهو ما حدث ويحدث لها منذ بداية القرن، لا يلبث أن يغيب عن مسرح الحياة، بسبب من محنة العقل المجتمعي وانكفاء هذا العقل على هوامش الوعي الزائف والفراغ.

لم يكن عصر التنوير والنهضة الثقافية الملتزمة، وهو يحاول الإمساك بخيط التفكير العلمي، إلا خارجاً على النهج الذي أعاد المجتمع تدريجياً إلى عصر الخرافة بكل محرّماتها وأساطيرها. لذا لم يكن هذا العصر يحتكم في محاولته الهادفة إلى تغيير واقع المجتمع، حتى كاد صوته يذهب في زحمة الاختلاف المحموم حول الهوية لولا اليقين الساطع بأهمية ما يؤديه هذا العصر للثقافة المجتمعية الراهنة من إضافات، وما يبشّر به من تحوّلات جوهرية لصوغ الهوية.

وشغلت مسألة «الهوية القومية» لفترة طويلة القسم الأكبر من المثقفين في مرحلة ما بعد تكوين الكيان ـ الدولة، بعد الحرب العالمية الأولى، ذلك أنها ارتبطت بعدد كبير من المفهومات الخاطئة، التي ركزت على العناصر التي أسس عليها الغرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. إن السؤال الذي يمكن طرحه، الآن، وبالنسبة إلى أبناء سورية الطبيعية، لا يتعلق فقط بهويتهم القومية، بقدر ما يتعلّق بخطر محو هذه الهوية؟ التي ترجع في مكوّناتها الأولى إلى بدايات الوجود الإنساني، هذا الوجود الذي شكّل على الدوام الوعي الروحي والثقافي في مجتمعنا.

من الضروري أن نعرف، أنه إذا كانت الهوية، ليست شيئاً خارج الإنسان ـ المجتمع، فهي أيضاً ليست خارج الإنسان ـ الفرد، وإن كانت تصله الفرد بالمجموع، وتوحّد بين الرؤية الشخصية والجماعية في إطار التكوين الثقافي. ولا شك في وجود مجتمعات عانت محاولات الإلغاء، ومجتمعنا من المجتمعات التي عانت ولا تزال في الأساس تمزقات ثقافية وحضارية حادة تجاه مواكبة العصر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى